بوابة صوت بلادى بأمريكا

بهجت العبيدي يكتب : هولندا ملاذ فلاسفة عصر النهضة .. نظرة في الأدب الهولندي!

أؤمن إيمانا راسخا أن عناصر الحضارة عناصر متناغمة فلا يمكن أن تمتلك أمة من الأمم حضارة متقدمة مالم تتناسب وتتناسق المجالات المختلفة في هذه الحضارة تناسبا وتناسقا في تفاعل هرموني، ومن هنا أجد نفسي باحثا في كافة المجالات ومنها المجال الثقافي، الذي أزعم أنه الأكثر تأثيرا، لتلك الدول التي تتمتع برقي حضاري، ومن هنا يأتي بحثي عن الأدب الهولندي، خاصة وأن هولندا كانت ملاذ الأدباء والمفكرين في الفلاسفة في عصر النهضة الأوروبي، حيث كان هؤلاء أصحاب الرؤى الثورية التنويرية المختلفة على ذلك العصر مضطهدين في بلدانهم الأوروبية الأصلية.
وأنا أنظر في الأدب الهولندي – في محاولة مني للتعرف على ما أنتج أبناء الأراضي المنخفضة - توقفت عند الأديب الشهير هاري كورت فيكتور موليش، والذي له في رصيده أكثر من 80 كتاب بين رواية، وشعر، ومسرحيات، ومقالات وتأملات فلسفية، والذي ترجمت أعماله الى أكثر من 30 لغة.
وهذا الكاتب الهولندي الكبير هو واحد من أهم ثلاثة كتّاب في تاريخ الأدب الهولندي الحديث، مع كل من فردريك هيرمانسوخيرارد ريفه، الذي تحولت روايته "الهجوم" إلى فيلم سينمائي في عام 1986، وحصل الفيلم على جائزة الغولدن غلوب والأوسكار.
إن أهم عمل للأديب الهولندي هاري موليش هي رواية " اكتشاف السماء " والتي ظهرت عام 1992تلك الرواية التي اعتبرها النقاد "أفضل رواية هولندية على الأطلاق، " شمل الكتاب على عدة مواضيع منها الدين والسياسة، والشيوعية وغيرها، ولقد رشَّحتْ هذه الرواية صاحبها لنيل جائزة نوبل في الآداب تلك الجائزة التي لم ينلها الأدب الهولندي حتى اللحظة، على الرغم من كونه أدب ممتد في التاريخ، حيث يعدّ هندريك فان ڤيلديكِهHendric van Veldeke أول الشعراء الذين كتبوا بإحدى اللهجات الهولندية عندما سادت ملاحم البطولة والفروسية وتداولت سير حياةشارلمان أو الملك آرثر، فترجمَ بتصرف «إنيادة» ڤرجيلEneit وذلك في عام 1185.
 
لم يستمر هذا الأسلوب في الكتابة بل كانت هناك ردة عن هذا الأسلوب الذي ساد القرن الثاني عشر، في الكتابة في القرن الذي تلاه وظهر هذا الارتداد في كتابات ياكوبڤانمرلانتJacob van Maerlant على الرغم من بقاء آثار الملحمة الأسطورية في «كارل وإلجاست» KarelendeElegast مجهولة المؤلف (القرن الثاني أو الثالث عشر) عن مغامرات شارلمان، واقتباسات الحكاية الخرافية على لسان الحيوان، مثل تلك عن «راينرده الثعلب» Van den vosReinaerde ( نحو 1240).
ونشط المسرح الهولندي مع نهاية القرن الخامس عشر، وقدمت مسرحيات المعجزات والأسرار مثل «ماري من نيوميجن» Mariken van Nieumeghen و «إلكرليك» Elckerlyijc التي صارت نموذجًا لمسرحية «كل إنسان» Everyman الإنجليزية.
هناك تأثير متبادل بين الكتابات الأدبية المبكرة باللغة الهولندية وبين الكتابات باللغات الأخرى في المنطقة، ولاسيما الألمانية التي حصل كتابها على تسع جوائز نوبل في الأدب: ثماني جوائز لكتّاب ألمانيا وواحدة للكاتبة النمساوية إلفريدييلينيك والتي تعيش في نفس المقاطعة التي أقيمُ بها منذ نيف وعشرين عاما – مقاطعة شتايرمارك وبالتحديد في مدينة مورتسْشلاج التي تبعد عن المدينة التي أقيم بها – مدينة ليوبن - بضع وخمسين كيلو متر والتي حصلت عليها في سنة 2004 «لأن جريان موسيقاها يتوالف من تيار الأصوات الموسيقية والأصوات المضادة في رواياتها وأعمالها الدرامية مع الحماس اللغوي غير المألوف الذي يميز نتاجها الأدبي، الذي يكشف اللامعقول في الكليشيهات الاجتماعية وقوتها المستعبدة» كما عللت الأكاديمية السويدية، تتحدث روايتها عن المرأة ووضعيتها في المجتمع النمساوي وتوصف ككاتبة مدافعة عن حرية المرأة.
وهناك كثير مشترك بين الأدب الهولندي والأدب الألماني كما في ترجمة بعض المزامير التي عرفت باسم «مزامير ڤاختندونك»Wachtendonk Psalms من القرن التاسع الميلادي. 
أصيب الأدب الهولندي في منتصف القرن التاسع عشر بالجمود كما يحدث بين الحقبة والأخرى لكافة الآداب، هذا الجمود تصدى له ڤيلم كلوس Willem Kloos ت(1857-1938) ثائرًا على التقاليد البالية، وقاد حركة إصلاح في الأدب الهولندي، وأسس دورية «الدليل الجديد» De NiuaweGids في عام 1884، بيد أن أهم ما فعله كان نشره قصائد الشاعر الشاب جاك بيرك Jacques Perk ت(1860-1881) في ديوان «ماتيلده» Mathilde بعد وفاة هذا الأخير المبكرة، فحركت عواطف الناس بموسيقاها العذبة. وتحلق حول كلوس وحول روح الشاعر بيرك الشباب الطليعيون – آنذاك - الراغبون في التغيير.
وفي العصر الحديث – بعد رحيل موليش نعت بعض النقاد الأدب الهولندي بالسطحي، وأنه عديم التأثير، متهمين الكتاب المعاصرين بأنهم لا يغوصون في عمق النفس البشرية – وهو نفس رأينا فيما يمر به الأدب العربي المعاصر - للحصول على أدب جدير بأن يخلد على مر التاريخ، وكان أكثر من توجه بالنقد اللاذع للأدباء الهولنديين المعاصرين هو الناقد الهولندي المعروف بيتر دريهمانس حيث خرج في واحدة من أشهر الصحف الهولندية، مطلقا النار على الأدب الهولندي ما بعد السبعينات واصفا إياه بـ"السطحي"، و"عديم الخطورة"، ناعتا فترة الستينات – وهي نفس الفترة التي شهدت تفوق الأدب العربي - بـ"الفترة الذهبية لما قبل تاريخ الأدب الهولندي الحديث".
ووصف كاتب المقال هذه الفترة بأنها تميزت بهيمنة الأدب وبدوره المهم، وقال "الآن يظهر كتاّب صغار غير خطرين على الإطلاق". واصفا الكتّاب المحدثين بأنهم حوّلوا الأدب إلى عمل نجومي شعبوي، ويظهرون في البرامج وعلى مواقع التواصل الاجتماعي أكثر مما يكتبون. ورغم أن المقال قوبل بالكثير من النقد والاحتجاج، إلا أن كثيرين اعترفوا أن العقود الثلاثة الأخيرة لم تشهد ظهور كتَّاب في مستوى هاري موليش، صاحب رواية "اكتشاف السماء" التي اختيرت كأفضل عمل أدبي في تاريخ اللغة الهولندية.

أخبار متعلقة :