في حياة الدول التي تشرع في تنفيذ خطط إعادة البناء بشكل عام ، وبناء الإنسان بشكل خاص ، تتوجه أنظار الناس والمجتمع بشغف نحو مواطنهم المثقف والرمز ، وتشرئب الأعناق بأمل حالم لمن يثقون به من الرموز الثقافية الواعية ، وهذه مسؤولية كبرى وفرصة عظيمة لمن يحسن توظيفها من المثقفين والمؤثرين ، وأن يقف المثقف بلا حياد مع وطنه ومجتمعه في كل مراحل تأسيس وإعادة البناء ، فمساندته لتلك الجهود بوطنية وولاء يعني ممارسته دورًا توعويًا يسهم في توضيح حقيقة ملابسات تلك المرحلة ، وما يمكن أن يترتب عليها وكيفية الاستعداد لها ، ومواجهتها أو التأقلم معها لوجود بذور النجاح ، ولا يجدر بالمثقف أن يتخذ دورًا حياديًا في مواجهة التحديات الخارجية والداخلية ، وبشكل خاص عندما يكون التحدي متمثلًا في مواجهة من باتوا يستهدفون الوطن ، ولا يعني ذلك ذهابه إلى الانخراط العبيط في الحملات الاستهلاكية الاستعراضية الذي يجهل مدبرها والداعي إليها بخطورة ضياع الوقت ، وما تدعمه تلك الحملات من رسائل سلبية بشكل خطير ودون وعي لإذكاء روح الخلاف بين التيارات المختلفة ، فضلًا عن التسبب في زيادة الاحتقان المجتمعي والتأليب ضد فكرة التعدد والتنوع الفكري المتفاعل في قبول ورضا من الجميع ، بل عليه أن يحمل مشعل التنوير ويحسن إدارة ذاته أولًا ليسهم في إخراج المجتمع من عتمة نفق التغييب عن الحضور في ضياء دنيا ونعيم من سبقونا للتحرر من أغلال التبلد والفكر الرجعي بوصايا حملت أختام القداسة الكاذبة ، وهو أكثر وعيًا بالمرحلة التي يعيشها مواطنيه ، وأكثر قدرة على تحويل التحديات السلبية إلى فرص ..
ورغم أن المثقف الحقيقي يدرك أن اختياراته الأخلاقية خلال الأزمات قد تعرضه للأذى من مخالفيه الذين يجنحون للمواجهات غير النزيهة ، لكنه الثمن الذي يدفعه المثقف وصاحب الدور التنويري والإصلاحي في أي مجتمع خلال رحلة النمو والتغيير ، وعلى المثقف أن يتذكر رسالته الأسمى في مجتمعه ، ويكفيه شرفاً أن يقود عجلة الوعي التي إذا بدأت لن تتوقف بإذن الله عن الدوران ..
أعتقد أن دور المثقف ـ خارج أطر المناسبات والمواسم السياسية والاجتماعية التي تزخر بها دهاليز ودروب السياسة الانتهازية المتقلبة كأجواء الخماسين التي كثيرًا ما تحجب الرؤية بزعابيب أمشير المجنونة ..
إن المثقف المبدع " لديه رسالة ، وعليه دور إنساني وفكري ومجتمعي ، والمفروض أنه يمتلك رؤية ومنهما يمكن أن ينطلق بمشاريع إبداعه لخدمة ناسه وأهله ، مستشرفاً المستقبل ، طامحاً إلى أن تعكس إنجازاته الإبداعية كشف حقيقة وشكل الواقع ، ومشكلاته وأسبابها ، ناظرًا إلى الأمام ، مبشرًا بحلم الإنسان في العدل والسعادة وامتلاك حقوق " المواطنة الكاملة " .. وأرى أن عليه الذهاب إلى توجهات في سياق :
• نبذ وتحقير من يدعمون شيوع الروح الانهزامية الكسولة ، و حالة فقدان الثقة التي تعاني منها الجماهير في مراحل الانكسار والتردي الحضاري ..
• لابد من تفهم أن التعامل مع الأمور السياسية لابد أن يكون بوعي وحصافة أصحاب الخبرات الميدانية ، فكل أمورنا باتت تمر من أبواب ومنعطفات السياسة ، فلابد من الجاهزية الفاعلة للتفاوض مع كل الأطراف. .
• الدفع في اتجاه تعبئة الجمع الوطني ضد محاولات الفرقة والتفرقة والتنابذ والخلاف ، سواء من الداخل أو الخارج. ، وجذب النخب المثقفة للتفاعل الإيجابي مع متطلبات المرحلة من عقد اتفاقات مرحلية يمكن البناء عليها عبر إعادة قنوات الحوار الموضوعية بين فئاتها المختلفة : قومية وإسلامية وعلمانية وغير ذلك ..
• تفعيل قنوات الاتصال المباشر والتواصل الفكري بين مثقفي كل القوى المحيطة ، واستثمار فكر مثقفي أبناء الوطن في الخارج على اختلاف توجهاتهم الأيدلوجية وتخصصاتهم العلمية والفنية ..
• المواجهة الحازمة لكل من يعملون بشكل مؤامراتي أو نفعي فردي في اتجاه إضعاف وإهدار العقل المصري الوطني بدءًا من الأمية وانتهاء بنزيف الأدمغة المتميزة ، وما بينهما من فكر الخرافة والدجل باسم وتحت مظلة علمية وهمية ، والانتهازية الفكرية والتجريم المستحق لمرتكبي السرقات العلمية ومن يدفعون في اتجاه الاستبعاد والتجهيل بالمعارف والعلوم الحديثة ، و كل من يهدر تفعيل وتنمية إنتاجنا التعليمي والبحثي الجاد والحقيقي . .
• التمسك بالحق في توجيه سياسات مؤسسات التنشئة والتعليم والثقافة والإعلام ومواصلة عمليات رصد أدائها ، ومدى تحقيق أهدافها المرحلية والعامة ..
• مواجهة من يفتعلون وينمون حالة الخصام بين الدين والعلم ، والإساءة إلى عقائد ومذاهب الأديان ، فمفهوم عالمية دين أو عفيدة على أنها تعني الاستغناء عن فكر الآخرين هو خطأ استثمره أهل التشدد والإرهاب ، فالمقصود بالعالمية في رأي أهلها هو استيعاب فكر الآخر لا تجاهله أو تجهيله ..
ويبقى السؤال : هل ستعيد تكنولوجيا المعلومات للمثقف دوره التاريخي في أزمنة فخاره ؟
حتى لا يبقى المثقف مناضلًا بأسلحته الوهمية الورقية ، يهدر أحبارًا وألوانًا وأنغامًا تظل حبيسة مسطحات الأوراق واللوحات والشرائط الفيلمية والشرائح الالكترونية ..
لقد اختلفت قوانين الممارسات في الساحات الثقافية ، بعد أن صار الأداء الكلي للمجتمع هو محصلة الخطابات التي تسري بداخله : الخطاب السياسي والاقتصادي والديني والإعلامي والتربوي والعلمي والتكنولوجي..
ولابد أن نسأل عن أساس شكل العلاقة بين المثقف وتكنولوجيا المعلومات وكل أدوات وتفنيات العصر ، ووسيلتنا للوصول إلى هذا الأساس هو : إقرارنا بأن مهمة المثقف الحقيقية تكمن في تطبيق الفكر على الواقع من حوله ، واقتراح تكتيكات عملية تعين جماهيره على التعامل مع تناقضات هذا الواقع ، من أجل تحسينه أو تغييره ، ولا شك في أن الاستزادة من الاستفادة بمخرجات التقنية العص-رية والحلول العلمية الإبداعية يمكنها أن تكون خير عون للمثقف للإحاطة بواقعه ، واستخدام بدائل عديدة لابتكار تكتيكات جديدة للتحرك صوب العيش في المستقبل ..
أخبار متعلقة :