أخذت عيني من شاشة التلفاز وألقيتها في صدر جريدة ملقاة علي المكتب , لحظات قليلة هذه التي أعيشها وقد أحكمت قبضتها علي حديقتي , جففت أوراقها الخضراء وطاردت فرشاتها بعيداً وأنهَكت طيورها فِراراً من الموت , أجلس هنا بمفردي منذ أكثر من ثلاثة أسابيع , تعثّرت قدمي في أحد درجات السّلّم وسقطت علي الأرض وكُسِر ساقي , كنت أقفز علي السلالم وكأنّي طفل صغير , إنّه أول يوم أتأخّر فيه عن موعد عملي , عشرون عاماً يشعر باب الشّقّة بلمسات أصابعي في السابعة ونصف يوميّا , درجات السّلّم تُراهن علي أنّها تحفظ صوت خطواتي , وتميّزه عن كل سكان العمارة , أوّل توقيع في الدفتر وآخر توقيع للإنصراف , قهوة الصبّاح تعانق شفتي كعاشق , ظل علي عهده بها سنوات طويلة , ثلاثة أسابيع , أتنقّل كسلحفاة , أتّكئ كعجوز علي عصا لم تفارقني , نظرات حانية تسكب الدماء في أوردتي , حقّاً إنّها ونِعْم الزوجة المخلصة , لم تتركني ساعة , لم تدع لمخيّلتي البحث عن وطن آخر , لم تخرج من فمها كلمة واحده تشعرني بضيق , دائماً ما كانت تقول : ( أنت عمود البيت ولا قيمة لنا بدونك ) , إنّها بارعة في مشاعرها فهي لم تُجْهد نفسها لتقول كلمة جميله , فقط كانت كلماتها دائماً جميله وتبعث بالأمل وتُعيد للحياة ربيعها , تصفّحت معظم أوراق الجريدة واحدة تلو الأخرى , وكدت أن أطويها وألقيها من يدي , فهذه أخبار سياسية وأنا لا أشعر براحة عند قراءتها ولا أعرف السبب , ولكن يبدو أنني السبب في ذلك , فأنا أميل كثيراً إلي العزلة والعلاقات التي لا تجمعها مصالح والحديث بأسلوب لا تغلّفه العبارات ذو البريق الخادع , صفحات الأخبار الرياضية والفنية أيضاً لا أجدني مهتماً بالبحث عنها , أحب قراءة الأبراج , أخبار وهميّه ولكنّي أفسّر مابين سطورها لإسعاد نفسي , وأستعد لاستقبالها علي المدى القريب , حاولت جاهداً السيطرة علي رغبتي في الحركة ولكنّي فشلت , تحاملت علي نفسي حتى فتحت النافذة المطلّة علي الشارع الرئيسي , لقد تغيّر وجه الحياة كثيراً أو لعلّني أحسست بذلك , كل شئ هناك جميل بعيداً عن عُزلتي (طيور السماء , أطفال في عمر الزهور , أغنيات تحمل رائحة الأمل ) , حتى ظروف الحياة القاسية إلي جوار القيد تصبح لاشئ , فقط الحريّة هي من تسطّر التاريخ نحو حياة أفضل , عاودت تكرار تصفّح أوراق الجريدة مرّة أخري , هناك خبر يتحدّث عن موت رجل كان يقرأ في الجريدة , ضحكت كثيراً كأنّي لم أضحك من قبل أو كأنّي اكتشفت أنه يمكنني الضحك دون مجهود شاق , طويت الجريدة ووضعتها بجواري ورحت في نوم عميق .
أخبار متعلقة :