تراثنا فى أمثالنا. هى الحكمة التى تحفظ لنا ماسجله لنا آباؤنا وأمهاتنا. هى عناويين الصراط المستقيم الذى لاعوج فيه. هى الألغاز التى لاتحتاج إلى فك طلاسمها مثلما فعل العالم الفرنسى شامبليون الذى أخرج اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية) من سباتها التي ظلت تغط فيه سبعة آلاف سنة حتى جاءنا الفرج والفرح من الخارج.
تراثنا هو الشعر والنثر والصوت الرصين لطه حسين الأعمى الذى حمد الله على عدم النظر فى وجوه المنافقين والجهلة، وهى صوت البابا شنودة، ذلك الصرح الذى ينبغى أن يقام له تماثيل مثلما
اقمنا لطلعت حرب وأم كلثوم ومصطفى كامل. لماذا؟ دينه له، فالعقيدة فى القلب وليست على لافته فى طريق عمومى، هو الذى قال لنا: "مصر ليس بلد نعيش فيه ولكنه يعيش فينا" ياللعمق، وياللمواطنة والروعة والبلاغة وعمق الاحساس بمصر. عليك الرحمة ياشنودة، لست فى حاجة الى تمثال، ولكننا فى حاجة الى تمثال لك ليذكرنا بفضل علمك علينا.
يشرفنى أن أحرر هذا المقال لصوت بلادى لأحيي شقيق الروح ورئيس تحريرها محب غبور الذى جعل من قبطيته نبراساً لكل مصرى، مسلماً كان أو مسيحيا. إنه يضرب لنا المثل على الارتقاء بالذات، من مهندس كيمائي الى رئيس تحرير جريدة "صوت بلادى" التى تستحق الدعم الحكومى المصرى، لأنها منبر من لامنبر له.
وعودة الى الأمثال العربية وأولها: "استراح من لاعقل له". هذا مثل يؤكده سيد الشعراء أبو الطيب المتنبى حين قال:
ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله
وأبو الجهالة فى الشقاوة ينعم.
هذا خير شرح للتناقض فى الخلق العربى الذى مازال يسمع صوت الديك عاليا، ولكنه لايسمع عصافير الربيع المغردة لأنها لاتصيح. ويقول المثل العربي: "كل ديك يصيح فوق دفته (أى مزبلته) المثل يتميز بالإيجاز، إذ لايحتاج إلى تطويل وإطالة وإضافة.
وفى ذلك الايجاز يسطع نور حكمة أبى بكر الصديق، أول الخلفاء الراشدين، وممول الدعوة الاسلامية التى جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم.
ماذا قال عبد الله أبو بكر الصديق الذى ولد عام 573 وتوفى عام 634 من السنة الميلادية؟. قال: "إن وعظت فأوجز، فإن الكثير من الكلام ينسى بعضه بعضا". هذا هو والد عائشة أحب زوجات الرسول إلى قلبه. حارب أهل الردة وهزم مسيلمة الكذاب، وتوفى فى المدينة المنورة.
وأمامنا نحن تلاميذ التراث أيضا نعمان بن ثابت أبو حنيفة. توفى عام 767 ميلادية. وهو أمام المذهب الحنفى، وأحد الأئمة الأربعة المجتهدين عند السنة. ولد بالكوفة ودرس فيها وأفتى، وحينما استدعاه المنصور لتولى القضاء فى بغداد رفض لعدم إيمانه بصلاح المنصور للحكم. ماذا كان جزاء التزامه بالحق والعدالة؟ الحبس حتى الموت.
هذا جزاء الذى ألف "الصة الأكبر" و"مسند أبى حنيفة". وهو أول من فصل الشريعة الاسلامية إلى أبواب وأقسام. وهو صاحب الاجتهاد فى القصة والفرائض بالقياس والرأى ونشر مذهبه فى المئات من المؤلفات.
وإن ذكرنا فقد طه حسين لبصره منذ الخامسة من العمر، فعلينا أن نذكر أيضاً أبو العلاء المعرى المولود عام 973 والمتوفى عام 1057.
كان مولده فى معرة النعمان بالشام. فقد بصره فى الرابعة من عمره ودرس فى حلب وأنطاكية وطرابلس. عاش فى المعرة معتزلاً الناس وزاهدا. كان رقيق العاطفة، ثاقب العقل، لاذع الانتقاد، متبرماً بالناس والدنيا وكثير التشاؤم. ولكن تراثه الذى تركه لنا ربطه بتاريخنا العريق وخاصة مجموعة قصائده و"رسالة الغفران" و "اللزوميات" فى الفلسفة العلائية.
وأمامنا ايضاً إيليا ابو ماضى الذى ولد عام 1889 وتوفى عام 1957. ولد فى المحيدثة بسوريا الكبرى وتوفى فى نيويورك. وهو شاعر عربى لبنانى عريق من ادباء المهجر. حرر "مرآب الغرب" التى دام عمرها من عام 1917 حتى عام 1926.
ومن إصدارته "السماء" عريق فى المسيحية، ونبراس فى الأدب العالمى.
كل هذه المقدمات تسوقنا الى مزيد من التعرف على أصولنا الأدبية واللغوية والفلسفة التى نحتاج دائماً الى ذكرها والتذكير بها فى دنيا المهجر التى تجتاحه دوما ودائماً رياح النسيان والخمول. وصدق من أمثالنا من قال: "حينما تكون الجهالة نعيماً .. فمن الحماقة أن تكون حكيماً". المعنى من هذا مايعادل "خاطبوا الناس على قدر عقولهم". متطابقة مع ما ورود في القرآن الكريم مخاطبا محمد صلى الله عليه وسلم " ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ".
هذا يقاس أيضاً بما تضمنه قول أبو الطيب المتنبى: "ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله .. وأبو الجهالة فى الشقاوة بنعم". ونجد نفس الأصداء فيما قاله البحترى:
أرى العقل بؤساً فى المعيشة للفتى
ولاعيش إلا ماحباك به الجهل
ولذا يتندر المصريون بالقول مازحين: "العلم نور والجهل آنور".
ويقولون هذا ضاحكين معتزين بالثقافة الشعبية وأطنان الحكم والأمثال التى خلفها لنا الراعاة الأكابر مثل نجيب محفوظ فى رواياته التى حازت على جائزة نوبل العالمية. وطعنه أحد الجهلاء بالسكين بالقرب من خان الخليلى.
ويمضى ركب الأمثال العربية فى مسيرته ذات الوحى العميق لتقول: "الدنيا إن أقبلت، باض الحمام على الوتد، وإن أدبرت، بال الحمار على الأسد". وما أكثر الحمير فى كل دول العالم. ولكن أدباءنا لا يتركون المجال للصوص الثقافة وسارقى الاثار. فيقول أمير الشعراء أحمد شوقى داعيا الى تعليم المرأة:
"وإذا النساء نشأن فى أمية.. رضع الرجال جهالة وخمولاً" لذا سيظل اسم قاسم أمين واسم هدى شعراوى يلمعان فى سماء الثقافة العربية رافعي فنار الضوء ليهدى السفن الى احواض السلامة مثلما يفعل فنار الاسكندرية. وليس بالغريب أن استخدمت دار المعارف المصرية ذلك الفنار رمزاً على حيوية اجلاء الثقافة والعلم.
ومن منا يذكر فضل الخديوي اسماعيل على العالم الاسلامى الذى تمثل فى تعليم المرأة إذ شيد عام 1860 أول مدرسة للبنات فى العالم الاسلامى.
وإن دخلت حرم جامعة القاهرة التى مازلت أتشرف بكونى أستاذاً غير متفرغ بها حتى الآن، وجدت على يمينك مبناً فاخراً تحتله كلية الآداب. وعلى يسارك مبنى مقابلاً له تحتله كلية الحقوق. المبنيان من منح الأسرة المالكة فى مصر أسرة محمد على الكبير الذى جاء من البانيا وهو تاجر دخان ليبنى صرح مصر الحديثة، ويؤسس لامبراطورية مصرية شملت المناطق من البحر الأبيض المتوسط شمالاً إلى جوبا بالسودان الجنوبى. وكأنه تنبأ بما هو يدون الآن على واجهة مدخل مطار القاهرة الدولى: "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين" (سورة يوسف/ 99) وكذلك "اهبطوا مصراً فإن لكم ماسألتم" (البقرة/ 61). كان هذا جزءاً من الحوار الربانى بين موسى واليهود الذين أخرجهم فرعون من مصر لثورتهم على ملة الفراعنة وإمتناعهم عن الإسهام فى مصر فى تلك الفترة، حين خرجوا من مصر ذات الخير العميم، وتوجهوا شرق السويس، صدمتهم قلة الخيرات فى خارج مصر بلد الخير.
جاء فى القرآن: "وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد" (الرغيف الخفيف الذى يسمونه الآن "المزة" فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها (الفول) وعدسها وبصلها، قال أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير؟ إهبطوا مصراً فإن لكم ماسألتم".
مصر هى بلد الخير وبلد العطاء وبلد التاريخ وأم الدنيا. من قمة الأهرامات الى سفوح الحقول حيث يرتفع النخيل وكأنه المسلات الربانية التى تعطى من يطلها كل شئ: البلح والخشب والسعف والزينة.
نحن ورقة النخيل، وحماته، والفائزون بعطائه. وكذلك ننعم بالأمثال روحيا وبالنخيل زينة ورزقاً كريماً.
"اهبطوا مصراً فإن لكم ماسألتم".
وصدق أبو تمام حين قال:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل فى الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل.
,اول منزل لنا، جالية المهجر، هو مصر. ولذا كان محب غبور موفقاً فى تسمية جريدته "صوت بلادى" فهو مجاهد من أجل إسماع ذلك الصوت حتى ولو تأخر المعلنون عن الوفاء بدفع ثمن الإعلانات. ولكنه حينما يؤدى ذلك إلى خسارة مادية لمحب غبور، فهو لايكل ولايمل عن وضع يديه فى جيوبه ليوفر لنا غذاءاً روحياً نسمع من خلاله صوت مصر وكأنه كما قال الأبنودى عن القاهرة "وكأنها بنت جميلة بتنادى عليك!!".
لبيك يامصر، لبيك. قلوبنا نحن دائماً وأبداً إليك.
انت المحروسة ,انت العروسة، ومن يعاديك. فدماغه وكيانه وأمه مهروسة
وأختم هنا بما قاله أحمد شوقى عن حب مصر، وحب الوطن من الإيمان:
"وطنى لو شغلت بالخلد عنه.. نازعتنى إليه فى الخلد نفسى".
ونسمع أيضا صوت جندى جريح على وشك الموت من جراحه خلال حرب التحرير لاستعادة سيناء من براثين العدوان الصهيوني. لفظ أنفاسه الطاهرة الأخيرة بقوله: "علشانك يامصر".