الليلة هي ليلة الكريسماس، جموع غفيرة وكتل بشرية تملأ الشوارع وأمام المحال، تجري هنا وهناك للحاق بالمتاجر لشراء ما يحتاجونه من هدايا عيد الميلاد، وبينما نحن جلوس في منزل شاب يعد أقدم منا في أمريكا " احترام الأقدمية " وبالمناسبة كان من عادتنا أن القادم من مصر حديثًا يسأل وينصت إلى نصائح السابقين أو المهاجرين القدامى ويأخذ برأيهم إن أراد.
كنا في حالة استرخاء .. فكم كان انتظارنا إلى هذا اليوم! لننال قسطًا من الراحة، تناولنا وجبة سريعة وشربنا قهوتنا الساخنة، وقبل منتصف الليل بقليل، لا أتذكر كيف بدأ الحديث ولماذا قادنا إلى النهوض فجأة والقيام برحلة الآن.
سألنا أنفسنا.. إِننا في منتصف الليل تقريبًا "هل تقول الآن؟"
الرد على سؤالنا لأنفسنا .. " نعم الآن" ، ونضحك عقب هذا السؤال، ثم جاء السؤال منا وإلينا مرة أخرى " إلى أين سنذهب وكيف؟" السيارة مركونة أسفل العمارة – مصرح بهذا في أيام الأعياد. قلت:
- السيارة تقريبًا بلا فرامل ومنتظر مرور أيام العيد و رأس السنة لتغيير الفرامل.
هب أحدنا واقفًا وقال:
- دعونا ننطلق برحلة.
قاد تفكير صديقنا القديم وأولنا وصولا لأمريكا إلى القيام برحلة لواشنطن العاصمة . نعم!
سألت متعجبًا:
5- 4 ساعات نقود سيارة بلا فرامل وبعد منتصف الليل. أجننت؟
جاء الرد بضحكات " يلا بينا حلاوتها في جنانها".
قرار سريع بلا أدني تفكير .. وضع كل منا سترته الشتوية على كتفه وغادرنا المنزل
وسط مانهاتن نيويورك .
ما هي إِلا دقائق وكنا داخل السيارة التي بلا فرامل تقريبًا، ومع أول ناصية في الطريق الطويل بدأ الشعور بالتوتر الممزوج بأسئلة وقلق وخوف . السائق كان أقدمنا . الإجابة " ولا يهمك خليها على الله ".. أمامنا قرابة 400 ميل في طريق هادئ جدًا خالٍ من السيارات ماعدا هؤلاء السائقين السكاري العائدين من البارات والحفلات الراقصة، بالطبع ما أخطرهم! بدأنا نشعر بقشعريرة رغم دفء السيارة بالداخل . خوف ممزوج بعصبية وقلق مدفون في أعماقنا مما أزاد الرعشة في أبداننا والعجيب أن الكل يضحك.
التزمنا الحارة التي في أقصى اليمين بأقل سرعة ممكنة تحسبًا لأية مفاجآت على الطريق السريع، بين الحين والآخر يغفو أحدنا ويستيقظ فجأة على ذلك الصوت الشبيه بعِرسَة أو جرو صغير موجود أسفل عجلات السيارة ثم نستسلم للنعاس غير الهادئ مرة أخرى.
وقفنا مرة أو أكثر للتزود بالقهوة ووقود للسيارة ومع بزوغ نور الشمس كنا أمام البيت الأبيض..
نريد فطورًا فنحن نشرب طيلة الطريق منبهات فقط ولم نأكل إِلا شطائر سريعة وسكريات( دونات ودانيش ) لا تغني ولا تشبع.
نلف بالسيارة حول المدينة من شارع إلى ميدان إلى حارة أملاً في العثور على أي مطعم . باءت المحاولات كلها بالفشل، فالشوارع والحارات كلها ملتحفة بالصمت ولا نرى سيارة ولا مطعم ولا حتي كوفي شوب في المنطقة أو الشوارع المحيطة بالبيت الأبيض التي عادة ما تكون مزدحمة بآلاف الزائرين والسياح والسكان. حتى الحدائق الأمامية للبيت الأبيض والتي لا تخلو أبدًا من المتسكعين والمتشردين وبعض المعترضين والمعتصمين والمتظاهرين خلت اليوم تمامًا من البشر وكأن الأرض قد انشقت وابتلعتهم جميعًا، دورة أو أكثر يمينًا ويسارًا ومازلنا نبحث عن أي طعام في محيط أكبر مكان سياحي في أمريكا وازددنا جوعًا، نريد طعامًا ساخنًا وقهوة، باءت كل المحاولات بالفشل .
صاح أحدنا لصديقنا السائق:
- هدئ السرعة. هل رأيت تلك الفتاة الواقفة هناك؟
- نعم . ما هذا وماذا تفعل ؟ إنها بمفردها رافعة يافطة بيضاء كبيرة .
- نعم أراها. رد أحدنا .. ماذا تفعل بمفردها أمام سور البيت الأبيض؟
- إنها ترفع لافتة لأعلى لعل أحدًا يراها ويقرأها..
اتجهنا واقتربنا بالسيارة إلى أن وصلنا بجوارها .. فتاة أمريكية بيضاء بارعة الجمال . ترتدي ملابس شتوية ثقيلة وعلى رأسها غطاء صوفي مشغول بالتريكو بخيوط أنثوية ملونة هادئة، الغطاء يغطي شعرها وأذنيها وكوفية تغطي أنفها ورقبتها وتتدلى على صدرها لتغطي معطف طويل وبنطال جينز ثقيل وحذاء للركبة ، وما أن رأت سيارتنا حتى وقفت أمامنا ثم رفعت اللافتة على بعد خطوات منا كما لو كانت في انتظار أي من البشر ليسمع ويقرأ مطالبها .
لافتة بيضاء كبيرة على الورق المقوى، مكتوب عليها بالخط الجميل كلمتان فقط .
نعم . جميلة تقف منذ الساعات الأولى في صباح يوم عيد لتحمل هذه اللافتة وتطالب بكلمتين اثنتين .. كلمتان مكتوبتان باللون الأحمر وكل حرف من الحروف تسيل أسفله بقع وخيوط حمراء من نفس اللون .. والخلفية كلها بقع حمراء مختلفة الدرجات.
- صباح الخير
خفضت يديها وردت كما لو كانت تريد أن تستريح قليلا و بابتسامة أنثوية جميلة أجابتنا:
- صباح النور.
سألنا الجميلة سؤال مشروع في مثل هذه الحالة:
- لماذا أنتِ هاهنا ؟ وما قصة هذه اللافتة ؟
- أنا هنا منذ بداية الحرب، "حرب الخليج الأولى" وخطيبي هناك يُحارب وأنا ضد الحرب. نعم. أنا ضد الحروب . هذا مبدأي لن أتراجع عنه وهذه اللافتة تُعبر عن مشاعري، أنا لا أُريد ان تكون بلادي سببًا أو شريكًا في قتل الأبرياء، ثانيًا.. ومن هنا أنا أطالب بعودة كل القوات الأمريكية وكل الجنود ومعهم خطيبي المُجند هناك. أريد عودة كل الشباب وهو معهم . من هنا أنا أُعلن للعالم كله بأنني أحب هذا الشاب الذي يُحارب هناك مجبرًا وأنا سأستمر منتظرة هنا إلى أن يعود مع رفاقه، وليس لي أية وسيلة لأعبر عن رأيي إِلا هاتين الكلمتين " أوقفوا الحروب" ... قصدت " أوقفوا الموت".
سلمنا عليها ودعونا لها بالتوفيق وتمنينا لو كان في استطاعتنا أن نقدم لها ولو كوبًا من القهوة الساخنة في هذا الجو القارس البرودة.
شكرتنا على جميل عباراتنا وقالت:
- هذا يكفي أن شباب مثلكم وقفوا ليستمعوا إلى رأيي واعتراضي على الحرب". وبابتسامات انطلقنا بسيارتنا بعيدًا.
فقدنا الأمل في وجبة إفطار ولم نبرح أماكننا بالسيارة وانطلقنا ضاحكين في طريق العودة، وأخذنا نطلق النكات على أنفسنا .. يكفينا أننا رأينا أسوار البيت الأبيض، ثبتنا عيوننا على الطريق الذي كان مازال خاويًا من السيارات، ضاغطين بكل عصبيه دون أن ندري على أسناننا خوفًا من خيانة الفرامل المتهالكة.
لازالت السيارة أمامها ساعات للوصول إلى المنزل، ومع درجات الحرارة المنخفضة جدًا أصبح الطريق شديد الخطورة حيث تحول ندى الشبورة الضبابية إلى طبقة زجاجية شفافة ملساء تراها أمامك كمرآة على طول الطريق. هذه الطبقة في الواقع تنتظر منا أقل ضغطة على الفرامل لتكون كفيلة بدوران السيارة أو انقلابها لا سمح الله.
وصلنا بحمد الله إلى المنزل بعد ظهر يوم الكريسماس، نعاني من صفير الاحتكاك طيلة 10 ساعات أو أكثر حيث قطعنا قرابة 1000 ميل أو 1600 كم تقريبًا ما بين السفر والبحث عن إفطار، وكالمرضى أو السكارى خرجنا من السيارة ووقفنا على الرصيف في حالة من الإِعياء والصداع ممسكين برؤوسنا، سادين آذاننا من جراء صرخات احتكاك الفرامل طوال الطريق.
ينظر كل منا للآخر بعد أن وصلنا للمسكن . ضحكنا . جهزنا الغذاء أو لنقل العشاء وأكلنا وعيوننا شبه مغلقة من التعب والإرهاق.. ضحكنا وضحكنا وخلدنا للنوم كأطفال.
في صباح اليوم التالي وبينما نحضر للفطور سألنا أنفسنا .. هل كانت رحلة جميلة حقًا ؟ نعم كانت. لماذا ؟ لا لم تكن رحلة . لقد كانت مغامرة . " نريد التغيير" قالها أحدنا واستطرد قائلا " أردنا أن نخرج للتغيير من الروتين اليومي المُمل حتى وإن كانت في رحلة خطرة بسيارة بلا فرامل.نعم نحن رأينا أسوار البيت الأبيض فقط ولم نر الرئيس ولا المتاحف ولا مكتبة الكونجرس ولا الأماكن الهامة هناك ولكن .. الحمد لله عدنا سالمين".
أما أنا فاحتفظت برأيي لنفسي، لقد رأيت حسناءً فائقة الجمال تؤمن بقضية، واقفة بمفردها وهي تقول للعالم ولأعلى سلطة في بلادها "أوقفوا الحروب. أوقفوا نزيف الدماء، ليعود الشباب، ويعود حبيبي.اِشهد ياعالم.. اشهدوا ياناس .. أنا منتظرة في هذا الصقيع وواقفة أطالب بوقف نزيف الدم .. اشهد ياعالم.. اشهدوا ياناس .. إنني أحب حبيبي وسأنتظره هنا إلى أن يعود."
رحلة بلا فرامل ولكنها
علمتني ..لا للمغامرة بسيارة بلا فرامل
و نعم، علمتني كلمة " لا للدماء"
وكل عام وانتم بخير
أخبار متعلقة :