في الآونة الأخيرة كان هناك نقاش دائر وجدل كبير كان بطل هذا الجدل ومحور ذلك النقاش هو الشيخ محمد متولي الشعراوي، والذي انقسم فيه الناس إلى ثلاثة أقسام: قسم يصل به لحد التقديس ويرفض أتباعه رفضا تاما المساس بالرجل أو الاقتراب منه، باعتبار ذلك نيلا من الدين ومحاولة لتحطيم ثوابته وكسر هيبة "العلماء" بغرض هدم الإسلام، وقسم ذهب نقيض للقسم السابق فهال كل التراب على الرجل، وانتقص منه انتقاصا شديدا، ورأى فيه سببا في تخلف المجتمع، وقسم ثالث، ننظم نفسنا فيه، رأى أن يتم وضع ما ترك الرجل تحت مجهر البحث والفحص، ويؤخذ ما كان فيه من صواب ويطرح ما فيه من خطا، وهذا القسم الثالث كان أكثر تلك الأقسام عرضة للتطاول، فكلا الفريقين "المتطرفين" يرفضون موقفه ومن هنا لاقى هذا الفريق ما لاقى من الغالبية العظمى من أبناء الشعب المصري والعربي الذين يمثلون القسمين الأولين.
وبرز نتيجة لهذا الجدل حول الشعراوي سؤال حول طريقة التفكير في منطقتنا العربية، وهل نحن فعلا نمتلك عقلا نقديا يميز الأشياء، وهل فعلا يمكن في مجتمعاتنا العربية أن يتم قبول رأي يخالف ما استقر عليه الحال في المجتمع. وهل هناك تفكير بطريقة علمية وبشكل نقدي لكل ما يلقى على هذا العقل المصري والعربي؟!.
مما أثير في قضية الشيخ الشعراوي قوله إن حمل المرأة يمكن أن يستمر حتى خمس أو ست سنوات مستشهدا بالضحاك وهرم الذي ظل الأول في بطن أمه سنتين وظل الثاني خمس سنوات، وهذا طبعا وبكل تأكيد ضد العلم بشكل فج، ولكننا وجدنا من يدافع عن ذلك، لا لشيء إلا لأنه موجود في كتب الفقه وقال به الشيخ الشعراوي، هنا حالة تقديسية مركبة: مرة للتراث الفقهي وأخرى لشيخ يستقي من هذا التراث، وطبعا لم يقدم أي من المجادلين في هكذا قضية علمية رأيا علميا واحدا أو مصدرا أو بحثا محكما، وهنا نطلب من الأساتذة في كليات الطب في جامعة الأزهر الشريف أن يخرجوا على الناس ويذكروا لهم مدى صواب أو خطأ هذه المعلومة التي ربما، ونقول ربما، كانت تتفق مع معارف زمن هؤلاء الفقهاء الذين قالوا بها. نقول على أساتذة كليات الطب بجامعة الأزهر الخروج للحديث في ذلك احتراما للإنسان المسلم الذي هو بعيد كل البعد عن إعمال عقله في قضايا شبه مسلم بها خوفا من أن يكون قد تخطى حدوده التي رسمها له هذا الفقيه أو ذاك، وحتى يتسنى له أن يستخدم هذا العقل دون خوف من عذاب ودون وصاية من أحد.
في إجابة الفيلسوف الألماني الشهير إيمانويل كانط عن السؤال الذي طرحته إحدى الصحف عن ما هو التنوير تعظيم هائل للعقل الذي يجب ألا يتم النظر إليه نظرة سطحية سخيفة ووصمه بالمحدودية المقيتة، فلو كان العقل محدودا بتلك الصورة التي يحاول أن يشيعها هؤلاء الذين لا يدركون قيمته لَما وصل الإنسان لِما وصل إليه، ولما حقق الإنسان كل هذا التقدم العلمي الهائل الذي أوصله إلى آفاق بعيدة، ويفتح كل يوم آفاقا أرحب وأوسع، هذا الذي لم يكن ليتحقق إلا من خلال التفكير العلمي السليم، فما أن ودّع الإنسان منهج السحر والشعوذة، وما أن خاصم العقلُ التفسيرَ الخرافي الماورائي، وما أن توقف الإنسان بعقله أمام الظواهر مفسرا ومحللا ومكتشفا، إلا وفُتِحَتْ الأبواب المغلقة، ومازال الإنسان يعمل على فتح غيرها من الأبواب حيث وجد الإنسان خلف كل باب ألف باب أخرى، لم يعد يرهبها ولم يعد يعتقد في استحالة فك شفرات تلك المغاليق التي تغلّق هذه الأبواب، ولكنه أخذ على عاتقه أن يستمر في كسر تلك الأقفال بالعقل والعلم ليحقق الطفرة تلو الطفرة، والإنجاز بعد الإنجاز، في مسيرة علمية مبهرة، حق لنا - نحن أنصار العقل والتفكير العلمي - أن نفخر وأن نزهو بها.
في تعريفه للتنوير قال الفيلسوف الألماني الفذ إيمانويل كانط - فيلسوف ألماني من القرن الثامن عشر (1724 - 1804). عاش حياته كلها في مدينة كونيغسبرغ في مملكة بروسيا: " إنه خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد." كما عرَّف القصور العقلي على أنه "التبعية للآخرين وعدم القدرة على التفكير الشخصي أو السلوك في الحياة أو اتخاذ أي قرار بدون استشارة الشخص الوصي علينا." ويرى كانط أن العقل البشري مؤهل لذلك، وأن عدم قدرته عند أي شخص على ذلك ليس لعيب في العقل بل في خوف هذا الشخص من استخدامه بطاقاته الكبيرة والهائلة، هذا الخوف الذي يمنع الإنسان من المضي قدما فيما يفتحه له العقل من آفاق لا نهائية من خلال التفكير العلمي.
إن التفكير العلمي ليس، كما يظن البعض، مقصورا على العلماء والمفكرين والمثقفين، بل يجب ولابد من أن يصبح تفكير كل الناس، فعلى كل إنسان أن يفكر بطريقة علمية، حيث أن ذلك في مقدوره، وذلك لأن أسلوب التفكير هذا يصلح لكافة مناحي الحياة، وهذا التفكير العلمي هو الضمانة الوحيدة للإنسان وللمجتمع من الوقوع فريسة للدجالين والمشعوذين والسحرة، وهو الضمانة الوثيقة لحماية الإنسان من تلك العلوم الكاذبة التي يقدمها البعض بطريقة تبدو علمية ليخدعوا بها أصحاب التفكير الأسطوري.
والذي لا شك فيه أنه في مصر ومجتمعاتنا العربية لم يصبح حتى اللحظة التفكير العلمي هو السائد بين شعوبنا، ومازال العقل في المجمل لدينا يفكر بطريقة أسطورية ويسلك طرق التفكير السحري، وينتظر أن تطل عليه من الغيب حلولا لمشكلاته، وربما لو تأملنا قليلا ما شاع على وسائل التواصل الاجتماعي، منذ عدة أشهر، على خلفية الصاروخ الصيني الذي كان قد فقدت الصين السيطرةَ عليه وتلك الآمال التي تمناها قطاع عريض من الشعب في أن يسقط هذا الصاروخ على سد النهضة الذي يمثل مشكلة المشاكل في المخيلة الجمعية للشعب، لَعَلِمْنا كيف يفكر قطاع عريض من مجتمعنا، فإن كان هذا الحرص على حل مشكلة سد النهضة، فإن فكرة انتظار حدوث معجزة - ولم نعد في عصر المعجزات، إن كان ثمة في الأصل عصر لمعجزات قد مضى - نقول إن فكرة حل المشاكل بحدوث معجزة مازال لها في عقول قطاع عريض من الشعب مساحة شاسعة، هذا الذي يعني أنه، كما يقول فيلسوفنا المصري فؤاد زكريا - " فؤاد حسن زكريا (1 ديسمبر 1927، بورسعيد - 11 مارس 2010 )، أكاديمي وأستاذ جامعي مصري متخصص في الفلسفة
- لابد من إنهاء وقوفنا الطويل على أعتاب الماضي - طريقة التفكير الأسطورية هنا مثالا - هذا الماضي الذي لم يرفضه الدكتور فؤاد زكريا بالمطلق، ولكن كان له موقف منه يتمثل في ضرورة تنقيته والاحتفاظ بالصالح منه والتخلص من الفاسد فيه أو غير المناسب فيه للعصر والملائم للظرف التاريخي، حيث أن الرجل الفيلسوف، ونحن معه كذلك، يؤمن بأن في تراثنا ما يمكن أن يكون شعلة تضيء لنا طريقنا إلى المستقبل، الذي لابد أن يحمل راية القيادة له المفكرون والمثقفون وأصحاب العقول النقدية من أحرار هذه الأمة.
وللمضي خطوات في طريق المستقبل، والتخلص من الجهل المنتشر في المجتمعات العربية، فإن فؤاد زكريا يحدد السبيل إلى ذلك في عدة مجالات تبدأ بتعزيز الحرية الفكرية بشكل يسمح للمفكر بالمضي قدما إلى الحدود القصوى دون خوف من سلطة أو مجتمع، بالإضافة إلى مجال التعليم الذي يجب أن يتم على أسس حديثة تسمح بتكوين العقل النقدي للتلميذ من خلال الحوار المباشر بينه وبين المعلم من ناحية وبينه وبين أقرانه من التلاميذ من ناحية ثانية، مع ضرورة تدريس المناهج الحديثة تلك التي تقوم بها المدارس الأوروبية والتي من خلالها ومن خلال طرق التدريس تخلق إنسانا قادرا على التمييز والنقد من ناحية ومؤهلا لأداء الوظائف التي تم تعليمه من أجلها من ناحية ثانية، أما المجال الإعلامي فله دور هام للغاية يأتي في مقدمته إشاعة أجواء الحرية الفكرية وذلك بعرض كافة الآراء مع عدم التحيز لفكر دون فكر وعدم التملق للثقافة الشعبية السائدة، حيث أن سيطرة الثقافة الشعبية أحد أهم عوامل إبقاء المجتمع على ما هو عليه من ثقافة متدنية - بحجة أن الذوق العام يريد ذلك - وإن افترضنا صحة هذه الذريعة فإن من واجب الإعلام ومسؤولياته أن يأخذ بيد المجتمع ويرتقي به من خلال نشر ثقافة عصرية مناسبة، كما لابد وألا ينحاز الإعلام إلى أية سلطة من السلطات خاصة السياسية والدينية، هذا الذي، إن تم، وهو واقع في مجتمعاتنا العربية، يضر ضررا بالغا بالإعلام وبالتبعية بالمجتمع الذي سيخضع هو الآخر لرؤية تلك السلطات. وعلى الإعلام أن يقوم بنشر المعرفة بالموضوعية المناسبة. وأهم شيء لتغيير المجتمع هو الأخذ بالتفكير العلمي والبعد بالتالي عن التفكير الخرافي غير المبني على أسس علمية مهما تم إلباسه لباسا مقدسا، حتى يصبح بمقدور أفراد المجتمع التمييز بين الحقيقة والوهم، وما بين العلم والخرافة، هذا الذي لابد أن يصبح طريقة التفكير لدى أعضاء المجتمع جميعهم وليس مقصورا فقط على العلماء والمفكرين والمثقفين، هذا الذي تناولناها في مقالات سابقة وسنظل دائما نؤكد على ضرورة نشره.
ولتحقيق ذلك فإننا نرى أهمية إدراج طريقة ومبادئ التفكير العلمي في مراحل التعليم، أو على الأقل يتم تدريس تلخيص مبسط لها في مراحل التعليم المختلفة هذا الذي سينعكس حتما على الإنسان المصري خلال بضع سنوات لما للتعليم من أثر تكوين شخصية الطلاب.
لقد استطاع التفكير العلمي بعدما استطاع الانتصار على غيره من تفكير خرافي وأبعده عن طريقه وبعدما نجح في تخطي العديد من العقبات استغرقت آلاف السنين، أصبح بعدها هذا التفكير العلمي هو الرافعة الحقيقية والراسخة التي قامت عليها النهضة الإنسانية والعلمية الحديثة: التي هي النهضة العلمية الغربية، والتي بسببها يقرأ الآن متابعنا الكريم هذا المقال على أحد منجزات تلك الثورة العلمية التي لولا التفكير العلمي ما كان في الإمكان أن نصل لما وصلنا إليه الآن من تكنولوجيا حديثة مرشحة للتطور بشكل مضاعف بعشرات بل ومئات المرات في القليل من قادم الأيام. فكما هو معروف فإن العلوم تخضع للتغيير، والتعديل، والتنقيح، والتطوير. وتتطوَّر بتطوُّر العصر، والتكنولوجيا.
وإن كان حجم العلم في الماضي القريب يتضاعف كل 50 سنة فإنه الآن مع عصر التكنولوجيا، باتت المعرفة تتضاعَف كل 12 ساعة!. هذا الذي يعكس ما يمكن أن ينتجه العقل البشري والعقول الإلكترونية في مقبل السنوات، هذا الذي يمكن أن ينقل النوع الإنساني نقلة نوعية، حيث هناك من يدعو لدمج شرائح في جسم الإنسان تزيد من قدراته العقلية والذهنية ناهيك عن ما يسمى بالثورة البيو تكنولوجية التي سوف نخصص لها مقالا قريبا. تلك الثورة التي يطلق عليها ما بعد الإنسان، حيث سيندمج فيها البيولوجي بالتكنولوجي، في قادم الأيام، هذا الذي يعكس الهوة السحيقة بيننا وبين عالم اليوم، ففي اللحظة التي مازال يجادل فيها مصري مسلم عن إمكانية أن يستمر حمل المرأة خمس وست سنوات هناك من يسعى في صناعة ما يمكن أن يطلق عليه ما بعد الإنسان.ـ
أخبار متعلقة :