بوابة صوت بلادى بأمريكا

محمد فتحي عبدالعال يكتب عن: صفحات من التاريخ الأخلاقي لمصر قم للمعلم 2 (الحلقة الثالثة)

المثير في التاريخ المصري هو قدرة الأعمال السينمائية في فترة ما بعد ثورة 1952 على تشويه كل ما قبلها ومحو تراث هذه الفترة  فيكفي أن تسأل أي شاب في مقتبل العمر شاهد هذه الأفلام  أو كهلا يعود ميلاده لهذه الثورة وتفتح ذهنه في مدارسها على القومية العربية عن شكل المعلم الأجنبي في مصر في فترة الاحتلال البريطاني لمصر والتي استمرت سبعون عاما ليجيبك من وحي هذا المشهد السينمائي من فيلم بين القصرين وطلبة مدرسة الحقوق يريدون الخروج للاشتراك في ثورة عام 1919 وناظر المدرسة المستر والتون منتفخا كالديك الرومي ينهرهم في شدة واستعلاء فهل يصلح أن نختزل كل ما قدمه المعلمون الأجانب في هذا المشهد؟

ثمة أمر آخر عمل على تأجيج نظرة الكراهية للمدرسين الأجانب وهو مئات الكتب التي كتبها معتنقي الفكر السلفي عن حركة الاستشراق في مصر فوصموا كل من سكن هذه المدارس والجامعات المصرية من الأجانب في هذه الآونة بالاستشراق والتبشير والخطط الأجنبية لمحو الهوية الأسلامية وكأننا كنا وقتها نقود الأمم في العلم والتكنولوجيا الحديثة !!! والحقيقة أنني أريد أن أهمس في آذانهم بسؤالين .السؤال الأول: لمن يعود الفضل لفكرة اول معجم لألفاظ القرآن الكريم ؟!أليس للمستشرق الألماني( جوستاف فلوجل) تحت عنوان "نجوم الفرقان في أطراف القرآن" وعنه نقل وطور وصحح علماء مسلمين أجلاء .السؤال الثاني: لمن يعود الفضل في تحقيق التراث الأسلامي القديم وسأضرب مثالا بكتاب تاريخ الأمم والملوك لمحمد بن جرير الطبري وهو عمدة كتب التراث فكانت طبعته الأولى بجهود المستشرق الهولندي  (دي خويه) في المجمع الشرقي في ليدن بين عامي 1879 و1901 وهي مسألة شاقة لمن يفهم ماهية تحقيق التراث والبحث عن الأصول بين المتاحف المختلفة ومقارنتها ومعالجتها وعن هذه الطبعة توالت الطبعات لهذا اعتقد أننا بحاجة لمزيد من الإنصاف لجهود الأساتذة الاجانب .

نبدأ من المشهد السينمائي الشهير نستجلي حقيقته ففي صباح يوم 9 مارس 1919 دوى نفير المظاهرات  في شوارع مصر للتنديد باعتقال سعد زغلول باشا ورفاقه وهم في طريقهم لحضور مؤتمر الصلح المنعقد في باريس على أمل الحصول على الاستقلال المنشود مع إعلان الرئيس الأمريكي ويلسون الشهير بحق الدول المحتلة في تقرير المصير .أراد طلبة مدرسة الحقوق المشاركة فنهاهم عبد العزيز باشا فهمي وهو من صناع الوفد ورفاق سعد خشية ازدياد الوضع اشتعالا وقال لهم :" إنكم تلعبوا بالنار دعونا نعمل في هدوء ولا تزيدوا النار اشتعالا " كما حاول المستر والتون ناظر المدرسة إقناعهم بالعدول عن الفكرة فلم يذعنوا له فاستدعى على عجل نائب المستشار القضائي موريس شلدون إيموس فنصحهم قائلا : "دعوا السياسة لآبائكم فرد عليه الطلبة :"لقد سجنتم آباءنا ولن ندرس القانون في بلد يداس فيه القانون ". والحقيقة أني لا اجد مبررا لتجاهل  الحادثة من الناحية التربوية و في إطار الحفاظ على العملية التعليمية وسلامة الطلاب بعيدا عن الانخراط في تظاهرات لا يحمد عقباها وهو منظور الوفد أيضا وليس انجليزيا فقط .

العلاقة بين المدرسين الأجانب والطلاب المصريين كان يسودها الإحترام في جلها ففي مذكرات "صليب باشا سامي" الذي تحدثنا عنه في الحلقة السابقة يتحدث عن ذكرياته في المدرسة التوفيقية وعن ناظرها مسيو (تيوفيل بلتييه) وفي ذلك يروي قصة طريفة على غرار مدرسة المشاغبين فطلبة من المدرسة يسرقون ثمار اليوسفي من حديقة الناظر فتلمحهم ابنته (جيرمين) والتي تسرع لتخبر آباها والذي يجمع الطلبة في الحصة ويطالبهم بالاعتراف مقابل العفو عنهم فالتزموا الصمت ولكن الناظر كان ذكيا فراح يشم أيديهم واحدا تلو الآخر حتى عرف الجناة فألقى عليهم درسا قاسيا في الأخلاق لكن ما بهر صليب أنه في نهاية اليوم وجد ضابط المدرسة قد حضر وفي يديه ثمار اليوسفي هدية من الناظر للطلبة ومعها رسالة عفو عنهم .

يجيب عن سؤالنا بوضوح ما جاء في مجلة (اللطائف المصورة ) في 30ابريل 1917 حول تكريم طلبة الفلسفة في الجامعة المصرية لاستاذهم الأسباني (الكونت دي جلارزا )أستاذ الفلسفة العامة العربية في حديقة فندق شبرد وكان ضمن الحضور سعد باشا زغلول..لا تظنني عزيزي القارىء قد أخطأت في الكتابة وأن العكس هو الذي حدث بل هو ما قرأته تماما فالطلاب يكرمون استاذهم عرفانا بفضله وجميل صنعه وفي هذا علقت المجلة على الخبر بقولها "إن تكريم طلبة الجامعة المصرية لاستاذهم الفاضل خير قدوة يقتدى بها تلاميذ مدارس مصر وإظهار فضلهم ففي القول المأثور من علمني حرفا صرت له عبدا "

الحقيقة أن الصورة الأخيرة لها من واقعنا نصيب ففي السنوات الأخيرة وجدنا الطلاب أكثر وفاءا لمعلميهم ممن يغرسون القيم والمبادىء فيهم وحينما تحين لحظة الرحيل ينطلق الطلاب في أثر نعوشهم ويغرسون على قبورهم أزهار من الوفاء ولمثل هذا فليعمل العاملون .

كان للأساتذة الأجانب وجود في كل ميادين العلم تقريبا حتى التربية البدنية في المدارس ففي عدد اللطائف المصورة في 24سبتمبر 1917 جاء نعي الاستاذ اميليو بوكوليني الذي قضى أكثر من ثلاثين عاما في التربية الجسمية الحقيقية للتلاميذ في المدرسة التوفيقية الأميرية ثم أنشأ مدرسة خاصة به .

ليسمح لي القارىء أن أشير لنقطة هامة أما وقد جاء ذكر اللطائف المصورة في أكثر من موضع في هذا المقال فدور الصحافة هو أن تسلط الضوء على النماذج المضيئة في المجتمع وأن تلتزم هذا الخط كأحد مبادئها لكن الطريف حول هذه المجلة الأدبية التى أنشأها عام 1915 اللبناني إسكندر مكاريوس استكمالا لمشروع أبيه شاهين بك في مجلة اللطائف  أن المجلة حادت عن هذا الطريق القويم حينما انخرط صاحبها في سجال عقيم وبعبارات لا تستقيم مع رسالة المجلة مع الصحفيين المصريين منتصرا لأبناء جلدته بقوله :" يكفي اللبنانيين فخرا أنهم اخترعوا اللبنة بالزيت ومسبة الدين ". وهو ما أبرز من خلاله ضرورة وجود صحافة تعليمية محايدة ذات أيديولوجية واضحة مقصدها النشء والمختصين والجمهور لإطلاعهم على كل مجريات العلم وطرق التعليم وصور نشر القيم والمبادىء حول العالم .

نعود لموضوعنا الرئيس .

 بزوغ نجم الجامعة المصرية عام 1908 أثمر   عن تحولات جذرية  في العملية التعليمية في مصر فساهم الأساتذة الاجانب بدور كبير لا يمكن لعاقل أغفاله في بناء جيل من المتعلمين المصريين حملوا مشاعل الريادة في تخصصاتهم أتفقنا أو اختلفنا مع مشاريعهم وكان الأساتذة الاجانب سباقين في بناء ما نعرفه الآن بالتعليم المفتوح فالمحاضرات مفتوحة لمن يريد التعلم بغض النظر عن خلفياتهم وانتمائتهم الحزبية والدينية فذاع صيت محاضرات الاقتصاد السياسي لجرمان مارتان وآداب اللغة الإنجليزية لشارل سيسيون وآداب اللغة الفرنسية لمسيو بوفيليه والمحاضرات النسائية للأستاذة (أدولفين كوفورو)  إضافة لعلوم الفلك عند العرب وتاريخ الآداب العربية   وكان يلقيهما المستشرق  الإيطالي (كارلو ألفونسو نلينو) ..

اجتمعت للجامعة المصرية الوليدة كل عوامل النجاح والبقاء من حيث رغبة الأهالي في تعليم أبنائهم تعليما عصريا فسارعوا للاكتتاب فيها ووعي النخب المثقفة لأهميتها في إرساء دعائم الحضارة في الشرق مثل جورجي زيدان ومصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول وقاسم أمين ورعاية سامية من الأسرة الحاكمة وقتها فتبرعت بالأرض الأميرة فاطمة اسماعيل حتى يكون لها مقرا ثابتا حيث كانت المحاضرات تلقى في أماكن متفرقة ويعلن عنها بالصحف وآخر هذه الأماكن كان سراي الخواجة (نستور جناكليس ) ولارتفاع قيمة إيجار السراي عرض الطبيب الخاص محمد  باشا علوي  على الأميرة وكان تبرعها المحمود .  كانت الجامعة في مقدمة أولويات الأمير فؤاد الذي رأسها  شرفيا - الملك فؤاد فيما بعد- المولع بالعلم والثقافة والذى سعى لإمداد مكتبتها بالكتب من كل أنحاء العالم وبخاصة إيطاليا التي كان على علاقات جيدة مع الأسرة الحاكمة بها بحكم نشأته هناك   ..

إحقاقا للحق كان الأساتذة الاجانب أكثر تسامحا مع طلابهم المصريين فيما يتعلق بالاقتباس الجزئي أحيانا والكامل أحيانا لأعمالهم دون الإشارة لهم ..وهو ما لا يمكن أن تجده في عالم اليوم الذي يتبارى فيه الكتاب في كيل الاتهامات لبعضهم البعض في السرقة حتى ولو كانت السرقة في غث لا يسمن ولا يغني من جوع .

فنجد تأثرا واضحا للشيخ (على عبد الرازق) بأفكار المستشرق  نلينو في مسألة الخلافة ( أشرنا إليه آنفا حينما تحدثنا عن علوم الفلك)  حينما وضع كتابه "الإسلام وأصول الحكم" لذلك فحينما يتحدث أحد حول التشكيك في نسبة هذا الكتاب لصاحبه الشيخ علي وأنه من وضع طه حسين أجد أن الرد الأقرب للصواب في وجهة نظري أن كليهما استقى الفكر ذاته من نلينو دون الإشارة الواضحة له وقد استعرضت أمر هذا الكتاب بقدر من الإسهاب في كتابي (على هامش التاريخ والأدب).

والحقيقة إني لا أتفهم هذا المنطق في عدم الرغبة في نسبة الفضل لأصحابه واتأكد من صدق حدسي  حول هذه الظاهرة وأنا أطالع مقالات  الدكتور (زكي مبارك) الهجومية على زميله بالجامعة المصرية الأستاذ أحمد أمين والتي حملت عنوان "جناية أحمد أمين على الأدب العربي" وقد نشرت على مجلة الرسالة حيث أشار إلى اقتباس أحمد أمين لمسألة خلو الجاهلية العربية من الأساطير بالمقارنة باليونان من محاضرة لزميله الدكتور أحمد نصيف وأن الفارق بينهما في الاقتباس أن الأخير قد أشار لمصدره وهو بعض المستشرقين مثل رينان ..

للإنصاف روح الأنا و افتقاد الروح الجماعية في البحث والعمل المشترك ثمة مميزة لبعض الأساتذة المصريين قديما وحديثا ولا أبالغ حينما أقول أنه مرض مصري بامتياز واستعير في ذلك حادثة طريفة ساقها (أرثر سيسيل ألبورت

أستاذ الطب الإكلينيكي بمدرسة طب قصر العيني بجامعة فؤاد الأول عام 1937 في كتابه "ساعة واحدة من العدل: الكتاب الأسود عن المستشفيات المصرية" أنه عرف أستاذا بجامعة فؤاد الأول نشر 175 مقالا بحثيا على مدى تسع سنوات دون أن يشير أبدا لمساهمات مساعديه

لا نريد بمقالنا هذا أن نحيط الأجانب بهالة من القداسة والمثالية على حساب نظرائهم المصريين أبدا بل أن نعيدهم لمكانهم الصحيح من التاريخ سلبا وايجابا  فلا يمكن أن يجتمع الجميع منهم على النبل وسمو الرسالة فربما كان لبعضهم مآرب أخرى وهذا من طبائع البشر في كل الأزمنة لكن يبقى الحل في أزمة التعليم في بلادنا أن نستفيد من التجارب الأوروبية المبكرة في بلادنا وأن نعيد دراستها من جديد وأن نستفيد من التجارب الأجنبية المعاصرة حولنا في تحديث التعليم وعلى صعيد الشخصية المصرية فلابد وأن نكتسب مهارات العمل الجماعي ومهارات التحليل لذا اتسائل لما لا تضم وزارة التربية والتعليم مادة لمناهجها هي التنمية البشرية لتصبح لصيقة لمادة الأخلاق المزمع تدريسها في المراحل الدراسية؟!.كذلك أضم لذلك تساؤل آخر لما لا يكون لدينا صحافة تعليمية مستنيرة تضم بين جنباتها كل ما هو جديد في نظم التعليم العصري وغرس القيم في العالم فتنير العقول لكل ما هو جديد وتحتاجه مجتمعاتنا ؟!

 

 

د.محمد فتحي عبد العال

كاتب وباحث وروائي مصري

أخبار متعلقة :