الانسحاب الأمريكى من أفغانستان يدخل أيامه الأخيرة؛ وقبل بداية الشهر الجارى كان ٩٥٪ من تواجد الولايات المتحدة قد جرى إنهاؤه. مضى عقدان من السنين منذ هذا اليوم الجلل فى التاريخ الأمريكى لضرب مركز التجارة العالمى فى نيويورك ووزارة الدفاع فى واشنطن.
ومن وقت اتخاذ الولايات المتحدة قرار الحرب واحتلال أفغانستان وحدها فى الأساس، وبالتعاون مع حلفاء الأطلنطى فى أحوال أخرى، فإنها انتقلت ما بين استراتيجية وأخرى، كان فيها فى الجولة الأولى اقتحام العاصمة كابول والتخلص من حكم طالبان. وفى جولة ثانية بات القضاء على الإرهاب وتنظيم القاعدة فى المقدمة منه والحصول على أسامة بن لادن رأس التنظيم حيا أو ميتا. وفى جولة ثالثة كان بناء الدولة الأفغانية على أسس حديثة لعلها تقدم مثالًا للديمقراطية والرخاء فى منطقة استعصت على كليهما. وفى جولة رابعة بعد أن ارتفعت التكلفة المادية إلى الحدود التى حتى الولايات المتحدة لا تستطيع تحملها، فقد كان إعداد الدولة الأفغانية ذاتها لكى تقوم بواجبها فى تحمل مسؤولياتها. الآن لم يبق فيما تبقى من الوقت الأمريكى فى أفغانستان إلا تدبير الأمور المتعلقة بهؤلاء الأفغان الذين تعاونوا معها، والتى تعرف من تجارب سابقة فى فيتنام والعراق أن مصيرهم موصوم بالخيانة، ومحتوم بالقتل؛ وكثير منهم من الخبراء والمحبون الذين ظنوا أن التعاون مع واشنطن فيه إنقاذ للدولة الأفغانية من الفقر والتخلف. ورغم أن قرار الرئيس بايدن بالانسحاب غير المشروط للقوات الأمريكية وإنهاء المجهود الحربى المستمر منذ ما يقرب من ٢٠ عامًا تعرض لانتقادات شديدة من الجمهوريين، لكن المشرعين من الحزبين الرئيسيين الديمقراطى والجمهورى اتفقوا على ضرورة حماية الأفغان الذين لعبوا أدوارًا لا غنى عنها كمترجمين ومترجمين فوريين للقوات الأمريكية. لم تكن أمريكا مستعدة هذه المرة لتكرار أخطاء سابقة؛ ومع ذلك فإن تقارير فى الصحافة الأمريكية «بوليتيكو» على سبيل المثال أشارت إلى أنه كان هناك اضطراب كبير فى هذا الشأن.
هذا الأمر يمكن وضعه جانبا الآن، لأن أفغانستان سوف تكون معرضة لواقعة كبرى لعلها مع أحداث تونس سوف تشكلان الحالة فى الشرق الأوسط خلال المرحلة المقبلة. وبينما تسير «الأصولية الإسلامية» إلى أفول فى الحالة الثانية، فإن الحالة الأولى تبدو فيما كما لو كانت تقترب من إعادة الأمور إلى ما كانت عليه من قبل وصول القوات الأمريكية عندما كانت طالبان تمسك الدولة بيد من حديد، وهى تفتحها لكافة أشكال التنظيمات الإرهابية للتدريب والتسليح والتآمر، فى الوقت الذى تتربص بها تنظيمات راديكالية منافسة داخل الساحة الأفغانية ذاتها. ما حدث خلال الشهور الأخيرة، وحتى قبل فوز بايدن، أن المفاوضات بين الولايات المتحدة وطالبان فى الدوحة فتحت بابًا واسعًا، ووفرت غطاءات من الشرعية لهذه الأخيرة حتى تبدأ التمدد داخل أفغانستان على حساب الحكومة المركزية. ومنذ أعلن الرئيس الأمريكى عن قراره بالانسحاب دون حسابات خاصة بمفاوضات طالبان مع الحكومة المنتخبة، فإن وتيرة التمدد الطالبانى تسارعت، وفى كثير من الأحيان فإن اتساع مساحة سيطرتها جرى بدون معارك كبيرة. فى الشمال الشرقى أدى التقدم إلى فرار أكثر من ١٠٠٠ جندى أفغانى إلى طاجيكستان. وسيطر المتمردون على مناطق رئيسية فى مقاطعة بدخشان، حيث استقل المسؤولون المحليون على عجل طائرة هربًا من المنطقة المحاصرة، مما أثار فى الأذهان سقوط سايجون فى عام ١٩٧٥ والشبح المؤلم لفشل الولايات المتحدة فى فيتنام. أظهرت مقاطع فيديو لطالبان مؤخرا استسلام القوات الحكومية والاستيلاء على أسلحة ومركبات كانت الولايات المتحدة تأمل فى أن تمكن حكومة كابول من الحفاظ على سلطتها بعد رحيل الولايات المتحدة. فى غضون ذلك، وفى العاصمة، وقفت حشود كبيرة فى طابور يائس فى مكاتب جوازات السفر تبعث على القلق على نطاق واسع بشأن مستقبل البلاد.
ورغم كل هذه المشاهد فإن هناك وجهات نظر أخرى أمريكية مثل «الواشنطن بوست»، لا ترى فيما سوف يحدث فى أفغانستان مرآة لما حدث فى فيتنام أو حتى بعد الخروج الروسى (السوفيتى) من الدولة. والحجة هنا هى أن الوضع والمشهد السياسى اليوم مختلفان تمامًا عن التجارب السابقة. لقد تغير المجتمع الأفغانى، وتوفر له من التعددية والبنية التحتية المدنية الأمل فى مستقبل مختلف عما حدث عند مغادرة القوات السوفيتية. وفى عام ١٩٩٤، دخلت طالبان المعركة وهى تعد بالنظام والعدالة على أساس فهم متشدد للإسلام؛ وبالاعتماد على الإجراءات العقابية التى نادراً ما كانت مطبقة فى التاريخ الأفغانى، وأعلنت طالبان فى عام ١٩٩٦ «إمارتهم» فى كابول. ومع ذلك، فقد ثبت أن قبضتهم على السلطة هشة، وأدى التدخل بقيادة الولايات المتحدة فى عام ٢٠٠١ إلى تحول مهم عندما طردت طالبان. بالإضافة إلى ذلك، حشدت الأمم المتحدة والولايات المتحدة مجتمع المانحين الدوليين لاستثمار المليارات فى بناء الدولة والتنمية فى أفغانستان. لم يفتح هذا المزيج مساحة لكثير من الأفغان لإعادة تصور مجتمعهم فحسب، بل دعم أيضًا إعادة بنائه. بعد الحادى عشر من سبتمبر، كان ما يقدر بنحو ٧٠% من الدخل القومى الإجمالى لأفغانستان يتألف من مساعدات التنمية الدولية، وكانت الولايات المتحدة أكبر مانح. استخدم الأفغان هذه المساعدة للمساهمة فى بناء مجتمع مختلف عن سابقه، وله ملامح مدنية واضحة، ظهرت فى الحالة الإعلامية من خلال التليفزيون والراديو والإنترنت ومنصات الوسائط الاجتماعية الجديدة، فضلاً عن صناعة الكتب المزدهرة، وهو تغيير كبير عن الحياة فى ظل حكم طالبان، التى حظرت جميع وسائل الإعلام المستقلة وحاولت فرض احتكار لإذاعة الشريعة الخاصة بهم.
علاوة على ذلك، مرت أفغانستان بتحول جيلى. نشأ الشباب الأفغان المولود فى التسعينيات وأوائل القرن الحادى والعشرين مع توقعات مختلفة. بفضل الانكشاف على وسائل الإعلام والتعليم الأوسع، سعى الشباب الأفغانى إلى الحصول على صوت فى السياسة، حتى لو لم يكونوا متفقين على آرائهم حول المستقبل. وبينما يميل الكثيرون نحو الديمقراطية العلمانية، يطالب آخرون بأشكال مختلفة من الحكومة الإسلامية. ومع ذلك، وبغض النظر عن رؤيتهم الخاصة للبلد، سعى العديد من الشباب إلى توسيع وتنويع المشهد السياسى الأفغانى. ومن خلال الفن والموسيقى واحتجاجات الشوارع والوقفات الاحتجاجية والمسيرات عبر البلاد،تم حشد الرجال والنساء الأفغان من خلفيات مختلفة للاحتجاج على العنف والفساد والتمييز العرقى وما بين الجنسين.
هل كان للتغيرات التى جرت فى أفغانستان تحت الاحتلال الأمريكى من البنية الأساسية إلى التغييرات فى بنية السلطة والمجتمع ما يكفى لكى لا تعود أفغانستان إلى العصور الوسطى مرة أخرى؟ إن الرؤية الأمريكية سوف تتعرض مرة أخرى للاختبار الكبير بدون الولايات المتحدة هذه المرة؟!.
أخبار متعلقة :