إن أديبًا يرى الواقع بتلك العين الثاقبة، ويجسد الواقع بتلك الصورة لهو خليق بحمل راية اتجاه أدبي له سماته ومقوماته الفنية، وهو يبرهن – بكل براعة – على أن " الرّواد – في كل عصر – هم واضعو القواعد لكل عمل جديد، وعلى عاتق هؤلاء يقع التنظير لما يقدمونه، وقد يختلفون فيما بينهم كلًّ بحسب إبداعه الذي يلتزم بما وضعه من نظريات، وكما هو معلوم أن كل نظرية لا بد معها من إنتاج واقعي يدعم صحتها ويؤيد وجودها؛ إذ تظل – دون التطبيق – محض فكرة لا يقوم عليها دليل، وربما كان النسيان مصيرها"؛ لذلك لا غرو أن يسير على طريقته وينحو نحوه أدباءٌ كثيرون في عالمنا العربي ، وهذا ما نحاول إثباته من خلال النماذج الإبداعية لشعراء القصة الشاعرة، وهذا ما تسجله السطور التالية:
- رغبة - أحمد السرساوي - مصر
شهر مذ كان لقاء الصدفة في أمسية حوار الأديان... ولم يتوقف عن تعليق الأحلام على جذع الرغبة..؛ خوفا من أن تسفر توصيات المؤتمرين عن اللاشيء، ولا ينقلب العشق على قانون المعتقدات فترجع كل المحفوظات إلى سيرتها الأولى.. تنفجر على الشاشات قنابل أفكار الموتى، وتكشر أنياب الكون الأزرق .. ماذا لو دار الكون على قانون هوانا؟... يسمع في الأفق دوي الصمت و يحتفل العالم ببراءات سلام ..
(رغبة ) عنوان يثير في النفس تساؤلات عديدة، وفي دهاء يبعد أحمد السرساوي عنا التفكير في أن تلك الرغبة كانت رغبة شخصية تخصه في المقام الأول، يسعى إليها سعيا وتطوق نفسه إليها (مذ كان لقاء الصدفة في أمسية حوار الأديان ) يخشى حين يسفر اجتماع المؤتمرين عن اللاشيء ؛ يستخدم شاعرنا ضمير الغائب الذي يلجأ إليه المبدع - غالبا – ليعبر عن وجهة نظر بشكل غير مباشر، ولا يحمله ذلك على التدخل الصريح في الحدث الرئيس للقصة، ثم يطرح سؤالًا يعتمل في نفوس بعض الناس عندما يخالطهم القنوط واليأس؛ فيلجأون لمثل هذه الأسئلة التي تعبر عن حيرتهم ورغبتهم في الطمأنينة: (ماذا لو دار الكون على قانون هوانا؟ ) لكنه سؤال من يعلم الجواب، فالكون لا يسير حسب هوانا ورغباتنا، ولن يسير كذلك، إن الأمر بأيدينا حبن نؤمن بأن الله خلق الكون لحكمة ونظمه وأبدعه لغاية لا يعلمها إلا هو، إذا آمن كل منا بذلك فعسي أن يقرّ السلام في الأرض، وتعم الطمأنينة، وتلك رسالة الأديان، وهذا حوارها.
- إغــــــــــــواء - سكينة جوهر
أغوتْ (حنانُ) القلبَ فاستلقى على استحيائهِ ينعِي الرجولةَ في مَصارعِ الاشتهاءِ , دخلتُ مبناها على أني هي النفسُ الـ(حنانُ) فضمني في صَدرهِ ، لأبيتَ في بئرٍ مِن الإغواءِ , أظلمُ . وانتظرتُ ليوسفٍ فيهِ , ولكنْ ما أتى , أظلمتُ نفسي يا ترى..؟ أم أن إخوتهُ تناسوا غدرَهُمْ؟ أم أنها كانت كحلمِ فراشة سقطتْ بلا وعيٍ على أضواءِ عشق ؟ عادت حنان إلى المدى ، لم أنتبهْ
تطرح الشاعرة سكينة جوهر مجموعة من الأسئلة الحائرة التي تعبر عن حياة شعراء وأدباء هذا الجيل جميعا: (أظلمتُ نفسي يا ترى..؟ أم أن إخوتهُ تناسوا غدرَهُمْ؟ أم أنها كانت كحلمِ فراشة سقطتْ بلا وعيٍ على أضواءِ عشق ؟) أسئلة حائرة ومشروعة تعبر عن القلق الذي يسكن القلب، القلق من غد حيث لا يقين في أن يصير أفضل من اليوم وأمس، يعمق ذلك استلهام الشاعرة لقصة يوسف مع إخوته، وكأنها تحاول أن تمنح قلبها أملا؛ لكنها ما لبثت أن عادت إلى المدى.
ذكر إخوة يوسف واستلهامه يحمل دلالات عدة منها: جحود الإخوة واستجابتهم لشياطين غوايتهم، ومنها: الثقة في نصرة الله لعباده المخلصين، وفقت شاعرتنا في التناص مع تلطك القصة تعميقا لفكرة نصها وهي ( إغواء ).
- أوروبا كوْرَنَت - د. ربيحة الرفاعي (الأردن)
ركَعَتْ ببابِ الموتِ.. ، ترقبُ حتفَها في زحمةِ الجثثِ المقيمةِ في سراديبِ المشافي، استَسلَمَتْ بمرارةٍ .. لمجونِهِ المزعومِ .. !
لمْ تصغي لإيزيسَ استفاقَتْ بأسَها من غفلةٍ، وأتتْ عليهِ؛ تزيحُ كورونا بغضْبَةِ ربّةٍ .. ،
وتُقيمُها ..
فبكى التَّفَرنُجُ وانحَنى.
في أسى شديد ترصد دكتورة ربيحة الرفاعي في قصتها الشاعرة (أوروبا كوْرَنَت ) وطأة وباء كورونا وما أشاعه من مشاعر الفزع والرعب الممتزج بالخوف الشيد وترقب المصير، (ركَعَتْ ببابِ الموتِ ) جملة خبرية تفيد التأكيد على معاني الحزن القاتم الذي نسجه ليل من الوباء يأبى الرحيل، عمق هذا الإحساس استخدام الفعل ( ركعت ) وما فيها من معاني الخضوع والذلة ، ثم يجيئ الفعل المضارع ( ترقب ) راسمًا تلك الصورة من الترقب وانتظار المصير المحتوم، كم يعاني عالمنا في تلك الأيام من هذا الوباء! كم من أسَرٍ عمّها حزن مقيم لفقد حبيب، واكتوت بنيران الفقد والثكل.
ومن العجيب حقًا تلك المواءمة بين فعل المفتتح ( ركعت ) وبين فعل المختتم ( انحنى ) تأكيدًا لمعاني الخضوع والذلة كما أسلفنا.
- هيتَ لي - خالد صبر سالم (العراق)
أمَرَتْ سَيّدَةُ القصْرِ بأنْ يُخـْصى الذي أوَّلَ أحْلامَ رِفاقِ السجْنِ ، تـَمَّ الأمـْرُ فيـهِ ، إنـّما في لـَيْـلِها جاؤوا بهِ في غـرْفةِ النـَوْمِ ، تـَعَرَّتْ ثمَّ عَرَّتـْهُ وقالـَتْ : هَيْتَ لـَي عشقًا .. توارت .
( لا عصمة إلا لنبي ) هذا ما يحاول خالد صبر سالم تأكيده في قصته الشاعرة (هيت لي ) وتبقي قصة يوسف نموذجًا على عفة الأنبياء أشرف خلق الله خلقًا، طهرهم الله وأعدهم خير إعدادٍ لحمل رسالاته من جهة، ونموذجا على الابتلاء الذي يتعرض له عباد الله المخلصون، ولا عصمة إلا لنبي في موقف تعلو فيه سلطة الإغواء وأسر الفتنة، وسلطة العقاب والامتلاك.
يصدّر خالد صبر قصته بالفعل ( أمرت ) وما فيه من إيحاء السلطة والمطلقة والاستبداد، ومن ذا الذي يملك ردًا لهذا الأمر؟! ثم يجي فاعله ( سيدة القصر) ليوحي بالسيطرة التامة على مجريات هذا القصر، وما أصعب أن يصدر الأمر بأن (يُخـْصى الذي أوَّلَ أحْلامَ رِفاقِ السجْنِ) صورة فيها من إذلال الرجولة ما فيها، وكل ذنبه أنه أوّل أحلامَ رفاق السجن.. لكن الله يعصمه منها بعد أن تعرَّت وعرَّته فتوارت.
أخبار متعلقة :