منصب المفتي -في ظلال إسلامنا الحنيف الجميل-موقِّع عن رب العالمين، وقائم في الأمة مقام سيد المرسلين- صلى الله عليه وسلم- ونائب عنه في تبليغ الدين، وبيان الأحكام، كما يقول سادتنا الفقهاء وعلماء الشريعة الإسلامية!وقد قُدِّرلشيخنا عبدالمجيد سليم–رحمه الله- بسبب ما عُرف عنه من مقدرة فقهية فذة- أن يتولى هذا المنصب الخطير الشأن: منصب "مفتي الديار المصرية" زهاء سبعة عشر عامًا، أصدر خلالها عددًا هائلاً من الفتاوى، بلغ (15792) فتوى مدونة في السجلات الخاصة بدار الإفتاء المصرية.
ومن يقرأ هذه الفتاوى قراءة تدبرية حضارية يجد فيها شيخنا إنسانًا عالمًا، يستعين بالله، ويُعِدّ للأمر عُدته، ويأخذ له أهبته، حتى يقول الحق ويقرره بكل ثبات ووضوح وجهارة في إنكار كل منكر، والثورة ضد كل مخطئ...فاستحق لقب (المفتي المجاهد) عن جدارة واستحقاق؛بما عرف عنهمن سعة الأفق، وجلال الخلُق، وعظمة النفس، وقوة النزوع إلى المُثُل العليا؛فقد كان الشيخ، مع تواضعه، يعتز بكرامته اعتزازًا كبيرًا، وكان يجهر بكلمة الحق ولا يبالى بما يترتب عليها من آثار؛فقد حباه الله رسوخًا في العلم،وجرأة في قول الحق والإفتاء به من دون أن يخاف في الله لومة لائم، مهما كان المُستَفتَى بشأنه، ومهما كان مَن تتصل به الفتوى، وزيرًا كان أو ملكًا!
وهذا ما نتعرف على أدلته من فتاوى شيخنا-رحمه الله- في الآتي:
- ما روي في ترجمة شخصية شيخنا أن وزير الخاصة الملكية، حاول بإيعاز من الملك فاروق -ملك مصر في ذلك الزمان- أن يستبدل ببعض ممتلكاته العقارية الجديدة أرضًا خصبة من أملاك الأوقاف، وتلمس الفتوى منه، وهو المفتي الأكبر حينئذ، فأعلن الشيخ من فوره: «إن الاستبدال باطل، إذ لا يجوز شرعًا لغير مصلحة الواقف، وهي هنا مفقودة، بل إن الخسارة محققة فعلاً"!
- ما روي شيخنا المجاهد أفتي بحرمة مراقصة النساء وشرب الخمر وكان الملك فاروق يحضر حفلة صاخبة أقامتها إحدى الأميرات ونشرت بعض الجرائد صورًا لبعض ما كان، حيث قامت المجلات البريطانية والفرنسية والإيطالية بنشر ما ظهر من مغامراته وغزواته على موائد القمار في أوربا وما يصاحبها من بذخ وإسراف، كما لو كان من شخصيات ألف ليلة وليلة الأسطورية!
- كان شيخنا -رحمه الله- ناهيًا عن المنكر لا سيما في المجال الاقتصادي، فها هو ذا يقف موقفًا صارمًا من الترف الحكومي والتبذير الملكي خارج مصر؛ إذ ذاعت عبارته في ذلك الشأن وسارت مسار المثل، حيث قال: (تقصير وتقتير هنا وإسراف وتبذير هناك)!
وكانت الصحف وقتها قد قامت بنشر مجموعة صور للملك وهو يقوم برحلة شهر العسل،وقد قامت إحدى الصحف البريطانية بنشر تقرير عن نفقات الملك فاروق وزوجته المبالغ فيها حتى إن زوجته الملكة ناريمان قد أنفقت ما يساوي ألف جنيه في ليلة واحدة في منتجع " كابري" بإيطاليا! في وقت كان الشعب المصري يئن تحت وطأة الفقر!
وهذا ما جعل الشيخ المفتي المجاهد يطلق تصريحه الشهير الذي أغضب الملك فاروق. وأدرك الشيخ وقتها: من هو المقصود بالفتوى إلا أنه لم يتراجع بل واجه المخطئ بخطئه، واضطرب القصر لهذه الجرأة الصارخة في الإنكار كما ذكرت مجلة المصور وقتها، واتصل أحد كبار المسؤولين في القصر بالأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفي المراغي شيخ الأزهر منبهًا على خطورة الفتوى بالنسبة إلى أثرها الجريء، ولكن الشيخ المراغي لم يخذل أخاه بل دعا إلى تصحيح الخطأ عند المخطئ لا إلى تخطئة المصيب؛ إلا أن الملك قام بعزل شيخنا على الفور بسبب هذه الجملة! في سابقة لم تحدث من قبل في الأزهر الشريف!
وكانت هذه العبارة الشجاعة الجريئة؛ بسبب مصاريف ونفقات شهر عسل الملك فاروق بعد زواجه، والذي استمر ثلاثة عشر أسبوعًا على شواطئ فرنسا، بينما كان الشعب يئن من وطاة الفقر والجوع والحرمان. وكانت الصحف المصرية قد تناولت الموضوع بنشر مجموعة صور للملك وهو يقوم برحلة شهر العسل في وقت كان الشعب المصري، وهو ما جعل الشيخ عبد المجيد سليم يطلق تصريحه الشهير الذي أوجع الملك فاروق، ومن ثم كان سببًا في التعجيل بعزله، وهذا ما جعل شيخنا يعد أول من تصدى للسلطة وانتقاد الملك...
- ما روي أن النقراشي باشا- رئيس الوزراء في ذلك الوقت- استدعى شيخنا-رحمه الله- ذات يوم ليوافق على رغبة ملكية طائشة، ووعده أنه سوف يتم صرف مكافآته المؤجلة سنين عديدة من الأوقاف! مقابل مشيخته للأحناف بالأزهر مدة طويلة! ولكن الشيخ رأى أن تلك الرغبة ليست في مصلحة الأزهر فأبدى غضبه الشديد من هذا العرض، وغادر المكان من دون استئذان. ولما هدده القصر بواسطة بعض رجاله بأن ذلك خطر عليه قال بكل جرأة وثبات: (هل سيحول هذا الخطر بيني وبين المسجد؟ فخجل رجل القصر ولم يجب)؟!
6- ولما ذهب العهد الملكي وجاء العهد الجمهوي! وحاول بعض رجاله أن يتدخل في شؤون الأزهر بما يتعارض مع القانون ومع صالح الأزهر، ولكن الشيخ لم تفارقه شجاعته وصلابته وجرأته فرفض كل تدخل لا يقدر المسؤولية، وطلب منه المنحرفون الاستقالة إذا أصر على الرفض فقدمها عن طيب خاطر.
وبدلاً من أن يُشكر للرجل غيرته سارع المنافقون والانتهازيون الذين يأكلون على كل مائدة فملأوا الجرائد سوادًا بنقده، وأنه معارض للحق، ويقف في وجه عهد التحرير والحرية!
ولكن يأبي الله إلا أن يأتي إنصافه من خارج مصر، حيث كتب مراسل أجنبي مقالاً تحت عنوان «شخصية الأسبوع» في جريدة (البروجريه دايمنش)، أشار فيه إلى مقترحات الشيخ بشأن ما يراه في الإصلاح ومعارضته لما يُملى عليه من أمور لا تتفق والصالح الأزهري.
كما قالت الجريدة ما نصه: «إن الشيخ عبدالمجيد سليم يتمتع بثقة الغالبية من رجال الدين وكبار العلماء، وهو معروف بالتقوى والورع، وما حاول قط أن يفيد لنفسه، إذ جعل همه الأول مصلحة الأزهر قبل مصلحة الأفراد، ومن أجل ذلك كافح في سبيل إنقاذ هذه المؤسسة الدينية، وهو لا يخشى إلا الله، ولا يساوم على كرامته ولذلك يستحق كل تقدير". وقد ترجمته مجلة الرسالة، ونشرته بتاريخ 22/9/1952م أي بعد قيام الثورة بشهرين فقط!
كان الرجل زاهدا في الأضواء متحررا من ذل الحرص ورق الشهرة وأسْر المال، لذلك رفض اختياره عضوا بمجمع اللغة العربية قائلا على استحياء وتواضع «أنا فقيه لا لغوي»
وهل يكون الفقيه فقيها مجتهدا من طراز ذلك العَلَم المتفرد إلا إذا كان لغويا يعرف دقائق التفسير الحقيقي والمجازي للألفاظ.وهذا الموقف الصريح الشجاع من المفتي، وهذا الموقف الصلب الثابت الآمن من شيخ الأزهر حينئذ، يذكرنا أو يدفعنا إلى استدعاء قول أمير الشعراء، رضي الله عنه:
قــــــم فــــــي فـــــم الدنــــيـــا وحَـــــيِّ الأزهـــــــــرا وانثر على سمع الزمان الجوهرا
واخشع مليًّا واقض حقَّ أئمة طلعوا به زُهراً وماجوا أبحُرا
كانوا أجلَّ من الملوك جلالةً وأعزَّ سُلطانا وأفخمَ مظهرا
زمـــــــنُ المــــــخـــــاوفِ كـــــــان فـــيــــه جَــــنـــابُـــهــــم حــــــــرمَ الأمــــانِ و كــــان ظِــــلُّــــهــــمُ الــــــذَّرا
وما زال هذا هو ديدن الأزهر والأزهريين فصاحة وشجاعة في الإعلان عن الحق، وقوة في النهي عن المنكر والوقوف في وجه كل مُسرف ومُترف ومُنْحَلّ، مهما كان شأنه أو مكانه!
أ.د/صبري أبو حسين
أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات
أخبار متعلقة :