بوابة صوت بلادى بأمريكا

محمد فتحي عبدالعال يكتب: صفحات من التاريخ (مقياس النيل)

يعتبر النيل شريان الحياة لمصر والمصريين. كان نهر النيل قديما  يفيض كل عام مما يساعد على ترسيب الطمي المفيد للتربة لكن في المقابل كان ارتفاع مياه الفيضان مدمرا للأراضي والمحاصيل الزراعية وكان انخفاضه أيضا كارثة على الزراعة  . فكان لزاما التفكير في وسيلة لقياس مستوى الفيضان ومن ثم اتخاذ التدابير التي تحول دون اخطاره عبر إقامة القنوات والسدود وكان تحصيل الخراج أي ضريبة الأطيان الزراعية يقاس تبعا لذلك.

يعود الفضل لإنشاء أول مقياس اسلامي  إلى عهد الدولة الأموية وتحديدا زمن الوليد بن عبد الملك بن مروان وقد اقامه عامل الخراج الأموي أسامة بن زيد التنوخي  بجزيرة الروضة أقدم جزر النيل بالقاهرةوكان اختيارها نظرا لكونها هادئة نسبيا وبعيدة عن التدمير من أثر الفيضانات وحتى لا يتسرب إليها كثيرا من الطمي . أما المقياس بصورته  الحالية فيعود للخليفة العباسي المتوكل على الله والذي عهد بإنشائه إلى المهندس أحمد بن محمد الحاسب وقيل أحمد بن كثير الفرغاني  ويذهب البعض لكونهما شخص واحد. و تشير بعض الروايات أن اسم المتوكل  أغفل عن قصد لاحقا أيام أحمد بن طولون أثناء تجديد المقياس وذلك لتأكيد الهيمنة الطولونية والاستقلال عن الخلافة العباسية.

يتكون المقياس من عمود مثمن من الرخام الأبيض مقسم إلى أذرع للقياس ويرتكز العمود على قاعدة من خشب الجميز الذي لا يتأثر بالمياه.

كان بلوغ النيل 16ذراعا هو بشارة وفاء النهر وكانت تقام الاحتفالات ولعل أجمل هذه الاحتفالات ما سنه المعز لدين الله الفاطمي من متابعة الاحتفالات عبر قصر اللؤلؤة ومما يروى أن المعز  وجد أن النداء بشكل يومي على مقدار منسوب النيل من شأنه أن يثير الخوف والهلع بين الناس وترتفع الأسعار وتختفي البضائع من الأسواق  فاختص نفسه بهذه التقارير اليومية والتي يقوم بها عصرا موظف مسؤول يسمى صاحب المقياس على أن ينادى بمنسوب الفيضان على الناس حينما يبلغ حد الوفاء. بعد المجاعة المستنصرية التي اجتاحت مصر إثر انخفاض منسوب النيل بشدة  تم تجديد المقياس وبنى القائد بدر الدين الجمالي بجواره مسجد المقياس أما في العصر المملوكي فكان المقياس الرسمي بالبلاد وقد أقام الظاهر بيبرس قبة رفيعة مزخرفة بالمقياس.

الطريف أن السلطان المملوكي خشقدم ومع تأخر فيضان النيل أصدر أوامره بالكف عن المعاصي والتنكيل بمرتكبيها كما أمر القضاة والعلماء بالذهاب للمقياس والدعاء فلما طال الوقت عن اسبوعين ووقع الغلاء وعز الخبز في الاسواق فانتوى أن يهدم المقياس حتى يتوقف الناس عن متابعة الزيادة والنقصان لكنه تراجع وتمهل حتى أوفى النيل  .

ومع أواخر عهد الدولة المملوكية كان الاهتمام بالمقياس متزايدا فكان  السلطان قنصوه الغوري يكثر من الذهاب إليه وقد شيد قصرا على بسطة المقياس ومسجدا ومع دخول العثمانيين مصر سار سليم الأول على نفس الخطى من كثرة الزيارة  كما أنشأ قصرا من الخشب فوق قصر الغوري.

نال المقياس حظا من تسجيلات الرحالة ومنهم الرحالة الدنماركي نوردن عام 1737 ثم كتاب وصف مصر النتاج العلمي الفريد للحملة الفرنسية على مصر عام 1798 وقد عمل الفرنسيون على رفع كفاءة المقياس عبر إزالة الطمي المتراكم في قاعه وتطهير الحوض ووضعوا مكعب من الرخام الأبيض بارتفاع ذراعا واحدا  أعلى تاج العمود وتولى ذلك  لوبير  كبير المهندسين الفرنسيين.

استمر المقياس يؤدي عمله الهام حتى بناء السد العالي عام 1960والذي حمى الأراضي الزراعية من الفيضانات ليصبح المقياس بعد ذلك معلما أثريا فريدا هو ثاني أقدم الآثار الإسلامية المصرية.

المراجع والمصادر :

النجوم الزاهرة لابن تغري بردي

كتاب وصف مصر علماء الحملة الفرنسية على مصر

عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي

 

 

د. محمد فتحي عبد العال

كاتب وباحث مصري

أخبار متعلقة :