لا ينظر شاعرُنا لبنية البيت وحده منفصلًا عن بقية أبيات القصيدة كما يفعل كثير ممن يظنون أنفسهم حمَلةَ لواء الشعر والمدافعين عنه، يعتقدون أن الله خصهم بهذا الفن دون سائر خلقه، فطفقوا يستعرضون مواهبهم في غزو المعاجم والمواقع الالكترونية التي تقدم لهم وجبًة دسمًة من الألفاظ دون وعي أو فكر فيجئ نظمهم آية في الإلغاز؛ إذ لا يجمع بين القصيدة إلا نغمة بحرٍ واحدٍ وإيقاعِ رويٍّ موحد، وحسب الناظم منهم أن يلفق في قصيدته تلك التلفيقات، فإذا تم له ذلك فهو شاعر الشعراء وحامل اللواء وتبًا للموهبة، وعفاءً بعد ذلك على الأذواق، وهل للناس عقول؟!
تقرأ لهؤلاء نصًا محاولًا إيجاد ما يربط بين أبياته - غير النغمات التي تتردد بانتظام - فلا تجد، وليس هذا بشعر الخلود، فليعلم هؤلاء النظّامون ومَن على شاكلتهم أن " القصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته، ولا يُغْني عنه غيره في موضعه إلا كما تُغْني الأذُنُ عن العين، أو القدم عن الكف أو القلب عن المعدة. أو هي كالبيت المقسَّم، لكل حجرة منه مكانها وفائدتها وهندستها، ولا قِوام لفن بغير ذلك، حتى فنون الهمَج المتأدبين، فإنك تراهم يلائمون بين ألوان الخرز وأقداره في تنسيق عقودهم وحليهم ولا ينظمونه جزافًا، إلا حيث تنزل بهم عماية الوحشية إلى حضيضها الأدنى، وليس دون ذلك غاية في الجهالة ودمامة الفطرة. ومتى طلبت هذه الوحدة المعنوية في الشعر فلم تجدها؛ فاعلم أنه ألفاظ لا تنطوي على خاطر مطرد أو شعور كامل الحياة، بل هو كأمشاج الجنين المخدج بعضها شبيه ببعض، أو كأجزاء الخلايا الحيوية الدنيئة لا يتميز لها عضو ولا تنقسم فيها وظائف وأجهزة، وكلما استقل الشيء في مرتبة الخلق صعب التمييز بين أجزائه؛ فالجماد كل ذرة منه شبيهة بأخواتها في اللون والتركيب، صالحة لأن تحل في أي مكان من البنية التي هي فيها، فإذا ارتقيت إلى النبات ألفيت للورق شكلًا خلافَ شكل الجذوع، وللألياف وظيفة غير وظيفة النوار، وهكذا حتى يبلغ التباين أتمه في أشرف المخلوقات وأحسنها تركيبًا وتقويمًا، وهي سُنة تتمشى في أجناس الناس كما تتمشى في أنواع المخلوقات، ومصداق ذلك ما نشاهده من تقارب الأقوام المتأخرة في السحنة والملامح، حتى لتكاد تشتبه وجوههم جميعًا على الناظر، وهي حقيقة فطنت إليها قبائل البدو بالبداهة" (1)
على أحمد شاعرٌ مطبوعٌ يدرك أن ثمّ فرقًا بين الشاعر بوصفه ترجمان المشاعر؛ بل هو من يرصد أخص المشاعر الإنسانية وأعمقها وبين البنّاء والمقاول الذي يحسن رصّ الحجارة وتصميم البيوت، فإذا لم يكن فرقٌ بين الشاعر والبنّاء فلَعمري إنها طامة كبرى وجريرة لم يَجْنها على فن العربية الأول إلا زغل النظّامين وأنصاف الشعراء.
يُعنى صديقنا برصد ما يشعر به ويعتمل في نفسه من أحاسيس ومشاعر، في وحده فنية محكمة، يترجم ذلك كله في صورة بديعة لغًة وموسيقًى وخيالًا، وتنظر في شعره فيبهرك ذلك الرابط النفسي والشعوري الذي يجمع بين القصيدة في لغة سلسة وموسيقى طروب، فتأتي قصائده لوحاتٍ فنيًة تنطق بهذا الجمال، فيها ماء الشعر ورونقه وجلاله وبهاؤه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الديوان في الأدب والنقد للعقاد والمازني.
أخبار متعلقة :