قديما كتب جان جاك روسو في مقدمة سيرته الذاتية وعنوانها «اعترافات جان-جاك روسو الحاوية تفاصيل أحداث حياته وأحاسيسه الدفينة في جميع المواقف التي واجهته»: (أنا أفعل شيئا لم يفعله شخص قبلي ولن يقدر شخص بعدي على تقليده) ومن العنوان والمقدمة يبدو جليا أن الرجل سار في دروب تجريد الذات والصدق مع النفس والشجاعة في إعادة تقييم نفسه والوقوف على ما كان صائبا وما كان خاطئا.
نادرا ما نجد لتحدي روسو صدى في جملة ما يصدر من مذكرات لشخصيات سياسية او اجتماعية بارزه فهم دائما في موقع الدفاع عن أنفسهم وإحاطتها بهالات البطولة والصواب الدائم والمثالية الكاملة.
لذلك يتبادر السؤال هل يمكن اعتبار المذكرات السياسية من مصادر كتابة التاريخ؟
بالنظر إلى الصبغة الشخصية للمذكرات وما يحيط بها من انحيازية وتبرير الأخطاء وتقمص الأدوار وتعظيم الذات أي ما يمكن أن نسميه غياب الوازع الأخلاقي لذا فينبغي توخي الحذر عند الاستعانة بها.
إضافة إلى أن المذكرات عادة ما تكتب بعد سنوات من حدوثها مما يوقع الكاتب عن غير قصد منه في كثير من الخطأ والإلتباس مما يجعل المذكرات ليست المصدر الأساسي لضم أي قصة أو حدث لكتب التاريخ.
بطل فارس بلا جواد
في عام 2002 قدم الفنان المصري محمد صبحي مسلسل (فارس بلا جواد) والذي أحدث ضجة كبيرة بالأوساط العربية والدولية وقتها لسببين لاتهامه بمعاداة السامية حيث تحدث المسلسل عن بروتوكولات حكماء صهيون ومن ناحية أخرى لانه أحيا سيرة الأديب المحتال (حافظ نجيب) ولكن في ثوب وطني ونضالي بعيد كل البعد عن حقيقة شخصية حافظ نجيب وما سطره بنفسه في اعترافاته على صحفه او في مذكراته التي نشرت بعد وفاته.
فمن هو حافظ نجيب الحقيقي؟
هو أديب ومسرحي مصري بدأ حياته في قصر تركي فوالده هو محمد نجيب الضابط المصري بحرس الخديو اسماعيل وأمه ملك هانم ابنة أحد الباشوات الأتراك ومع غضب زوجة الباشا على والد حافظ لسوء سلوكه وطرده من القصر تحولت حياة والدة حافظ و كان حافظ لازال جنينا في بطنها إلى جحيم حيث طالبتها الأم باجهاض الجنين فتشبثت به ولم تلبث أن ماتت عقب ولادته فشعرت الأم بتأنيب الضمير بعد وفاة ابنتها فاحتضنت الطفل وتعهدته بالرعاية ولكن الأمور تسير في اتجاه اعتبره حافظ المأساة الكبرى التي علق عليها كل خطايا حياته وذلك حينما انتقل إلى حضانة والده وأصبح في بيت جده بطهطا وصب عليهما جام غضبه والسبب كان الفقر المدقع الذي غمره بسببهما بعد أن كان في رغد العيش مع جدته أم والدته التركية...
وأثناء التحاق حافظ بالمدرسة الحربية تعرف بالاميرة الروسية فيزنسكي زوجة احد القناصل والتي كانت تكبره بسنوات عديده ونشأت بينهما علاقة آثمة بعد أن خدرته الأميرة ليجد نفسه في فراشها!! على أثر ذلك أرسلته الأميرة ليلتحق بالجيش التركي بالأستانة ثم لإتمام دراسته في كلية سان سير بفرنسا وهناك جندته فرنسا كجاسوس على الألمان وتلقى تدريبا عاليا وتقمص دور خادم أخرس لكن الألمان كشفوا أمره وقبضوا عليه ولكن الفرنسيون نجحوا في تهريبه إلى مصر.. دب الخلاف بين حافظ والأميرة الروسية نتيجة لعلاقاته النسائية المتعددة فوجد نفسه في سلسلة من القضايا الملفقة ومطاردا من البوليس ووصل الأمر بالأميرة إلى محاولة اغتياله... وهنا نجد أنفسنا أمام مساحة كبيرة من اللا منطق في هذه المذكرات فقد حمل حافظ نجيب كل قضايا النصب والإحتيال التي اتهم فيها وحكم عليه بسببها للأميرة الروسية التي ربما كانت من نسيج خياله الخصب والحقيقة أن المتتبع لما كتبه حافظ نجيب بشكل قصص او اعترافات في مجلتيه الحاوي والعلمين أو بعد ذلك في مذكراته يجد القصص ذاتها ولكن بأسماء مختلفة وتفاصيل بعيدة عن التصديق و متناقضة أحيانا ففزنسكي مثلا هي زهرة هانم في قصة نشرها عام 1925.
هذا بالإضافة لكم هائل من المغامرات مع سيدات من جنسيات شتى فرنسية واسبانية وروسية ويهودية والحقيقة أن من يلقى نظرة عابرة على صورة حافظ نجيب في شبابه سيصاب بالدهشة فملامحه لم تكن ترتقي للحد الأدنى من الوسامة التي توقع كل هذه النساء في غرامه من الوهلة الأولى فيبذلون كل الأموال من أجله!!!
ليس هذا ما يعنينا في هذه المذكرات والتي وصفها البعض بأنها واحدة من أغرب مذكرات القرن الماضي ولكن ما يهمنا هو إقدام حافظ نجيب على الاختباء داخل الدير وانتحال شخصية راهب داخله وهو الأمر المحير والمدهش وقد علل ذلك حافظ نجيب بأنها فرصة ليصبح مطران الحبشة ويحرر السودان ومصر بحسب سر خطير جمعه بزعماء الحركة الوطنية وقتها!! وأحدهما كان على فراش مرضه الأخير وسنناقش ذلك فيما بعد بشكل تفصيلي...
وفي سياق أخر نجده يهذي بعبارات غير متزنه حول الأسباب فيقول حافظ: (أنا رجل بدون عقيدة وبدون دين، لم تؤثِّر فيَّ الوراثة؛ لأنني لم أنشأ نشأة مُنظمة، في حياة عائلية تُكوِّن أبناءها بالتربية، وتُكوِّن سلوكهم بتأثير العادات والتقاليد. ولم تُعَلِّمْني المدرسة تعليمًا دينيًّا يُثَبِّت فيَّ عقيدة ويُكَوِّن لي مبدأ … واضطراب حياتي وجميع ظروفي على ظهر الأرض لم تسنح فيها فرصة تحدوني إلى الاطلاع على كتاب ديني … اليهودي والمسيحي والمسلم يعبدون الإله الخالق وما دمت عاجزًا عن الجزم بأي أنواع العبادة هي الأدنى للحقيقة فلماذا لا أجعل هذا العجز سببا منطقيا أستند عليه في عبادة الله الخالق وحده الشائع في عقائد اليهود والمسيحيين معا) !!
أما جورج طنوس صاحب كتاب : (نابغة المحتالين أو حافظ نجيب) والذي صدر في حياة نجيب نفسه فيذهب إلى أن دخول حافظ الدير كان بسبب احتياله على راقصة تعمل في الملاهي العامة!!
دخل حافظ نجيب الدير وتسمي باسم غبريال ابراهيم ثم بالراهب فلتاؤوس وبعد وقت قصير من إلتحاقه بالدير فوجئ بموت الزعيم مصطفي كامل فرثاه بقصيدتين رآها رئيس الدير وأعجب بها وسارع بنشرها بإحدي الصحف مما أحدث ضجة وقتها حيث فسرها البعض بخروج عن تقاليد الرهبنة من ضرورة اعتزال العالم فاستدعاه البابا كيرلس الخامس وخاطبه بالمسيو متشككا من إيمانه. كما تحدث نجيب عن استعانة محمد فريد به لتلطيف تداعيات رسالة للشيخ عبد العزيز جاويش بعنوان (الإسلام غريب في بلاده) وما بها من هجوم على الاقباط وتأجيج للمشاعر الطائفية.
كما يتحدث عن غضب محمد فريد عليه بعد تركه للدير وطرده له من منزله قائلا :
(لقد ذهبت إلى الدير لتختفي فيه وتعتزل العالم وقتا طويلا لينساك الناس ولتصل من الدير إلى الهدف الذي تهدف إليه، فمن الحماقة التي لا تغتفر ما فعلت لأنه أحدث ضجة تمنعك من البقاء فى الدير)
سنتوقف عند المحطة الوطنية المزعومة لنحدد مدى دقة هذه المذكرات من الناحية التاريخية؟
على الطريقة التي اعتادها نجيب في تقديم رواياته البوليسية عبر اصطناع التشويق وجذب الانتباه فقد كتب ثلاثة جمل أثاروا فضول الكثير من الكتاب والمؤرخين فعندما حسم أمره بالذهاب إلى الدير قرر أن يعرض الأمر على الزعماء المشتغلين بالسياسة من منشئ الحركة الوطنية فوافقوه على رأيه وقال أحدهم : يجوز أن يكون الدير وسيلة لذهابك في منصب مطران الحبشة وذلك البلد لا يزال مستقلا ومنصب المطران هناك منصب عظيم جدا واحترام الاحباش للجالس على كرسي المطرانية أعظم من اجلالهم للجالس على العرش وقال الثاني وهو على فراش مرضه الأخير : وفي مقدور المطران المثقف ثقافة عالية أن ينشئ هناك جيشا يعلم ضباطه في النمسا أو ألمانيا فيصير في مقدوره اغتصاب السودان.. وانقاذ مصر من المحتلين؟
وقال الأول : هذا سر خطير فاحتفظ به لنفسك ولا تيسر لأي صديق معرفته..
ولم يصرح حافظ نجيب بأسماء الشخصين تاركا لشهية الباحثين مهمة التخمين فاستقرت الغالبية منهم أنه يقصد بالزعيم الذي على فراش الموت الزعيم المصري مصطفى كامل أما الأخر فهو الزعيم محمد فريد والذي صرح بأسمه في أكثر من موضع ..
نظرة عامة للعلاقات المصرية الإثيوبية في هذه الحقبة وما سبقها نستطيع أن نخلص منها إلى سذاجة السر الذي احتفظ به نجيب ووهن هذا التصور الذي لا يمكن أن يصدر من زعيمين على هذا القدر من المعرفة والخبرة الصحفية و السياسية.
بحسب كتاب المسألة الحبشية للمحامي والصحفي المصري عبد الله حسين الصادر عام 1935 فإن أقدم مواجهة بين الجيش المصري بقيادة الملك المصري (تفنخت) بالوجه البحري والجيش الإثيوبي بقيادة الملك الإثيوبي (بيعنجي) عام 720 قبل الميلاد وذلك في أعقاب اجتياح الأول لاملاك الثاني في بلاد الصعيد والتي كانت تدين لمملكة أثيوبيا في ذلك الوقت ودارت معركة حربية هائلة بالنيل كانت الغلبة فيها للجانب الأثيوبي مما زادت من مطامع ملك أثيوبيا باخضاع القطر المصري كله لمملكته فدخل منف عنوة بعد هزيمة كبيرة للجانب المصري ودخل بيعنخي معبد بتاح وقدم له القرابين وكان لهذه الهزيمة أثر كبير في مسارعة أمراء الوجه البحري لتقديم فروض الطاعة والولاء لملكهم الجديد ثم تقدم إلى عين شمس فأرسل إليه تفنخت ملك مصر يطلب منه العفو قائلا : (اكتم غيظك فإني وجل من رؤيتك لعدم مقاومتي نار حربك وامتلأ قلبي بفزعك فأسألك العفو عني) واقسم أن يدخل في طاعته ويعترف بسلطانه فعفا عنه وبعد أن لبث الملك الأثيوبي زمنا بمصر حن إلى وطنه بمدينة نبتة فعاد إليها و سلم الحكم لتفنخت المصري من جديد والذي نجح في الاستقلال بالوجه البحري مرة أخرى وبوفاته خلفه ابنه (بوكوريس) مؤسس العائلة الرابعة والعشرين.
عادت أثيوبيا لغزو مصر مرة أخرى بقيادة الملك (شاباكا) أخي بيعنخي وزوج ابنته فاستعاد حكم مصر من جديد وأسر ملكها بوكوريس ودفنه حيا وأسس للأسرة الخامسة والعشرين ولكن سرعان ما انهزم شاباكا أمام الآشوريين...
وفي العصر الحديث وتحديدا في عهد الخديو اسماعيل عادت الحرب بين الطرفين من جديد بدأ الصراع برغبة إمبراطور الحبشة يوحنا في بسط نفوذه على البحر الأحمر عبر إنشاء ميناء خاص ببلاده عليه فرأي إسماعيل في ذلك تهديدا لنفوذه فأضمر في نفسه احتلال الحبشة فأرسل حملتين واحدة تلو الأخرى الأولى بقيادة أرندروب بك على جونديت والثانية بقيادة منزنجر باشا ومني إسماعيل بهزيمة ساحقة في الحملتين وأبيد أكثر القوات المصرية المرسلة كما قتل قائدا الحملتين.. قرر إسماعيل الثأر لكرامته للمرة الثالثة فحرك جيشا جرارا بقيادة السردار راتب باشا والجنرال الأمريكي لورنج باشا والامير حسن ابن الخديو لتتكرر المأساة ويهزم الجيش المصري في بلدة قورع وانتهى الأمر بالصلح بين البلدين ولكن نالت الهزيمة من هيبة مصر بشكل كبير.
الغريب أن في عام 1902 وهو تاريخ ليس ببعيد عن حياة الزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد تم توقيع معاهدة بشأن الحدود المصرية مع الحبشة لوضع حد لمطامع الحبشة في السيطرة على النيل وتعهد فيها ملك الحبشة بعدم تشييد أو السماح بتشييد أي عمل على النيل الأزرق وبحيرة تسانا أو نهر السوباط من شأنه عرقلة جريان المياه إلى النيل ألا بموافقة بريطانيا وحكومة مصر بالسودان.
تاريخ كهذا من التوجس والصراع والحروب والمطامع رسخ في وجدان الشعبين عدم الأمان وعدم التعاون وبالتالي فمن غير المعقول أن يذهب أي عاقل بفكره إلى انشاء جيش اثيوبي لاستعمار السودان ومصر بدلا من الانجليز!!!
كما أن الاعتماد على الكنيسة الإثيوبية كطرف لاعب فمتى كانت لها هذه القوة والتأثير في مجريات الأمور.
نخلص من هذا إلى أن ما تحويه هذه المذكرات من شذرات لموقف بطولي هو محض خيال من كاتبها وهنا مكمن الخطورة فالوازع الأخلاقي أمر هام حينما نكتب التاريخ فالتاريخ أمانة ونقله مهمة عظيمة لذا فحينما نبني على مذكرات تاريخا كاملا ونحوله إلى دراما يراها الملايين حول العالم ونقدم لهم شخصا ليس له أي ماضي وطني باعتباره بطلا شعبيا شارك في أحداث وطنه وأمته العربية فهذا تشويه وعبث بالتاريخ .
د. محمد فتحي عبد العال
أخبار متعلقة :