لا شك أن من أهم وأخطر التحديات التى تواجه المجتمع المصرى فى معركته مع فيروس “كورونا” تلك الثقافة التى بُنِيَت على التمرد والعصيان لكل أمر دعت إليهِ السُلطة.. فحجم الصراعات والمعارك التى خاضها المصريون ضد الاستعمار وضد الأوبئة على مر التاريخ جعلته يُوقِنُ بأن الأزمات مهما اشتدت فإنها إلى زوال.
كما جعلته يتشكك دائما فى نوايا المسئولين وأصحاب النفوذ.. لتظل الثقة بين السلطة والشعب هى المحك الذى يجب أن نعمل على إحياءه من جديد.. فى ظل دولة تتغير بالكامل لصالح المواطن ونظام كامل يعمل لأجله بشفافية وإخلاص. ولا يحول بينه وبين الشعب سوى ثقافة العصيان والتمرد، حتى وإن كان الأمر يتعلق بالبقاء على قيد الحياة.
لقد ارتأت الدولة المصرية بعد انتصارها على العدوان الإسرائيلي أن عدوها الوحيد هو اقتصادها الوطني المتراجع، ولم تنتبه على الاطلاق إلى أن لها أعداء أُخر.. ربما كانوا أشد شراسة.. ولم تفق من غفلتها إلا باغتيال رأس الدولة عام 1981.
لتدرك أن ثمة عدو أخر اسمه الفكر المتطرف الذى حقق انتصارا تاريخيا لم تشهده الدولة المصرية ربما منذ عهد الدولة الفاطمية.. فكر لم يهتم أنصاره باقتصادهم الوطني المتراجع، بقدر اهتمامهم برأس الدولة المتخاذل فى تصورهم آنذاك.
وهنا فقد أعدت الدولة عدتها لمحاربة الإرهاب كعدوٍ استراتيجي جديد، لا يقل ضراوة عن اقتصادها المتراجع.. فإذا كان بعض الكُتَاب قد رأى أن الدولة قد نجحت أنداك فى دحض الإرهاب.. فإنني أرى أن الدولة قد نجحت فى إبادة أشخاصاً مارسوا الإرهاب ضد الدولة.. لكنها لم تنجح مُطلقا فى الانتصار على الفكر المتطرف الذى صنع هؤلاء الأشخاص، والذي هو قادرعلى إنتاج المزيد منهم.
فربما تراجع “المتشددون” فكرياً عن أعمالهم العنيفة خوفاً من القمع، لكنه أبداً لم تتراجع الأكثرية عن قناعة.. وإن ما حدث فى السجون ليس “غسيل أدمغة” كما يعتقد البعض.. لكنه تهذيب قسري لمظاهر السلوك.. حيث تغير السلوك ولم يمت الفكر، بل تَجّذَر فى الخفاء لينتظر فرصة الانطلاق مجدداً.
وهنا كانت ثوررتا يناير و30 يونيو نقطتان فاصلتان لانطلاق الفكر المتطرف، يسجل فيهما الواقع انتصار الثقافة على الإقتصاد.. ويكشف لنا أن الدولة حين ركزت جهودها على الإقتصاد، دونما تركيز على الفكر والثقافة؛ فقد كانت تسير فى الطريق الغلط.!
لم يكن الاقتصاد وحده هو العدو الحقيقي للدولة المصرية، ولا الإرهاب الذى يستهدف رأس الدولة.. لكنى أعتقد أن الثقافة هى عدونا الحقيقي، الذى كان يجب على الدولة أن تؤسس لمحاربته فور الإنتهاء من حرب أكتوبر. تلك الثقافة التى باتت فى ظل سياسات الانفتاح تحكمها “النفعية” حتى وإن أضرت بالمصلحة العليا للوطن.
حيث أنها كرست ثقافة الاستهلاك والاستسهال والإستهبال.. وجعلت المنتج الأجنبى ينتصر على المنتج المحلى، فى أول طلعة اقتصادية لسياسات الانفتاح التى قوضت صناعتنا الوطنية، متمثلة فى شركة النصر للسيارات وقَهَا وأخواتها، وأُصيبَت مصانع نسيج المحلة الكبرى فى مقتل!
لم تفشل الدولة منذ السبعينيات فقط فى وضع رؤية اقتصادية واضحة المعالم، للنهوض بالاقتصاد الوطني، من خلال رفع معدلات الإنتاج والتصنيع، لكنها فشلت أيضا فى وضع تصور للشخصية التى يجب أن يكون عليها الإنسان المصرى. من خلال العمل على الارتقاء بفكره وتعليمه وصحته وسلوكياته العامة.
وكما أهملت الدولة التطوير والارتقاء بالمنتج المحلي؛ أهملت أيضا التطوير والارتقاء بثقافة الإنسان المصري، وتركت الأمر برمته للإعلام غير الموجه والفوضوي أحيانا، يتلاعب بعقول المواطنين وبأفكارهم، ويُشَكِل بشكل عشوائي سماتهم الشخصية؛ حتى صارت الفجوة بين كل مواطن وأخر تتسع يوماً بعد الأخر، بنفس القدر الذي اتسعت فيه الفجوة بين الشعب والسلطة.
والكارثة ليست فقط فى تجاهل الدولة لأهمية الثقافة فى بناء الإنسان، بل فى إنها ترى أن هذه الفجوات بين الثقافات تمثل تنوعاً ثقافياً محموداً، دون أن يصيبها القلق بأن هذه الفجوات ربما تفضى إلى تعددية ثقافية قميئة؛ قد تصنع حربا داخلية شرسة بين تلك الثقافات.
وهذا ما آلت إليه الأوضاع إبان ثورة يناير. حينما كشفت تلك الثقافات عن وجهها القبيح، فخَوّن الكُل البعض، وكَفّرَ البعض الكُل، واستحل المتطرفون دماء المجندين، كما استحل الأغنياء عرق الفقراء، واستحل الفقراء الاحتيال على الأغنياء.. واستثمر المتآمرون عقول البسطاء.. واستغل أنصاف الموهبون بساطة الدهماء!
لم تنتبه الدولة إلى أن قوتها الحقيقية فى ثقافة شعبها.. وأن بقائها مرتبط بتحضر مواطنيها وليس بإنحطاطهم.. وأن الثقافة وحدها قادرة على أن تحول المجتمع إلى فردوس.. وهى وحدها القادرة على تحويله إلى جهنم.. فالثقافة ليست مفهوما انعزالياً ولا إقصائياً، ولا يمكن أن يغرد أصحابها بشكل منفرد.
وإنما هى مفهوم “اشتباكي” يرتبط بثقافة العمل والانتاج، والتعليم والتعلم، وتعامل الانسان مع أخيه الانسان، ومع المجتمع الذى يعيش فيه، وفى علاقته بالدولة التى تحكمه، وبالعالم الخارجي الذى يستهدف كلاهما التأثير فى الأخر.
لن نخرج أبدا من كبوتنا الاقتصادية والاجتماعية دون أن نتفق على هُوِية ثقافية نهضوية واحدة.. نحدد جميعا مرجعيتها.. كما نحدد آليات نقلها إلى المجتمع، وتناقلها بين المواطنين. ثقافة نحدد معالمها جميعاً. فى خطة استراتيجية وطنية فعالة، لإعادة إنتاج المواطن المصرى الصالح محليا وإقليمياً ودوليا..
المواطن القادر على تخطى الأزمات وليس المتخصص فى إنتاجها.. المواطن الذى يعمل ليس بغرض البقاء على قيد الحياة فقط.. بل الذي يعمل من أجل المساهمة فى بناء حضارة وطنية جديدة، تتناسب مع الحضارات الإنسانية المعاصرة، التى تقوم على التكنولوجيا وعالم الاتصالات، والقدرة على التواصل اللامحدود، بل وتتنافس معها!
ثقافة لا تجعل شيوخ الزوايا يحددون أيُنا يذهب إلى الجنة وأيُنا يذهب إلى الجحيم.. ثقافة تتجذر فى مناهج التعليم بشتى مراحله، وفى خطب المساجد والكنائس، وفى مقالاتنا الصحافية، وفى آدابنا المختلفة من مسرح وسينما وتلفزيون، وما يُبَثَ على مسامع المواطنين من برامج مُوَجَهة نحو صناعة الإنسان المصرى الذى نستهدفه..
إن صناعة الثقافة التى نرجوها لا يجب أن تكون حكرا على مؤسسة بعينها، ولا يجب أن يؤسس لها ويرسمها شخص واحد بعينه.. بل يجب أن تكون رؤية عامة للدولة المصرية، تلتزم بتنفيذها كل مؤسسات الدولة. تتشابك فيه وزارة الثقافة مع كل السياسات والخطط والبرامج والمناهج؛ للتأكد من تجذر الثقافة التى نرجوها فى كل أعمال تلك المؤسسات..
لا يجب على الدولة إذاً أن تترك الإعلام طليقاً، يشكل وعى المواطنين وثقافتهم، حسب ما يروق لكل إعلامي أو مالك لمحطة فضائية.. بل لابد أن تكون برامجنا موجهة نحو صناعة المواطن الذى نرجوه.. وندرك أن الاهتمام بثقافة الإنسان ليست ترفاً وإنما هى مسألة وجود!
أخبار متعلقة :