لم تنقطع دموع " فجر " على ابنها "علي" .. حتى مع الدموع ، إزدان وجهها بشباب وحلاوة صبية لم تبلغ العشرين من عمرها، بالرغم من بلوغها الثانية والأربعين.. هذا ما تقوله شهادة ميلادها .. لكن الجمال والفتنة يكذبانها ويشككان في صحتها . تزوجت من جاد الكومي وهي في السادسة عشر من عمرها ، بفارق يزيد عن خمسة عشر عام بين عمريهما ، كانت في السادسة عشرة لكن الطبيعة غمرتها بجمال يتهافت عليه كل من يراه ، المقاييس المضبوطة للأنثى ، لا تقل ولا تزيد . لم تضن على ابنتها ناديه ، أورثتها كل ما عندها وزادت عليه ، فتبعثرت غرائز الرجال أسفل قدميها ، وطافت روح سليم عفيفة حولها. نظر جاد إلى دموع زوجته بدهشة ممزوجة بالرضا ، هذه المرة الأولي التي يرى فيها الدموع تغسل وجهها وتتساقط كنقرات المطر فوق الأرض ، لم يستطع أن يرفع رأسه أمامها أبدا ، قوية عرفت كيف تركعه تحت قدميها ، رضخ لخيانتها وباركها ، طوى شرف الرجل الصعيدي الذي تسيل له الدماء كالأنهار في جلبابه الوحيد الذي هرب به من قريته وألقى به في الماء ليخمد أنفاسه للأبد . رحل في رحلة للبحث عن المال والمتعة ، حقق فوق ما يصبو من المال وزادت شهيته له ، ربحهُ من المتاجرة بزوجته أضعاف ما ربحه من عمله . المتعة حصل عليها بين أحضان زوجته فجر ، لم يفكر كثيرا في أن هذه الأحضان تضم رجالا آخرين غيره ، الحصول على المتعة منها كلفه وصمة على جبينه تصرخ بأعلى صوتها .. رجل منزوع الكرامة والشرف .. تذوق الهوى كان بالنسبة له منحة وليس حق ، عليه أن يغمض عينيه عن سلوكها ، وألا فلن يذق سوى الذل تحت كعبي قدميها الحمراوين كحبات الطماطم ، تنسحق توسلاته تحت وطأة عنادها ورفضها ، مع الأيام انسحقت بداخله نخوة الرجال وبعثرتها الريح فوق الأشواك ، تمكنت فجر من أسر حريته بين يديها ، لا تطلق له منها إلا بمقياس لا يبعده كثيرا عن دائرة نفوذها الجبار . قَبل السفر للعمل في إحدى البلاد مع المقاول فرحات ، وهو يعلم تمام العلم بأن هذه الرحلة ستجلب مزيد من العشاق إلى فراشه ، الذكاء حالفه وتحقق ما فكر فيه بعقليته الأسيرة تحت ثياب فجر . لم يصبح المقاول فرحات هو العاشق الوحيد ، إنكمش نصيب فرحات في الفراش وانزوى ، أصبح مثله لا يحصل على المتعة معها إلا إذا رضخ لمطلب لها ، رب العمل الجديد السابح في بحور المال هو الفائز دائما ، تُفتح له الأبواب المغلقة . لم يبخل على رغبتها في أن ترقد فوق فراش ووسائد محشوة بأوراق البنكنوت ، انقلبت المتعة بالنسبة لزوجها جاد لمتعة إفراغ الفراش والوسائد من حشوها ، لإعادة ملئها ثانية ، ليزيد من رصيده الملوث ، يستحسن ذكاء زوجته الراقد تحت قدميها . عادت فجر هي وجاد من بلاد الغربة ، ابتعدا عن الشارع الضيق المطلع على منبتهما ، ليسكنا القصر الجديد تحت إسمي فجر هانم وجاد بك . دموعها المنحدرة بغزارة أمام مصيبة ابنها "علي" ، كادت أن تكشف أمام عينها أن ما حدث ، ربما يكون بداية لعقوبات أخرى قادمة في الطريق لزوجة خائنة وزوج قواد . أوقفت الدموع ونظرت نحو زوجها الحالم برؤية ضعفها ولو للحظات . عادت إليها النظرة القوية الآمرة ، أعادت لزوجها حقيقة واقعة ، بأنه لم يشعر في يوم أنه زوج لها وله حق عليها .. شعور دائم بأنه جوعان إليها ، وبأنها تقصد دائما ألا تتخم شهواته حتى لا يتمرد،، ويمزق القيد وينطلق ليمارس عليها سلطته كزوج كباقي الرجال ، بنفس النظرة القوية أمرته أن يتوجه من فوره ليوكل محام مشهور للدفاع عن إبنها ، جففت الدموع وعادت إلى مرآتها لتصلح من زينتها وتبعثر الأوامر استعدادا للحفل الذي ستقيمه في القصر بمناسبة عودتهما .
*************
اجتمع الجميع في فيلا الدكتور عزيز علوي ، في حفل بسيط لوداع الدكتور سامي وزوجته اليابانية ساكي وابنهما كامي . التأثر يبدو على وجوه الجميع ممزوجا بطيف من الحزن ، دمعة تترقرق في عين السيدة سميحة والدة سامي تحاول أن تسجنها ، تنجح في المغافلة وتهرب بخفة مصطحبة معها بعضا من السواد الذي تطلي به النساء عادة أهدابهن ، يتجمع غيرها وتقتدي بسابقتها ، يعلن الحارس فشله في سجن دموع السيدة سميحة . لم تستطع مقاومة الحزن الذي باغتها فور إعلان سامي قراره للعودة إلى أمريكا هو وزوجته اليابانية وطفلهما . امتلأت نفس الأم بالهناء وهي ترى ولديها سامي وعادل بين ذراعيها ، تفكر بالسعادة التي ستكتمل فور وصول حفيدها من ابنها عادل وزوجته ميرفت . الرياح عكست اتجاهها وذرت بعضا مما تحمله في عين الأم فأدمعتها . قرار سامي وأسرته الرحيل والعودة لأمريكا هز القلوب ، أسروا الجميع بمعشرهم الطيب ، خاصة الزوجة اليابانية التي طاب لها أن تكون واحدة منهم . لم تضع فرصة أبدا في أن تتعلم كل العادات والتقاليد ، تشعر بلذة في تذوق الأطعمة الشرقية جاذبة طفلها كامي لنفس الاتجاه . قطع الكاتب ناجي عنايت حبل الصمت الحزين ، محاولا أن يرسم شبه ابتسامة على شفتيه وهو ينظر إلى سامي قائلا :
_ نحن نعلم عن الدكتور عزيز بأنه مكافح صلب ، تخطى عقبات كثيرة حتى وصل إلي ما هو عليه من نجاح ، ويقولون هذا الشبل من ذاك الأسد ، فلماذا لا تكون أنت هذا الشبل .
قال سامي بلسان متألم :
_ صدقني يا أستاذ عنايت أن العملية ليست هي كفاح أو صلابة ، وإلا كنت لن أسلم بسهولة ، وسأثبت كما تقول بأني الشبل ابن الأسد ..
وقال عادل بلسان أكثر ألما:
_ أنا اعلم الجميع بطباع أخي الكبير سامي ، التي تميزت بالصراحة والوضوح والخط المستقيم في تعاملاته ، كنت أتوقع منه هذا القرار في أي لحظة .
وقال الدكتور عزيز وهو يهز برأسه مؤكدا :
_ نعم ، قابلتني الكثير من المشاكل وتغلبت عليها بعون الله ، لكني ألتمس العذر لابني سامي .. قلت له لا تهرب وأنا متشكك في قولي ، الزمن الذي نشأت فيه يختلف عن هذا الزمن ، خاصة تلك السنوات الأخيرة التي قلبت كل مفاهيم الأخلاق .
وعلق سامي وعيناه تشتركان مع لسانه في الألم :
_ صدقني لو وجدت ثقبا أهرب منه خارج دائرة الحقد والحسد الذي أحاطني به الزملاء ، ما فكرت أبدا في ترك وطني والعودة ثانية لأمريكا ..
قال عناية متأثراً :
_ لا حول ولا قوة إلا بالله .. ما الذي حدث .. لماذا تغيرت نفوس البشر . لقد كنا عنوانا يحتذى به للأخلاق والشهامة والصداقة .. ما الذي حرك كل شيء لعكس اتجاهه .
_ عندما تمتلئ الرؤوس بالماديات طاردة كل المبادئ والمثل ، يجب أن نتوقع كل شيء .
وعلق الدكتور عزيز :
_ وعلينا أن نتوقع الأسوأ .
وانتقلت كلمات سامي إلى العصبية قائلاً :
_ نعم يا أبي هذا هو الواقع المرير ، فكرت أن أعمل كطبيب حر ، لكن وجدت أنني سأفقد كل شيء وسأتحول كالباقين ، لا يهمني في نهاية اليوم سوى أن أحصي ما ربحته من مال على حساب المرض والمرضى . مجالي هو الأبحاث والدراسة والتعليم ، لكن وجدت أن الزملاء صنعوا حلقة حولهم لا يسمحون لأحد بالنفوذ منها ، تناسوا إنني مصري مثلهم وابن بلدهم ، راعني أن أجد الباحثين ينظرون بعين في المجهر والعين الأخرى يراقبونني بها ، ليهدموا مسبقا أي محاولة للنجاح تظهر في أفقي . لا وقت لدىَّ لهذه المهاترات ، قررت الرحيل لأجد مكانا أرحب بين الغرباء للأسف .
وعلقت ميرفت :
_ كل هذا صحيح .. لكن ما ذنبنا نحن بعد أن أحببنا رفقتكم كنت انتظر مولودي بفارغ صبر ليكون أخا أو أختا لكامي .
قالت ساكي بلغة إنجليزية حيث كان معظم الحوار يدور باللغة الإنجليزية لتتمكن من فهم ما يقال :
_ العالم الآن أضيق مما تتصورين ياميرفت ، ومن السهل أن نتبادل الزيارات كل فترة قصيرة ، حتى تظل حبال الود متصلة دائما .
بلغت المأساة قمتها حينما دار الطفل كامي على الجميع يقبلهم ويقول بلهجة عربية مكسرة .. أنا بأحبكم كلكم .
بعد يومين من هذا الحفل رحل سامي وأسرته عائداً إلى أمريكا وبداخله حزن لا يعد ولا يحصي ، بعد أن شجبت الحقيقة أحلام الأمس . عاد إلى وطنه فرحا يحلم بالاستقرار في دفئه ، وهاهو يعود إلى غربته ثانية ، متمتما في داخله أين كنا وأين أصبحنا يا أبناء وطني .
*************
قال سليم وابتسامة مرتعشة تداعب شفتيه :
_أكاد ألامس السحاب فرحا ، وأكاد أهوي إلى جب الظلمة خوفا ..
قالت ناديه والابتهاج يطفح فوق وجهها :
_ الفرح أعلم سببه ، لكن الخوف لا أعلم أي ريح قذفت به ليعكر عينيك.
_ نجاحك الشاهق كبطلة في أول فيلم لك على قدر ما هَنأت نفسي به ، لكنه أثار في داخلي خوف غريزي بأن من وضعت قدمها على نهاية الدرج ، قد تنسي أن تنظر إلى الواقف على الأرض ، ولم تطأ قدماه بعد أول درجة .
قالت ناديه وهيَّ تنقل دفء يديها إلى يديه :
_ التي وصلت لآخر الدرج ، ليست بالغباء بحيث تفرط في الأذرع الحانية الواقفة على الأرض لتتلقفها إذا هوت .
_ أرجو يا حبيبتي ألا تضايقك كلماتي .. فأنا بشر لا أمتلك سوى روح واحدة ، ارتبطت مع روحك برباط لا شيء يقدر أن يفصم بينهما، وبعادك يعني فرار روحي من جسدي ، ولن أجد أمامي سوى باب الموت اقتحمه ،كمن يلج باب الجنة التي ستنهي عذابه .
قالت ناديه محاولة أن تركل خوفه :
_ المفروض أن نحتفل اليوم بنجاحي ، ونجلس فوق بساط التفاؤل لا أن نلقي بغطاء من الحزن فوقنا .. وحتى تطمئن نفسك، أرجو أن تنظر إلىَّ دائما على أنني ابنة الشارع الضيق ، وليس كنجمة وطأت قدماها أبواب الشهرة .. الحب الصادق يطفو دائما فوق أي اعتبار آخر .
_ أليس من حقي أن أفيض بصراحة نفسي تحت قدميك ، قبل أن أغرق ويتملكني اليأس الذي انقشع أمام الطمأنينة التي غرسها حبك في حديقة حياتي ، أقسم لك أن خوفي ليس أنت سببه ، لكن أخشى اعتراض أهلك .
ضحكت ناديه ضحكة أشبه بخليط من الهزء والمرارة وقالت ودمعات ترقرقت داخل عينيها :
_ لا رأي لأهلي في أي شيء يتعلق بي ، اعتدت على ذلك واعتادوا هم عليه ، لأن أهلي أشبه بأجزاء مفككة لا تنتمي لبعضها ولا يمكن تجميعها أبدا ، أمي حتى الآن لا يهمها سوى أن تبذخ على جسدها وجمالها الغجري بما يهيئه دائما ، لتلقي نظرات إعجاب الرجال . أبي فكره يسبح وكرامته مسحولة خلف جمع المزيد من المال . أخي الضابط خالد لا يهمه سوى أن يملأ صندوق رغباته بكل الملذات المحرمة . أما أخي علي فأنه ينتظر الحكم في قضيته ، وقد يريح نفسه ويريحنا من مروقه ببضع سنوات يقضيها خلف القضبان . لا أشعر بأحد قريب من نفسي سوى رشاد أصغرنا ، بيني وبينه محبة وتفاهم . أعجب العجب أن طينته تختلف تماما عن طينة باقي أهل المنزل . اجتمعت فيه كل الخصال الحلوة ، متدين ومحب ، عطوف صادق ، يحاول أن يسد بجسده الهزيل نوافذ الخطيئة داخل منزلنا ، لكن رياحها العاتية تقذف به بعيدا . لا ييأس ويعاود الكرة ، أنهكته المحاولة ، قذف في وجههم برأيه بالرغم من صغر سنه ، أصبح بعدها منبوذا من الجميع ، لا يجد صدر حنون سواي . أساعده وأقويه حتى يستمر في طريقه النظيف ولا يدع قدماه تنزلقان في وحل الباقين ، ما أفكر فيه الآن أن امسك بيده ونفر من هذا المنزل المتهاوي .
علق سليم مستظرفا :
_ بيده لوحده ، وأنا أليس لي في يدك مكان لتمسك بي وتفر إلي عش صغير يجمعنا ..
_ من تربع في القلب لا يحتاج ليد تمسك به ، وأعدك أنه لن يمر وقت طويل حتى نكون في عشنا الجميل بإذن الله .
وإلي اللقاء مع الحلقة القادمة
إدوارد فيلبس جرجس
**********************
أخبار متعلقة :