السؤال كان دائما يتضمن إجابة لشرح عملية التوصل إلى التقدم البشرى، وعظمة العبقرية الإنسانية فى التوصل إلى أولا التحكم فى الطبيعة من حيث الموارد وحتى الزمن والمسافة من خلال ثورات كبرى فى الزراعة والصناعة والتكنولوجيا؛ وثانيا تحقيق التقدم الذى جرى فى مواجهة تحديات الحرب والمجاعة والطاعون، من خلال سياسات لتحقيق السلام الذى يمنع الحرب، والطعام الذى قضى على المجاعة فى معظم دول العالم، والتوصل إلى لقاحات وأدوية تحقق العافية.
وحتى أربعة شهور مضت كان يمكن الإجابة على السؤال «كيف وصلنا إلى الآن» بالإيجاب، وأن المضى قدما كان يعنى المزيد مما فعله الإنسان حتى نصل إلى «آن» جديدة أكثر علما ورقيا ورفعة مما كان عليه الحال قبل سنوات أو عقود وبالتأكيد قرون.
وفى مطلع التسعينيات من القرن الماضى كتب «فرانسيس فوكاياما» عن نهاية التاريخ، ولم يكن يعنى ذلك توقف الأحداث وتواليها أو جمود الحركة الإنسانية، وإنما كان يعنى نهاية الجدل بين الأضداد الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والسياسية الذى يولد قفزات كبرى فى التاريخ البشرى. أصبح التطور الإنسانى خطيا نحو الأمام بعد أن أصبحت العولمة والرأسمالية والدولية الليبرالية والديمقراطية هى علامة العصر وأعلامه التى تقود البشرية إلى جنتها السعيدة.
ولكن قبل عامين تراجع الرجل عن مقولته معلنا انتصار «صمويل هنتنجتون» لأنه عثر على التناقض التاريخى التالى بين الحضارات، وعمليا ما بين «الأصولية الإسلاموية» الإرهابية فى ناحية والغرب والشرق فى ناحية أخرى. «الآن» أصبحت قصة أخرى تماما فى النوع والكم والأطراف، فهى ليست كما كان متوقعا قبل شهرين فقط. إن مجىء «كوفيد ١٩» سوف يكون مجرد وباء آخر مثل ذلك الذى عرفته الكرة الأرضية خلال العقود الماضية من «الإيدز» إلى «السار» إلى«الإيبولا» وأنواع أخرى من إنفلونزا الطيور والخنازير وحتى جنون البقر.
.. هذه كلها كانت تحديات خلقت آليات التعاون معها، فهى استنفرت الجماعة العلمية الطبية العالمية وانتهت إلى لقاحات ودواء يشفى من المرض أو يخفف من نتائجه أو ببساطة يمكن «التعايش» معه.
التجارب القريبة كلها أثبتت أنه من الممكن التغلب على الوباء- إذا حدث- وحصاره ومنعه من الانتشار الكونى، وباختصار أصبحت البشرية جاهزة للتعامل مع ما هو أخطر وأكثر تعقيدا ويفتح الباب لتقدم آخر للجنس البشرى، لأنه مع كل جولة من مكافحة واحد من الأمراض كان يفتح الباب لزيادة عمر الإنسان وقدراته على الإنتاج والإبداع والابتكار. وفى العام الأخير للرئيس باراك أوباما فى الولايات المتحدة أعلن عن برنامج للقضاء على أربعة أمراض تهدد النظام الصحى الأمريكى: السرطان، والزهايمر، والسمنة، والسكرى. لم يكن فيروس الكورونا من بين الأخطار الصحية المتوقعة!
وعلى العكس فقد زادت القناعة بأن الأوبئة تنتمى إلى أزمنة وأجيال مضت، وإذا كان من خطر فإنه يحدث فى الدول الفاشلة، أو دول العالم الثالث؛ وعندما تحدث فإنه يجرى أولا حصارها، ثم تهرع المنظمات الدولية لكى تواجه البلاء فى موطنه، ومعه تحصل المعامل الطبية العالمية على المنح والمساعدات لكى تبحث عن اللقاح والعلاج الملائم. وخلال فترات علاجى فى الولايات المتحدة فإنه فى كل جولة علاجية كان لا بد من الإجابة على السؤال: هل زرت بلدا إفريقيا مؤخرا؟.
وبعد وصول الرئيس ترامب إلى سدة الإدارة الأمريكية فإنه ألغى من بنيان مجلس الأمن القومى الأمريكى ذلك المكتب المسؤول عن وقاية الولايات المتحدة من الأوبئة والأمراض؛ ولم يجد هناك ضرورة لاستمرار القائمين على متابعة الأمراض فى الصين منذ حدث وباء «السار» قبل سنوات.
«الآن» ثبت الفساد الكامل لمنطق أن البشرية فى هذه المرحلة من تطورها لم تعد فى حاجة للحذر من الأوبئة؛ وثبت أن الوباء ليس موجودا فقط ولكن له آثارا اقتصادية واجتماعية أخرى لا تقل خطورة عن الآثار الصحية. للتعامل مع هذه الأزمة المركبة، أصبح «التعايش» مع المرض هو الصيحة العالمية فى دول عانت جميعا من «الجائحة» ولا يبدو أن التعافى منها سوف يحدث فى القريب العاجل؛ ولكنه ليس «التعايش السلمى» الذى كان واحدا من مقترحات التعامل مع تناقضات الحرب الباردة، الأمريكية السوفيتية فى الماضى، أو الأمريكية الصينية فى الحاضر.
فى الظاهر فإن مثل هذه الحالة من العيش تأتى للتعامل مع تناقض التعامل مع المرض، ونتائجه، وأمور أخرى سماها محللون تناقضات «العاصفة الكاملة»- The Perfect storm- التى عندها تلتقى كل التناقضات والتى عند التعامل مع أى واحدة منها تفاقم كل الأخريات. فالمعضلة الأولى التى يجرى حلها هى التعامل مع عامل الزمن، ونفاد الصبر، والرغبة السريعة للشعوب فى العودة إلى الحالة «الطبيعية».
فالحقيقة هى أننا- البشر- بعلمائنا ومعاملنا وجامعاتنا وحكمائنا لا نعرف المرض جيدا بعد، لا زلنا فى دور الاستكشاف، وخلال الأسبوعين الأخيرين تعرفنا على مزيد من الأعراض التى تتقاطع مع أمراض أخرى ووجب التمييز بينها وبين والكورونا، خصائص المرض ذاته وطرق انتشاره ظهرت فيها خصائص جديدة جعلت ما عرفناه من «حقائق» لا تزال ناقصة وليست مدرجة فى عداد الوفيات لأنه جرى حسابها لصالح أمراض أخرى، وجعلت من بعض التجارب، السويدية على سبيل المثال، موضع تساؤلات وكلها تقول إن «الحقيقة» أضخم مما نعرفه حتى الآن سواء كان ذلك على المستوى العالمى أو على مستوى أكثر الدول تقدما فى عالمنا وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
ماذا يقول كل ذلك لنا فى مصر؟.. أولا أن الجهود الحالية التى تقوم بها الحكومة لتحقيق التوازن ما بين مكافحة المرض والسير قدما على طريق التنمية الاقتصادية هى ما بات مستقرا فى التجربة العالمية حتى الآن، ولدينا فإن الجهد المحمود نجح مقارنة بالأرقام فى العالم وفى المنطقة فى أن يجعل الأضرار عند حدها الأدنى ويفتح الباب لدرجة من التقدم المصرى سوف نحتاجها لاستمرار التراكم التنموى فى الدولة. ورغم ما حدث حتى الآن فإن الجنيه المصرى حقق تقدما قدره ٢٪ خلال عام، ولا يزال من أكثر عملات الدول البازغة استقرارا خلال عام ٢٠٢٠.
وثانيا أن مصر قد استفادت من عملية الإصلاح التى قامت بها خلال السنوات الماضية والتى دعمت تنوع اقتصادها وجعلته أكثر استعدادا ليس فقط للتعامل مع الجائحة وإنما أيضا للانطلاق بعدها. وثالثا أن جهد الحكومة والدولة عامة لا بد أن يلازمه جهد شعبى والتزام مجتمعى للتقليل من حجم الخسائر البشرية والمادية خلال المرحلة المقبلة حتى تنتهى مرحلة الاستكشاف الجارية، وينجح أكثر من ٨٠ محاولة عالمية للتوصل إلى اللقاح المانع والدواء الناجع وهما شرطا العودة إلى الحياة الطبيعية؛ وربما ساعتها نصل إلى «طبيعة» أكثر انضباطا والتزاما فى العيش من أى وقت مضى.
أخبار متعلقة :