حسنى حنا يكتب: الكاتدرائية البيزنطية في حلب.. صفحة من تاريخ

حسنى حنا يكتب: الكاتدرائية البيزنطية في حلب.. صفحة من تاريخ
حسنى حنا يكتب: الكاتدرائية البيزنطية في حلب.. صفحة من تاريخ

"ببيتك تليق القداسة يارب".. (مزمور 5: 93)

 

برز في أوائل الثلث الثاني من القرن السابع للميلاد، حدث هام ماكان أحد باستطاعته أن يتكهن أن مثل هذا الحدث، لمن الأمور المحتملة الوقوع. ألا وهو غزو القبائل العربية القادمة صحارى شبه جزيرة العرب لسوريا وبلاد الرافدين ومصر وشمال أفريقيا وغيرها، واحتلالها والبقاء فيها تحت راية الاسلام!

وقد ظل الغزاة الفاتحون بعد ذلك بنحو من نصف قرن، يقيمون الصلاة في كنائس حولوها الى مساجد ولم يعمدوا في هذه الأثناء الى بناء مسجد ما!..

والسؤال الآن هو: أين اختفت مئات بل آلاف الكنائس والأديرة والأماكن المقدسة الآخرى، في البلدان التي احتلها العرب المسلمون، حيث أن التاريخ والآثار يشهدان على مواقع وأماكن هذه الأبنية؟!..

 

الكنائس المسيحية في الاسلام

لم يسمح العرب المسلمون ببناء كنائس جديدة، ولابترميم الكنائس القائمة او تجديدها. وكان نبي المسلمين، قد أمر باخراج كل اليهود والمسيحين، الذين يسمونهم (نصارى) من شبه جزيرة العرب. ونهى أن يجتمع فيها دينان، وتبعه أتباعه في ذلك. وقد ذكر ابن عدي عن عمر بن الخطاب قوله: "لا تبنى كنيسة في الاسلام، ولايجدد ماخرب منها".

وقد ورد في (العهدة العمرية): "لايجددوا في مدائن الاسلام ولا في ماحولها كنيسة، ولا صومعة ولاديراً ولاقلاية"!..

ويشرع (ابن تيمية) على أنه: "لايجوز بناء كنائس جديدة، وكل مابني منها بعد الاسلام يجب هدمه"!.. ويقرر في إحدى فتاويه: "استحلال دماء المسيحيين وأموالهم"! ويقول (ابن القيم) في كتابه (أحكام أهل الذمة جـ 3): "حكم كل الكنائس هو الهدم"!..

 

تحويل الكنائس الى مساجد

لقد عمل الاسلام على هدم ماقبله، سواء كان من الكنائس او الآثار، أو الثقافات أو الحضارات، وحتى الديانات السابقة.

-ان مايعرف الآن بالمسجد الأموي في دمشق، فقد استولى الخليفة الأموي (الوليد بن عبد الملك) سنة (705م) على كاتدرائية يوحنا المعمدان، وانتزعها من أيدي أصحابها المسيحيين السوريين، وحولها الى مسجد. انظر: (ابن عساكر جـ1 ص 00) و (أبو الفداء جـ1 ص 209 – 10) ولايزال مدفن رأس يوحنا تحت قبة في المسجد، متقنة الصنع، غنية بالتذهب. وهناك أثر مسيحي آخر في هذه الكنيسة، لازال موجوداً، وهو كتابه يونانيه، منقوشة على عتبة باب السور الجنوبي مؤداها: "ملكك أيها المسيح ملك كل الدهور، وسلطانك في كل دور ودور".

ويذكر بعض المؤرخين وجود رسم للسيد المسيح، وعلى رأسه إكليل شوك، انظر: (نزهة الأنام في محاسن الشام للبدري، نقلاً عن المؤرخ ابن عساكر).

-عندما أحتل العرب المسلمون مدينة حماه السورية، حولوا الكنيسة التي وصفها أبو الفداء بالكبرى، الى الجامع الاكبر. ولاتزال الواجهة الغربية في حالة سليمة (أبو الفداء جـ 1 ص 168) وكذلك فعلوا فى مدن حمص وحلب واللاذقية، وبيروت وطرابلس وغيرها. ولا تزال الآثار المسيحية، ظاهرة للعيان في العديد منها.

-المسجد الأقصى كان بدوره كنيسة مسيحية، كرسها الامبراطور البيزنطي جوستيان (525- 548) للقديسة مريم. وقد استخدمت انقاضها في بنائه.

-أجبر الخليفة المهدي العباسي (775- 85) المقيمين في جوار حلب من قبيلة تغلب المسيحية، على اعتناق الاسلام، وعمد الى هدم كنائسهم.

يذكر المؤرخون أن الخليفة هارون الرشيد (ت 809م) أمر بهدم كل مافي سواد بغداد من كنائس. أما حفيدة (المتوكل) الذي أغتيل في عام (861م) فقد أمر بتحويل 42 كنيسة الى مساجد!..

-أمر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (ت 1022) بحرق وهدم كنيسة القيامة في القدس. وكنائس أخرى غيرها في القدس ومصر، وسرقة وحرق المخطوطات، والقطع الأثرية.

-كان هدم الكنائس أو تحويلها الى مساجد، بين مد وجزر طوال عهد الخلافة بكل أدوراها. ومن الجدير بالذكر هنا أن تنظيم الدولة الأسلامية (داعش) حول كنيسة مار أفرام في الموصل الى مسجد عام، (2014) تحت اسم (مسجد المجاهدين) وقام بتدمير عدد كبير من الكنائس في كل المناطق التي سيطر عليها.

-يقول العالم الأمريكي Bill Warner المختص بالتاريخ الاسلامي: أن الكنائس والأديرة التي دمرها المسلمون، أو حولوها الى مساجد في غزواتهم، لايمكن إحصاؤها. وهي تقدر بعشرات الآلاف.

 

دخول المسيحية الى حلب

تعتبر مدينة حلب من أهم المدن في شمال سوريا. ترقى الى عهد الآراميين (القرن 15 ق.م) وكانت عاصمة لمملكة آرامية مزدهرة.. دخلت المسيحية الى حلب، منذ القرن الأول للميلاد. وحلب هي جارة مدينة أنطاكية. وقد حضر أسقف حلب، المجمع المسكوني الأول في نيقية Necaea في الأناضول (35م) وكانت سوريا في مطلع القرن الرابع للميلاد. قد أصبحت بلاداً مسيحية بوجه عام. بل كان العصر، تسيطر عليه الصفة الدينيه، وكانت الكنيسة أعظم مؤسساته ويعتبر المؤرخ د.فيليب حتي في كتابه (تاريخ سوريا- جزآن): "أن البقايا المعمارية والآثار المسيحية، الموجودة في سوريا اليوم، أكثر عدداً من آثار كل العصور مجتمعة" (جـ 1 ص: 403).

 

 

كنائس حلب في العهد البيزنطي

ذكر المؤرخ (ابن شداد) كما ذكر (ابن الشحنة) أنه كان في مدينة حلب قبل (الفتح) العربي، لا أقل من سبعين كنيسة، وقد كان بعضها داخل القلعة (الأعلاق الخطيرة لابن شداد ص 45).

وينسب معظم المؤرخين بناء الكاتدرائية، أو كنيسة حلب العظمى، الى القديسة (هيلانة) والدة الامبراطور (قسطنطين الكبير) وهو أول امبراطور روماني اعتنق الديانة المسيحية، وأعلنها الديانة الرسمية للامبراطورية الرومانية، والى القديسة هيلانة ينسب ايضاً بناء كنيسة القيامة الشهيرة، في مدينة القدس، في أوائل القرن (4م)

أما التقليد المسيحي القديم. فقد نسب بناء هذه الكنيسة، الى أكاكيوس (378- 432م) الذي كان أسقفاً لمدينة حلب ولكن ليس في الآثار الباقية منها اليوم، مايرقى إلى ماقبل القرنين الخامس والسادس الميلاديين.

 

 

حلب تحت الحكم العربي

من المعلوم أن العرب قد استولوا على مدينة حلب صلحاً، وتركوا الكنائس والأماكن الدينية المسيحية وشأنها. واكتفوا ببناء جامع في الساحة الكبرى (الأغوار Agora) ويقول المؤرخ ابن شداد: "كان موضع الجامع بستاناُ للكنيسة العظمى في أيام الروم" (الأعلاق الخطيرة ص 30) ويقول أيضاً: "إن الجهة الشمالية للجامع، كانت مقبرة للكنيسة المذكورة" (نفس المرجع ص 3).

وقد ذكر المؤرخون العرب، أنه كانت توجد حول الكنيسة نحو مائة قلاية (مكان لسكن الرهبان ورجال الدين) وقد بقيت هذه الكنيسة وماحولها، بأيدي أصحابها، حتى تم تحويلها الى مسجد في العام (1124م).

 

آثار هذه الكنيسة اليوم

أجمع المؤرخون السريان والعرب، على أن هذه الكنيسة قد تحولت الى مسجد سنة (1124م) ثم أمر نور الدين زنكي في سنة (1149م) بتحويلها الى مدرسة لتعليم الفقه الحنفي. وقد عرفت –فيما بعد- باسم المدرسة الحلاوية حتى يومنا هذا، لوقوعها في سوق صانعي الحلوى أو (الحلاوة) وأن ماتبقى من آثار تلك الكنيسة العظمى في المدرسة الحلاوية، لايعطي غير فكرة ناقصة، عما كانت عليه هذه الكنيسة من ضخامة وروعة..

إن من يدخل الى المدرسة الحلاوية، من الباب الشرقي، الذي يقابل مدخل الجامع الأموي الكبير، من ناحية الغرب، يجد على يمينه قاعدة ضخمة من الحجر الأسود، نقشت عليه صلبان. وبعض العبارات السريانية التي تشوهت. ويلي ذلك درج، ينحدر الى باحة المدرسة التي تفضي في وسطها الى جهة الغرب. الى مسجد مربع الشكل تعلوه قبة جميلة. وهو إضافة الى القاعة المستديرة الملحقة به من جهة الغرب، يمثلان بشكل اكيد، بقايا الكنيسة العظمى، التي كانت في أصلها ذات شكل مستدير. وقد تصور ذلك المهندس المعماري الفرنسي الشهير Michel Ecoohard وتصور لها مخططاً في عام (1950) ونحن نجد هذا الشكل المستدير في كنائس مدن أخرى مثل بصرى وأفاميا. وكنيسة سلوقيا (السويدية) بالقرب من أنطاكية. كما يلاحظ وجه الشبه بين الأعمدة وتيجانها وساكفها في المدرسة الحلاوية وكنيسة مارسمعان العمودي القريبة من مدينة حلب.

 

الكنيسة العظمى والجامع الكبير

قال ابن شداد في كتابه تحت عنوان: "ذكر ماكانت الأمم السالفة تعظمه من أماكن بمدينة حلب" مايلي:

"يقال أنه كان بحلب نيف وسبعون هيكلاً –أي كنيسة- للنصارى. منها الهيكل الذي كان معظماً عندهم.. وهذا الهيكل كان في الكنيسة العظمى. التي هي تجاه باب الجامع الغربي. وكانت هذه الكنيسة معظمة عندهم. ولم تزل كذلك. إلى أن حاصرت الفرنج حلب في سنة (518هـ) – (1124م) ملكها يومئذ (إيلغازي بن أرتق) صاحب ماردين. فهرب منها. وقام بأمر البلد ومن فيه، القاضي (أبو الحسن محمد بن يحي الخشاب) وقد سرت إشاعة بتدمير الفرنج بعض قبور المسلمين. فلما بلغ القاضي ذلك أخذ من كنائس النصارى أربعاً. وجعل فيها محاريب، منها هذه الكنيسة التي قدمنا ذكرها، فجعلها مسجداً. فاستمرت على ذلك، إلى أن ملك الملك العادل نور الدين مدينة حلب، فجدد فيها إيواناً وبيوتاً وجعلها مدرسة لتدريس مذهب ابي حنيفة.." وقال (ابن شداد) في ذكر مسجد حلب الجامع مانصه: "وكان موضع الجامع بستاناً للكنيسة المذكورة.."!.

 

 

وضع الكنيسة عند (الفتح) العربي

كان المهندس الفرنسي Michel Ecoshard الذي عمل طويلاً في سوريا ولبنان في عهج الانتداب الفرنسي وبعد الاستقلال، قد تصور كيف كان وضع الكنيسة العظمى، والمطرانية المجاورة لها عشية (الفتح) العربي.. فنجد أن الكنيسة كانت تحتل قلب المدينة وتشكل الجانب الغربي من الساحة الكبرى (الأغوار Agora) وكان المؤمنون يفدون الى الكنيسة خصيصاً من الشارع العريض، الذي كان يخترق المدنية على طولها، من باب أنطاكية الى القلعة ومدخل الكنيسة الرئيس كان الى الغرب. ويجد الوافد الى الكنيسة من الغرب باحة مستطيلة الشكل، تحيط بها الأروقة والأعمدة على جهاتها الأربع، ثم تأتي الكنيسة بشكلها المستدير. وكان المذبح في الجهة الشرقية من الكنيسة، تحيط به قاعتان، واحدة لتقدمة القرابين والأخرى للآنية المقدسة ولباس الكهنة.

 

 

معلومات إضافية عن هندسة الكنيسة

عند زيارة موقع الكنيسة في مسجد الحلاوية، نشاهد عدداً من الأعمدة، وهي منغرسة في الأرض، بثلاثة أمتار على الأقل ولذلك لاتشاهد العين قواعدها اليوم. ويحدثنا (ابن شداد) عن كرسي المطران فيقول: "كان في وسط الكنيسة كرسي ارتفاعه أحد عشر ذراعاً من الرخام الملكي الأبيض (حوالي 5م) أما موقعه في وسط الكنيسة ذلك كي يكون قريباً من الشعب.

ويقدر المهندس Ecochard أن مجموع طول الكنيسة مع باحتها الأمامية من الشرق الى الغرب (60 متراً) بعرض (30 متراً) فلا عجب أن يدعو العرب هذا المكان بأسم (الكنيسة العظمى) وقد كانت في ذلك الحين اكبر بناء ديني في حلب.

 

ماذا كان اسم الكنيسة العظمى

يذكر كاتب سرياني وقائع الاستيلاء على بعض كنائس المسيحيين بحلب سنة (1124م) في مذكرات تاريخية، نشرتها جامعة لوفان Leuvenفي بلجيكا سنة (1974) يقول: "أن القاضي ابن الخشاب أصدر أوامره يوم الجمعة فإذا بألوف الرجال من جماعته هرعوا الى الكنائس حاملين الفؤوس والمعاول، فحطموا الهياكل ومزقوا الصور.. وقد صنعوا كذلك في (معبد العذراء)، الذي للروم.. ثم نهبوا سائر الكنائس وقلالي الأساقفة".

ونحن نستخلص من النص المذكور أن هذه الكنيسة كانت تعرف بأسم كنيسة (السيدة) أو (السيدة مريم).

وفي قصيدة للشاعر الحلبي (الصنوبري) الذي عاصر سيف الدولة الحمداني واتصل به وتوفي عام (945م) يذكر الكنيسة باسم (الحرم الكبير) أي (الكنيسة العظمى) المكرسة لاكرام مريم العذراء. ويدعوها الصنوبري (دير مريم) لأنها لم تكن مجرد كنيسة بل كانت تضم في رحابها معبداً وداراً للمطرانية وديراً للرهبان. ونعلم من شعره أيضاً أنه كان فيها (تصاوير) أي (أيقونات) ورسوم على الجدران. وأن بنيانها كان يتضمن أعمدة مرمرية جميلة وفعلاً فقد بقيت ثمانية أعمدة مرمرية مع تيجانها، في مسجد ومدرسة الحلاوية ونعرف من هذا الشاعر الكبير، أن (الكنيسة العظمى) كانت ماتزال في عهده على كامل رونقها وأنها كانت مخصصة للسيدة العذراء.

إن تحويل الكنائس الى مساجد في سائر البلدان التي دخلتها قبائل العرب الغازية، هو دليل على التعدي، وليس دليلاً على انتشار الأسلام!.