محيى الدين إبراهيم يكتب: قصص قصيرة من واقع الحياة

محيى الدين إبراهيم يكتب: قصص قصيرة من واقع الحياة
محيى الدين إبراهيم يكتب: قصص قصيرة من واقع الحياة

قبل فوات الربيع !!

( قصة قصيرة جداً من واقع أحداث حقيقية )

لم تقوى على النهوض من سريرها .. فقدت الوعي .. هكذا دون أي تمهيد أو سابق إنذار .. شك أن ذلك بسبب سوء تفاهم حدث بينهما بالأمس .. هو دائماً لا يرتاح لبعض أسئلتها المتكررة .. تريد أن تعرف كل شئ .. كل شئ .. لكن .. لم يكن يتصور أن سوء تفاهم ( صغير ) من وجهة نظره .. يمكن أن ينال منها بهذه السهولة .. لم يدري ماذا يفعل .. فجأة وجد نفسه لأول مرة خائفاً .. فجأة وجد نفسه يخشى أن يفقدها .. فجأة صرخ في وجه الطبيب على الطرف الآخر للتليفون أن يحضر حالاً .. أن يترك حياته نفسها ويأتي .. لم يصدق مسألة الانهيار العصبي المؤقت .. لم يصدق أنه يجلس وحيداً لا يفكر إلا في أن تنهض من غيبوبتها وتصفعه على وجهه .. لم يصدق أنه يشعر باليتم وكأنها لم تكن زوجته بل أمه وعمره ومحيطه .. لم يصدق أنها كانت كل البشر .. ظل شهر ونصف ساهراً بجوارها كالطفل الذي يخشى إن غاب عن أمه تخطفه ( أمنا الغولة ) .. كان ينظر لعينيها الذابلتين أسفل جفونها المغلقة ويتذكر كل ما مر به معها من أحداث .. كيف وافقت أن تكون زوجته .. كيف قالت له أن أبنهما يشبهه تماماً لأن المرأة إذا أحبت صار الولد يشبه ابيه .. حين سافر أول مرة تاركاً إياها في منزل والدها فقالت له أن منزلها في قلبه وتمنت أن يعود سالماً حتى تعود هي من غربتها في غيابه .. نظر لجسدها المستسلم للنوم والمرض وبكى .. كانت المرة الأولى التي يعرف فيها طعم البكاء .. المرة الأولى التي يخشى فيها السقوط .. المرة الأولى التي يستشعر عظمة حبه لها .. في اليوم السادس والأربعين .. كان يستلقي بجوارها منتظراً ميعاد جرعة الدواء ليعطيها لها .. كان يمسك بألبوم صور الزفاف وهي بفستان الفرح .. لأول مرة يلاحظ أنها تمسك ذراعه بكلتا يديها .. فجأة .. سمعها بصوتها الضعيف وهي تقول: تلك عمتي التي تقف بجواري في الصورة وكانت دوماً تحذرني منك .. لم يصدق أنها استفاقت .. لم يصدق أنها تكلمه .. لم يصدق نعمة أنه يسمع صوتها .. قفز كالعصفور من شدة الفرح حتى اصطدمت رأسه ( بالنجفة ) المعلقة في سقف الغرفة فشجت رأسه .. لم يشعر بالألم .. كل ماكان يشعر به هو أنه أخذ يرقص في الغرفة كالمجنون .. يصرخ .. يضحك .. يقفز .. ثم هدأ فجأة .. انحنى على ركبتيه بجوار جسدها المستلقي في ضعف .. قبل رأسها .. رفع كفيها إلى فمه .. ثم أغرق رأسه في صدرها وهو يقول لها بكل صدق الرجل: آسف.

بقلم: محيي الدين إبراهيم

كاتب وإعلامي مصري

...................................

بهايم العمدة

 

( فانتازيا قصيرة جداً مستوحاة من أحداث تاريخية حقيقية )

ثارت قريتنا على العمدة ( الطاغية ) .. حررها الثوار بقيادة شيخ البلد من ( عبث ) العمدة عبد الجليل .. قرر الثوار في اجتماعهم الأول مع شيخ البلد .. توزيع اراضي العمدة بالتساوي علينا جميعاً .. لابد أن يأخذ كل منا حقه من العمدة .. لابد أن ينال كل منا ثأره من عبد الجليل .. هلل البؤساء للثوار .. إطمأن الجياع على شبع بطونهم في العهد الجديد .. أقيمت الأفراح والليالي الملاح احتفالاً بيوم النصر .. يوم أن نال كل بيت من بيوت القرية عشرة قراريط .. يوم أن إستولى كل منا على جزء من أراضي الطاغية .. يوم أن أصبح كل فلاح فينا مالكاً وليس أجيراً في أرض العمدة.

في أيام العهد البائد .. كانت قريتنا مشهورة بزراعة القمح وتخزينه وطحنه .. أما اليوم .. فكل صاحب عشرة قراريط .. يقوم بزراعتها ( خيار وبقدونس وطماطم ) أو سيموت من الجوع .. المدهش أن العشرة قراريط لا تدر على صاحبها ماكان يتقاضاه أيام العمدة عبد الجليل من دخل .. فاليوم نقوم بشراء العيش من البندر .. ( فلوسنا كلها رايحة على شراء العيش ) .. حتى ( بهائم ) العمدة .. ذبحناها لنأكل لحومها ونتلذذ بطعام العمدة وشرابه .. كنا قديماً .. ملوك القمح .. كنا نمتلك ( وابور ) طحين .. كانت كل القرى من حولنا تأتينا للتخزين وطحن الدقيق .. اليوم لا يأتي قريتنا ولا يطأها أحد إلا في فرح أو جنازة .. فقد توقف ( وابور ) الطحين عن العمل لإنعدام القمح .. وأصبحت صوامع الغلال لا تحوى إلا الفئران والثعابين.

بعد عام وبضعة أشهر .. أصبح حال الناس في قريتنا أكثر بؤساً من أيام العمدة عبد الجليل .. فزراعة ( الخيار والبقدونس والطماطم ) .. حرقت الأرض وأضعفت المحصول حتى اسودت الدنيا في قلوب الكل .. كان لسان حالهم يقول: ولا يوم من أيامك ياعبد الجليل .. هكذا الناس .. كلما جاعت بطونهم ثاروا .. وكلما ثاروا ندموا .. وكلما ندموا ثاروا من جديد .. حتى تلطخت أرض قريتنا بدماء الغضب .. والشكوى .. والحزن.

كيوم صلاة الاستسقاء .. خرج الفلاحون بنسائهم وأولادهم إلى ساحة القرية التي شهدت أيام ثورتهم الاولى ضد العمدة عبد الجليل .. وحين إكتمل نصابهم .. ذهبت هذه الجموع البشرية الغاضبة في مشهد أقرب لمشهد السعي بين الصفا والمروة في أيام الحج نحو دار شيخ البلد .. إنهم لا يريدون العشرة قراريط .. إنهم لا يريدون ( الخيار والبقدونس والطماطم ) .. أطل شيخ البلد من نافذة الدار فوجد أهل القرية جميعاً وعيونهم مملوءة بالغضب .. كان يجتمع معه في تلك اللحظة كل من شاركه من ثوار التغيير ( الصغار ) .. استشعروا جميعاً الخوف .. صعدوا يسبقهم شيخ البلد لسطح الدار بحثاً عن وسيلة للهروب .. استفز هذا الأمر جموع الغاضبين فلحقوا بهم وانقضوا عليهم .. وكما تفعل الكلاب الجائعة لم يتركوهم إلا جثثاً هامدة منهوشة البطون .. ثم قاموا بإلقائها جميعاً في مجرى ( الترعة ) .. قريتنا الآن بلا عمدة .. ولا شيخ بلد .. ولا ثوار .. أما الفلاحين .. فصار كل منهم يعمل أجيراً مرة أخرى .. ولكن هذه المرة عند عمد القرى المجاورة .. ليستطيع توفير أي دخل يسد به رمق جوع عياله !!

بقلم: محيي الدين إبراهيم

كاتب وإعلامي مصري

...................................................

سأعيش حمار .. وأموت حمار

( قصة قصيرة جداً مبنية على أحداث حقيقية )

أنا أحب الحياة .. ولأن الحرب كر وفر .. فأنا دائما أفر من الحزن ليس كفرار الجبان من عدوه .. وإنما كفرار المؤمن من ( الوباء ) .. منذ اليوم الأول للوعي وأنا أمارس صراع البقاء مع محيطي .. كنت أرسب في كلية الطب بالجامعة لمجرد أني أعبر عن رأيي بحرية .. كانوا يتعاملون مع المرضى كما يتعامل الجزارون مع الذبائح في السلخانة .. فاستمتعت بالرسوب محتفظاً ببقايا إنساني على أن أتخرج سريعاً ملفوفاً بالذل .. كنت في كل مستشفى أو شركة أرتبط بها يساومونني على أن أكون مليونيراً في أقل من عام أو أن أقدم استقالتي .. قدمت استقالتي في أكثر من أربعة عشرة شركة ومستشفى .. أقسم لي أحدهم أني ( حمار ).. سأعيش حمار .. وأموت حمار .. ورغم ذلك .. وربما لأني ( حمار ) .. كنت أخرج من كل واحدة فيها لا امتلك تذكرة الأوتوبيس وأنا مبتسم .. ذات يوم .. قررت دراسة المسرح .. ولأني لا امتلك مصاريف الدراسة .. عملت بمحل عصير قصب بأجر يومي .. كان العمال ينادونني بالدكتور لعلمهم أني طبيب بشري خالي شغل .. وكنت بالمحل متخصص بالشاورما .. رغم أنه محل عصير .. وتخرجت من معهد المسرح .. تعلمت فيه كيف أكتب عن الحياة من منظور مختلف .. كتبت ثلاثين عملاً مسرحياً .. وكلها قوبلت بالرفض .. أقصد أنا قوبلت بالرفض .. فقد كانت المساومة هذه المرة على ( الشرف الإنساني ).

كان شهر يوليو حار جداً هذا العام .. فقررت السفر 24 ساعة لشاطئ البحر .. هناك مقهى كنت دائماً ما استمتع بالجلوس فيه منذ أن كنت طالباً بكلية الطب .. فجأة ظهر .. تربينا معاً في نفس الحي ونحن صغار .. ثم فجأة أختفى .. ترك أبوه العاصمة ورحل وأخذه معه ولم نسمع عنه من حينها .. ( محمود .. مش ممكن .. مستحيل .. بعد 25 سنة ضياع .. أشوفك بالصدفة كدة يابني آدم .. وأشوفك فين؟ .. هنا !! .. في القهوة الحقيرة دي !! ) .. كان محمود كابتن بحري على إحدى المراكب التجارية التي تجوب العالم .. يعيش في البحر أكثر مما يعيش على اليابسة .. في أقل من ثلاثة أيام كنت بأوراق رسمية مساعد طبيب المركب .. سبع سنوات كاملة لم تطأ فيها قدماي اليابسة إلا عدة مرات قليلة .. ربما لا تتجاوز في مجملها ثلاثة أشهر .. أنا اليوم نائب مدير مستشفى الرحمة بولاية ( إلينوي ) الأمريكية منذ عامين .. مازلت أحرص على الذهاب للمسرح مرتين في الشهر .. وأحتسي فنجان قهوة عربي في مطعم شامي بجوار المستشفى .. رزقني الله بطفلة لا تكف عن الفرح والضحك .. صورة طبق الأصل من أمها التي تعرفت عليها في المركز الإسلامي في أحد أيام عيد الفطر وتزوجتها في اليوم التالي .. لم ينتصر الحزن على الإنسان الذي بداخلي يوماً .. بل أني مازلت أنتصر عليه مع كل مريض يخرج من تحت يدي معافاً وقد تحول حزنه إلى فرح وموته إلى حياة .. أنا هنا داخل السيارة بانتظار ( ثريا ) الصغيرة .. أنتظر ابنتي أثناء خروجها من المدرسة .. هاهي قد جاءت .. تحمل نفس ضحكة أمي .. مرحبا ( ثريا ) .. أين قبلة دادي .. لقد أعدت لك ماما اليوم .. مفاجأة !!

بقلم: محيي الدين إبراهيم إسماعيل

كاتب وإعلامي مصري