ليس غريبًا أن تمرَّ على محبِّ العلم فترةٌ يتساءل فيها بينه وبين نفسه: هل مضى زمن الاحتفاء بالكتب؟ وهل قلَّ ذلك الشغف القديم الذي كان يدفعنا دفعًا نحو الرفوف، نُقلبها بحماس، ونُقلّب أعيننا في عناوينها كمن يفتش عن كنزٍ ضائع؟ أسئلةٌ كثيرة تدور في الذهن، لا رغبة في التشكيك، ولكن لأن النفس الصادقة تُحب أن تُراجع نفسها، أن تتأمل مسيرتها، أن تعرف موقع القدم وسط الزحام.
أشعر، كما قد يشعر غيري في فترات زمنية مختلفة من الاهتما المعرفي أن الشغف بالكتاب لم يعد كما كان من قبل. وليس هذا من اليأس، وإنما هو من تمام الصدق مع الذات، وربما تفسّر هذا الحالة عدةُ أمور؛ منها ما هو ماديّ ظاهر، كغلاء أسعار الكتب بصورة لم نعهدها من قبل، حتى صار اقتناء بعضها رفاهية، لا مقدورًا عليه لطالب علم محدود المورد.
وقد زاد من هذا الفتور أن كثيرًا من هذه الكتب -وخصوصًا الدراسات الحديثة- تُتاح بصيغٍ مبدَفَة بعد صدورها بوقت يسير، فيضعف الإقبال، وتُصبح القراءة نفسها مجزّأة، سريعة، خالية من لذّة الورق ومهابة الجهد.
لكن هذا الشحّ في الرغبة لا يُفسَّر كلُّه بالماديات. فإنني أرى –وأميل إلى هذا التفسير أكثر– أن العزوف عن شراء الجديد من الكتب الصادرة والدراسات الحديثة في شتى التخصصات لا يُعبّر عن عزوف عن العلم، وإنما هو نضجٌ في الذوق العلمي، وتحوُّل في بوصلة الطلب، وتعرف على حقيقة المعارف، وإدراك لماهية الفنون المختلفة.
حين يبدأ الإنسان رحلته في العلم يُغريه كلُّ عنوان، ويستهويه كل جديد؛ فيغترف من هنا وهناك، ولا يميّز بعدُ بين الغث والسمين، ولا بين ما يُحتاج إليه وما يُستحسن فقط. وفي تلك المرحلة تكثُر الرسائل الجامعية في مكتبته، ويجمع المقالات، ويلاحق الطبعات والنشرات المتعددة، ويشعر أن بينه وبين تمام التحصيل عتباتٍ من الورق لا بد أن يصعدها، ولو كانت خاوية من الزاد.
لكن ما إن يطول به الطريق، ويتعمّق الطلب، حتى يدرك أن العلمَ أصول، وأن الأصولَ لا تُستعاض، ولا تُغني عنها الزوائد. هنا يبدأ في تصفية مكتبته، لا بيعًا ولا تفريطًا، لكن قلبًا للوجهة، وعودةً إلى الجذور، وحينها يُصبح العكوف على المتون وشروحها وحواشيها ديدنه، لا طلبًا للعجب، بل تأسيسًا للنفس، وتربية للذوق العلمي، وبناءً لملكةٍ علمية لا تتحقق بكثرة العناوين، وإنما بكثرة التأمل والتفقه.
وقد كنتُ –في بدايات طلب العلم– أتعجب من قلة عدد الكتب التي يمتلكها بعض أساتذتنا، أو التي يظهر أنهم يعتمدون عليها، ثم زال عجبي حين رأيت أنهم قد قرأوا ما امتلكوا، وأتقنوا ما اقتنوا، ودارسوا كتبهم مدارسة المريد لمعلمه، فكانت تلك الكتب القليلة هي رأس مالهم، ومنها يستقون، وفيها يغوصون، وعليها يربّون.
وقد رأيت أستاذي العلامة الشيخ الحاج شحاتة سليم بقة –رحمه الله– يعكف على كتب معدودة: مغني المحتاج في الفقه، وتفسير البيضاوي والنسفي في التفسير، وشرح النووي على مسلم، وفتح الباري في الحديث، وشرح ابن عقيل في النحو.. إلخ من الكتب المتداولة في التدريس، لكنه كان يحفظها عن ظهر قلب، ويستخرج منها لآلئَ الإجابة، وكأنه عاش معها عمرًا ثانيًا، غير عمره.
لقد كنتَ –إذا سألته– تراه يجيبك إجابة من يعرف أين الموضع، ومتى قيل، وما وُجّه إليه من اعتراض، وما فُصّل به من جواب، فإذا أمعنت النظر وجدت أن أمثال "فتح الباري" لابن حجر العسقلاني ليس كتابًا في الحديث فحسب، وإنما هو ديوان جامع، من دخل فيه دخل في رحاب علم واسع، لا تكاد تخرج منه إلا وقد أخذت من كل علمٍ بطرف، ومن كل ميدانٍ بنصيب.
وعندها أيقنت أن قلة الشغف بالكثير من المطبوعات الحديثة ليست ظاهرةً مرضية كما يُشاع، وإنما قد تكون علامة عافية، ودليل وعي؛ لأن النفس حين تنضج تدرك أن العمر قصير، وأن الطريق الطويل لا يُقطع بالتشعب، وإنما بالتركيز والإتقان، وأن أصل العلم هو ما يبقى، لا ما يُقال في المجالس أو يُنشر على العناوين. وسيدرك الإنسان -ولو بعد حين- أن ملازمة كتاب أصيل في فنه، وتكرار النظر فيه، أنفع للعقل وأرسخ في الفهم، من تقليب البصر في عشرات الكتب بلا ترتيب ولا تحقيق؛ لإن القراءات المبعثرة -والتي يمكن أن أطلق عليها القراءة العوراء- لا تُنبت علمًا، ولا تترك أثرًا.
وإننا في هذا الاتجاه لا نرفض الجديد لمجرد أنه جديد، ولا نهمل المعاصر لأنه غير قديم، لكننا نتوق إلى العلم الذي يبني، لا الذي يُزيّن، وإلى المعرفة التي تُنير الطريق، لا التي تُسكر السائر بلذّة الإنجاز الزائف، فلا عجب إذًا أن يبهت وهج الورق الجديد، إذا كان النور الحقيقي قد بدأ يشتعل في داخل القلب، لا على أغلفة الكتب، ولا عجب أن نُعرض عن زخارف الطباعة إذا صرنا نسمع صوت العلماء في أسطر الكتب القديمة، لا في ضجيج الغلاف.
وهكذا نُدرك أن التصالح مع النفس، ومع المرحلة، هو جزء من الفتح، وأن المعرفة ليست في كثرة ما نملك، وإنما في عمق ما نفهم، وفي إخلاص ما نطلب، وفي أثر ما نترك.

