تعد القدرة على التعايش مع الآخرين المختلفين عنك من أبرز العوامل التي تساهم في استقرار العلاقات بين الأفراد والشعوب. ففي عالم يتسم بتعدد الثقافات والأديان، يُعتبر عدم قبول الاختلاف سبباً جوهرياً لاندلاع العديد من الحروب والنزاعات عبر التاريخ. إذ يمكن أن يتحول الاختلاف في الدين، العرق، اللغة، أو حتى في الأفكار والسياسة إلى مصدر توتر إذا لم يتم التعامل معه بفهم واحترام.
فعندما تفتقر المجتمعات إلى القدرة على التعايش مع الآخرين ذوي الاختلاف، تبدأ النزاعات بالظهور سواء على مستوى الأفراد أو الدول. على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي النزاعات الطائفية بين الأديان أو الأعراق أو المذاهب داخل الدين الواحد إلى حروب أهلية دموية، كما شهدنا في العديد من الحروب عبر التاريخ والحداثة، والتي لا زلنا نعيش عواقبها وأحقادها حتى اليوم. فالخوف من الآخر المختلف يخلق مشاعر الكراهية والانقسام، مما يزيد من احتمالات التصعيد والنزاع.
ويجب أن نأخذ في الاعتبار أن رفض قبول الآخرين المختلفين يمكن أن يسفر عن تهميش بعض الفئات في المجتمع، مما يعزز شعورهم بالظلم والتمييز. هذا الشعور قد يؤدي بدوره إلى تزايد الغضب والعنف والتمرد ضد الأنظمة التي تنكر حقوق هذه الفئات. لذلك، فإن عدم القدرة على التعايش مع الآخر لا يُعتبر مجرد سبب لانقسام المجتمع، بل هو أيضاً بيئة ملائمة لاندلاع الحروب والنزاعات.
ويعتبر عدم تقبل الآخر من الأسباب الأساسية للصراعات في العالم، حيث يؤدي إلى الانغلاق الذهني ورفض التنوع الثقافي والديني والسياسي. فعندما يمتنع الأفراد أو الجماعات عن الاعتراف بشرعية الآراء أو أنماط الحياة المختلفة، تتولد مشاعر الكراهية والتمييز. هذا الرفض يفتح المجال للتحريض والعنف، ويحوّل الخلافات الطبيعية إلى نزاعات حادة. كما يسهم في خلق بيئة غير آمنة تعزز الانقسام والاستقطاب بين المجتمعات. عدم التقبل يعيق الحوار البناء ويغلق أبواب التفاهم والتعايش السلمي. وغالبًا ما تستغل القيادات المتطرفة هذا الرفض لإشعال الكراهية وتحقيق مكاسب سياسية.
نعم، يمكن أن يساهم منهج التعايش بين المجتمعات المتنوعة بشكل كبير في تفادي الحروب والصراعات. فالتعايش يعتمد على احترام متبادل بين الأفراد والمجتمعات من خلفيات دينية وعرقية متنوعة، بالإضافة إلى فهم الآخر وقبول التنوع. هذه القيم تتعارض مع جذور الصراع مثل التعصب، والتمييز، والخوف من المختلف.
إن تعزيز هذه الثقافة يتطلب تعاونًا مشتركًا بين رجال الدين، الحكام، والمجتمع المدني. فالدين الحقيقي يشجع على التسامح، ويمكن لرجال الدين المعتدلين أن يتركوا تأثيرًا إيجابيًا على الناس، بينما يستطيع الحكام وضع سياسات تدعم التعايش السلمي وتجرم مشاعر الكراهية. من ناحية أخرى، فإن انتشار ثقافة العنف والعنصرية غالبًا ما يكون نتيجة لتسييس الدين أو استغلاله لأغراض سياسية. فقد يستغل بعض السياسيين أو رجال الدين المتطرفين الخطاب الديني أو القومي لإشعال مشاعر الكراهية والانقسام. لذا، المشكلة ليست في الدين أو السياسة ذاتها، بل في أولئك الذين يسيئون استخدامهما لتحقيق أهداف فاسدة أو استبدادية.
ولتعزيز مفهوم التعايش، يجب اتخاذ مجموعة من الخطوات العملية والثقافية والتعليمية المتصلة، والتي تبدأ بتشجيع ثقافة الحوار لبناء جسور التفاهم وتبادل الآراء، وتعليم قيم التسامح والاحترام وفهم الآخر. ويجب أن يُعزز التنوع الثقافي في المناهج التعليمية منذ المراحل المبكرة. فمن الضروري العمل على إزالة الحواجز النفسية والثقافية التي تفصل بين الناس، من خلال توفير منصات للحوار والتواصل بين مختلف الفئات لتعزيز القبول بالتنوع كقيمة أساسية في المجتمعات. كما يلعب الإعلام دورًا مهمًا في نشر ثقافة الحوار وتقبل الآخر، لذا يجب توجيهه لنشر رسائل إيجابية عن التعايش ومكافحة الصور النمطية والتحريض على الكراهية. كذلك، يجب تشجيع الأنشطة والمبادرات التي تجمع الناس من خلفيات متنوعة، مثل الفنون والرياضة والمشاريع التطوعية، بالإضافة إلى سن القوانين والتشريعات التي تدعم حقوق الأقليات وتجرم التمييز. كما يجب تعليم التاريخ المشترك لتسليط الضوء على الجوانب المشرقة من التعايش بين الشعوب عبر العصور، بهدف التأكيد على إمكانية التفاهم والعيش المشترك. من المهم أيضًا توفير فرص تعليمية للجميع للحد من الجهل والتعصب الذي يغذي الكراهية والانغلاق. أخيرًا، يجب إنجاز جهود كبيرة لتمكين القيادات الدينية والثقافية المعتدلة، ودعم الأصوات التي تدعو إلى السلام وتعارض التعصب، لتعزيز الهوية الإنسانية المشتركة بين الناس بدلاً من التركيز على الهوية العرقية أو الدينية، مع التأكيد على أن الاختلاف في الدين أو العرق لا ينفي وحدة الإنسان وحقوقه الأساسية.
إذا تمكنّا من تحقيق ذلك، ستُنشأ مجتمعات متماسكة ترفض الانجرار إلى صراعات داخلية أو خارجية، حيث سيرى كل طرف الآخر كرفيق في الإنسانية بدلاً من كونه تهديدًا. بهذه الطريقة، تُعالج الخلافات من خلال الحوار، مما يتيح الفرصة للوصول إلى حلول سلمية للنزاعات والحد من احتمال اندلاع حروب تستند إلى مصالح ضيقة أو أيديولوجيات متطرفة.
مسك الختام ، إن التعايش لا يُلغي الاختلافات، ولكنه يمنعها من التحوّل إلى صراعات، ويعمل على خلق بيئة تعزز السلام والتنمية عوضًا عن الدمار والانقسام.

