المدقريّ ... إحياء الغابر (13) بقلم د. علي زين العابدين الحسيني

المدقريّ ... إحياء الغابر (13) بقلم د. علي زين العابدين الحسيني
المدقريّ ... إحياء الغابر (13) بقلم د. علي زين العابدين الحسيني
 
 
حين تأملت طبيعة الكتابة التاريخية الأدبية وجدتها مساحة تتشابك فيها خيوط التاريخ مع ألوان الأدب، حيث تتحول السردية الجافة إلى مشاهد حية تنبض بالحياة، وليست تلك الكتابة في حقيقتها عملية استرجاع لأحداث ماضية أو شخصيات سابقة فحسب، بل هي فن يمزج بين الدقة العلمية وبراعة الحكي، لتظهر كجسر يصل القارئ بزمنٍ لم يعشه، لكنه يشعر وكأنه يراه بعينيه. هنا، يتجلى الإبداع في منح الحقائق روحًا تجعلها أكثر قربًا من النفس، وأكثر تأثيرًا على العقل.
هذا المعنى الذي كان حاضرًا في كتابات محمد رجب البيومي علمني أن الكتابة التاريخية فعلٌ إبداعي يلتقط الأحداث، ويعيد تشكيلها بأسلوب سردي متقن. إنها نصوص تحوي عناصر المجاز، والحبكة، والتأمل، ما يجعلها تشبه الأجناس الأدبية من حيث تأثيرها وعمقها. وقد استطاع البيومي أن يحول النصوص التاريخية والشخصيات الكبيرة إلى مرآة تعكس رؤى المؤرخ وتصوراته، متجاوزة مجرد التوثيق؛ لتصبح عملًا يستنهض في القارئ قضايا الحاضر وأسئلته.
ومع هذا التصور أدركت أهمية استخدام الأدوات الأدبية في بعث الماضي إلى الحاضر. هنا يبرز دور التخيل والسرد اللذين يجعلان النص أكثر إنسانية وأشد تأثيرًا؛ فلا يقتصر الأمر على تقديم الوقائع، بل يتجاوز ذلك إلى نقل الدوافع والمشاعر، لتحيا الشخصيات التاريخية في مخيلة القارئ، وهو يتلمس معاناتها وانتصاراتها وكأنها تجري أمامه.
أجل، كان محمد رجب البيومي نموذجًا ملهمًا؛ فحين قرأت مؤلفاته شعرت أنني أمام مؤرخ لا يكتفي بسرد الأحداث، ولا أديب يبحث عن المتعة الجمالية فحسب، بل صاحب منهج يمزج بين الفكر والشعور. ففي كتبه خاصة كتابيه "من أعلام العصر كيف تعرفت على هؤلاء" و "النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين"، وجدت الشخصيات التاريخية تتجاوز كونها أسماء وصفحات إلى كائنات نابضة بالحياة، إنسانية في قوتها وضعفها، فرحها وحزنها.
ما شدني في أعمال البيومي ليس فقط دقته أو براعة تصويره، بل رؤيته التي جعلت الشخصيات تتحدث عبر الزمن، لتقدم للقارئ دروسًا تتجاوز زمنها. حين قرأت أعماله، شعرت أنني لا أواجه نصوصًا وحسب، بل تجربة فكرية تدعوني لإعادة التفكير في دور الكتابة التاريخية، فكانت هذه النصوص بالنسبة لي أشبه بمصباح أضاء لي الطريق نحو فهم أعمق لطبيعة الكتابة التاريخية الأدبية، وعلّمتني أن المؤرخ لا يكتب للتوثيق فقط كما هو مشهور، بل ليُحيي المعاني الإنسانية الكامنة في النصوص.
وعندما بدأتُ في كتابة سير الأعلام الذين أخذت عنهم أو عرفتهم، كانت صورة البيومي حاضرة في ذهني. لم تكن الغاية من الكتابة هذا السرد لوقائع حياتهم، بل المحاولة لنقل رؤيتهم وأحلامهم، وربما إخفاقاتهم، للقارئ. كان المنهج الذي تعلمته من البيومي يدعوني دائمًا لأن أجعل الكتابة درسًا في الإنسانية قبل أن تكون تسجيلًا للتاريخ. أردت أن أكتب نصوصًا تُشعل في القارئ الرغبة في التعلم، وفي الوقت نفسه تحثه على السير في طريق القيم وتحقيق مبادئ الإنسانية.
كانت مقالات محمد رجب البيومي عن الرجال والشخصيات كنبع عذب ينساب في صمت ليغمر الروح المتعطشة للمعرفة، والوجدان المتلهف للفهم. كنت أجد فيها مرآة صافية تعكس صورة الشخصيات التي تناولها، ونافذة مشرقة أطل منها على عوالمهم، فأشعر وكأنني أخطو معهم في دروب حياتهم، أستشعر نبض أفكارهم وأحلامهم.
أتابع تلك المقالات بشغف لا ينطفئ، وأترقب لحظة انتهائي من مقال في مجلة لأبحث عن المقال الذي يليه في مجلة أخرى، كما يترقب العطشان عودة النبع في يوم قائظ. كانت هذه المقالات بالنسبة لي مجالس حية، تنبض بصدق العبارة، وحرارة الشعور، وعمق التأمل، مما جعلني أعيش بين السطور كأنما ألامس أرواح العظماء.
 
لقد غصت في عالم مقالات محمد رجب البيومي وكتاباته، فقرأت منها ما استطعت أن أصل إليه، بل أظنني لامست معظمها إن لم يكن كلها، فوجدت فيها زادًا أدبيًا لا يُضاهى، غذاءً للعقل والروح، ودربًا متينًا في التعبير والتفكير. كانت كلماته تحمل عمقًا ودفئًا يفتحان آفاقًا جديدة للتأمل في الشخصيات التي تناولها والأحداث التي رسمها، حتى أصبحت لي معينًا أدبيًا لا ينضب، أعود إليه كلما شعرت بحاجة إلى الإلهام أو التأمل.
ثم انطلقت بعدها إلى قراءة ما كتب أساتذته من أعلام الأدب والفكر، فتتبعت آثار أحمد حسن الزيات، ذلك الذي كانت كلماته تُحاكي نبض البيان الأول، وزكي مبارك، صاحب القلم المتدفق بالثقافة والمشاعر والاعتزاز، وأحمد أمين، صاحب الفكر الهادئ العميق والتعلق بالحضارة، والعقاد، بحسه النقدي الصارم وعبقريته المبهرة، والنشاشيبي، الذي اختزل في كتاباته جمالية اللغة العربية وروحها الحية، وغيرهم من الأسماء التي حملت مشاعل الفكر والأدب. فكانت قراءاتي لهم رحلة ممتدة بين عوالم متباينة، تجتمع فيها روعة الكلمة وصدق الشعور، مما أكسبني زادًا لا ينفد، وأفقًا لا تحده حدود.
وهذا التأثر العميق بأعمال أستاذي الأكبر محمد رجب البيومي دفعني لإطلاق اسم "المدرسة البيومية" على هذا النهج في الكتابة، حيث تتداخل فيه الحقائق التاريخية مع الجوانب الإنسانية للشخصيات. ومن روح هذه المدرسة خرج كتابي الأول في علم التراجم "حديث الأموات: تراجم ناطقة عن شخصيات سابقة"، الذي رأى النور في يناير 2022م. كان هذا الكتاب محاولة لاستكمال المسار الذي بدأه أستاذي، ولجعل التاريخ بأسلوب أدبي وسيلة لفهم الحاضر وإثراء المستقبل.
ما يميز هذا النهج ليس فقط أسلوبه أو موضوعاته، بل جذوره العميقة التي تمتد إلى اتصال برواد الأدب والثقافة في القرن الماضي من خلال سند كتابي متين يشبه إلى حد كبير اتصال السند عند المحدثين وغيرهم، يربط بين البيومي وأعلام النهضة مثل أحمد حسن الزيات، وزكي مبارك، ثم يتصل بالأساتذة الكبار سيد عليّ المرصفي، ومصطفى المنفلوطي، ومصطفى صادق الرافعي. هذا السند، الذي طالما شعرت بالامتنان لأنني جزءٌ من امتداده، يمثل إرثًا فكريًا وأدبيًا غنّيًا، عزز من فهمي للكتابة كوسيلة لخلق حوار دائم بين الماضي والحاضر.
كلما أمسكت القلم استحضرت تلك الدروس، وحاولت أن أجعل الكتابة نافذة تُطل على الزمن، وتتيح للقارئ أن يعايش الماضي بروحه وعمقه. لم تكن الكتابة عندي يومًا هدفًا في حد ذاتها، بل كانت دائمًا أداة لبناء الفكر الذي يُعيد وصل الإنسان بجذوره، ويشعل فيه رغبة العطاء والإلهام.