د.يس العيوطي : ذكرياتي عن الجزائر

د.يس العيوطي : ذكرياتي عن الجزائر
د.يس العيوطي : ذكرياتي عن الجزائر
 
 
کان العام 1960 وكنت أعمل بالمقر الأوروبى للأمم المتحدة بمدينة جنيف مديراً لقسم الإذاعة العربية بالأمم المتحدة. وإذا بجرس التليفون يدق ثم ينبعث صوت الأمير صدر الدين أغاخان المفوض السامي للاجئين يدعونى لاحتساء فنجان قهوة في مكتبه بنفس المبنى. هرولت إليه مسرعاً وكنت حينذاك فى الثانية والثلاثين من العمر. وهنا أقول: "ألا ليت الشباب يعود يوماً ..لأحكى له ما فعل المشيب". 
وبمجرد جلوسى على كرسى وثير بمكتبه الفاخر، قال لى : " لقد اتصلت بالأمين العام للامم المتحدة، في نيويورك و حصلت على موافقته أن نستعيرك  لنا عدداً من الأشهر. فضحكت وقلت: " إذا كانت الاستعارة لكى أحمل حقيبتك، فإننى من أهل الشرقية بمصر ولا نحمل حقائب أحد ولو كانوا من الأمراء"!! 
فرد ضاحكاً وقال : لا .. ستحمل حقيبتك انت في طريقك إلى الجزائر".
قلت "أهلاً بالجزائر والجزائريين". ثم أضفت: "نعم أتكلم الفرنسية، ولكننى أبغض الاحتلال الفرنسي للجزائر". فقال، رحمه الله، مقرك سيكون فى مدينة "وجدة" على الحدود بين المغرب والجزائر. وسافرت بعد ذلك الى الرباط، ومنها بالسيارة إلى الحدود بين الدولتين.
نزلت بفندق "تيرمينوس " بالمدينة مكان محافظها (العامل) اللواء المغربي عبد السلام الصفريوي الذى تخرج من الكلية الحربية بالقاهرة، وهو أيضاً، رئيس التجريدة المغربية التي بعثها المغرب إلى هضبة الجولان بالجبهة السورية خلال حرب أكتوبر سنة 1973.
وقد أحسن وفادتي وغمرني بكرمه . ونظراً لأن مهمتى المتعلقة بالجزائركانت "ناطقاً باسم الأمم المتحدة في حرب التحرير الجزائرية" ، كان لزاماً على أن أذيع يومياً على الموجة القصيرة برنامج نصف ساعة أسميته برنامج "العودة من وجدة ". 
كان هذا إشارة إلى أن فجر استقلال الجزائر على وشك البزوغ بعد أن أعلن الرئيس الفرنسى شارل ديجول: "إن أراد الجزائريون الاستقلال فلهم ذلك شريطة أن يكون ذلك فى استفتاء يرفضون فيه اعتبار الجزائر جزءاً من فرنسا". ولذا كان برنامج عودة الجزائريين الذين لجأوا إلى المغرب هو محور عملى وتعريف العالم الخارجى به.
وللقيام بمهمتى، اعترتنى ثلاثة عقبات: التسجيل والتوصيل والموجة القصيرة.
 أما التسجيل، فقد زودنى مكتب الأمم المتحدة بجنيف والمقر الدائم للجنة الصليب الأحمر والهلال الأحمر بآلة تسجيل من صنع سويسرى اسمها "ناجرا NAGRA" تتحمل الرجات والهزات وحتى الرمال التي قد تهب عليها. وأما التوصيل، فإلى أين؟ ليس أمامى إلا إذاعة الرباط التي تبعد عن وجدة بحوالي 600 ميلا إلى الغرب منها . وأما الموجه القصيرة، فقد تولاها الأخ محمد ودوش، دربت لها مواعيد يومية خاصة.
 كيف الوصول إليه؟ جلست في حيرة من أمرى ببهو الفندق. وإذا بي أسمع في المساء صفير قطار في محطة السكك الحديدية القريبة من الفندق. هرعت إلى المحطة حاملاً شريط تسجيل أول حلقة من برنامج "العودة من وجدة".والتقيت بسائق القطار "عمى أحمد" قلتُ له: "السلام عليكم" ورد بابتسامة عذبة "انت الأخ المصري المقيم بفندق ترمينوس؟ ". قلت "نعم" ممكن أن تعمل معروفاً؟ هذا شريط لإذاعة الرباط سوف يتسلمه  شخص منهم حين وصولك بالسلامة إلى الرباط صباح الغد إن شاء الله" قال "وخا" ومعناها باللهجة المغربية "موافق".
وعلى عادة "البقشيش" المصرية، قدمت له إكرامية، رفضها بأدب قائلاً "أنت هنا لخدمة قضية عربية، وهذا هو أقل ما نقوم به إزاءك". فشكرته وودعته. ثم انطلق القطار إلى وجهته إلى الرباط.
وفى اليوم التالى، استأنفت استقبالى لوفود الإخوان والأخوات الجزائريين العائدين بأمتعتهم من المغرب إلى بلادهم التى ازداد حنينهم إليها طيلة سبع سنوات. كانت العودة فى صورة قبائل ومن بينهم قبيلة "بنى هديل" التى توجهت إليها حال عودتهم للتهنئة بالتئام الشمل. فقدموا لى "البلح والتمر" ترحاباً بى. وحين انصرافى، قلت "بارك الله فيكم" "وجاء الرد" "وأنت والغاشى والأمة". لم أفهم معنى كلمة "الغاشى" فاتصلت بمحمد بن دووش طالباً التفسير. فضحك قائلاً: "أنت ابن عالم أزهرى. ولاتعرف سورة "هل أتاك حديث الغاشية؟".
خلال تلك الأشهر الرائعة، أشهر الكفاح الذى يصهر الأمم ويعيدها إلى أصولها الثقافية والحضارية والروحية، كان يأتى كل مساء شاب جزائرى اسمه "عبد العزيز بوتفليقة" والذى أصبح فيما بعد بسنوات رئيساً للجزائر خلفاً للمرحوم هواري بومدين.
كنت أقضى أمسياتى فى بهو الفندق نشرب الشاى معاً ونتبادل الأحاديث عن الحاضر والمستقبل. ومرت الأيام، واقتربنا من شهر يولية عام 1962، وإذا بالأوامر تصدر لى من جنيف من المقر الأوروبى للأمم المتحدة أن مهمتى لابد أن تنتهى قبل الخامس من الشهر إذ قد يحيط بإعلان استقلال الجزائر اضطرابات لادخل بالأمم المتحدة بها بعد أن استكملنا الإشراف على عودة اللاجئين من المغرب إلى الجزائر.
وإذا بالأخ الشاب بوتفليقة يخبرنى أن هوارى بومدين، وكان رئيس القطاع العسكرى فى غرب، يود أن أزوروه داخل الأراضى الجزائرية. ومما زاد فى تعقيدات تلك الحقبة أن قسماً من الجيش الفرنسى قد شق عصا الطاعة على ديجول، وتمركز فى مدينة وهران رافضين الخروج من الجزائر. انعكست تلك التعقيدات فى تزايد من صعوبة اصطحابى لصحفيين عرب وغير العرب لتفقد الأحوال داخل الجزائر. وكنت استشعر تلك التعقيدات حين زياراتى المتكررة لمدينة "عنابة" الجزائرية. وهى مقر الزعيم الراحل أحمد بن بيللا Ben Bella.
رايت على حوائط منزله صورتين: صورة جمال عبد الناصر الذى دعم الثورة الجزائرية بالسلاح والإذاعة، وصورة بن بيللا وكأنهما أخوين فى الرضاعة. رضاعة حب الأرض العربية وبغض الاستعمار الجاثم على صدورها
توجهت مع بوتفليقة للقاء قائده هوارى بومدين، وإذا به يرحب بى أمام صفين من جنود جبهة التحرير الوطني وطلب منى أن أستعرض "حرس الشرف" قبل مغادرتى إلى جنيف.
رأى فى وجهى علامات التردد، فقال "مشكلة؟" "قلت" نعم. أنا موظف دولى ومحظور على أن استعرض قوات عسكرية دون إذن من الأمين العام للأمم المتحدة".
فأخذ بيدى برفق وقال "نحن جنود مصر، وأنت مصرى. تفقد القوات!!" وفعلاً فعلت، وقلبى يخفق طرباً لاشتراكى فى لحظات تحرير خالدة فى الذاكرة.
وفى عام 1974، كنت بمكتبى بالأمم المتحدة بنيويورك التى عدت إليها عام 1968، وإذا بدعوة تصلنى من الوفد الجزائرى الدائم بالأمم المتحدة تدعونى إلى حضور العيد العشرين لقيام الثورة الجزائرية. وسافرت على الفور بأذن الأمين العام، وإذا بالقيادة الجزائرية قد أعدت لى فيلا خاصة أحيطت بكل مظاهر التكريم لكل من شارك من قريب أو بعيد بخروج الجزائر من عهد الاستعمار الذى بدأ عام 1830 إلى عهود التحرير والسيادة القومية والعربية الوطنية. ومازالت ذاكرتى تردد الأهازيج وصوت الميكروفونات معلنة: "تحيا الجزائر. يحيا المغرب العربى".
وكذلك تحفظ الذاكرة تلك اللحظة التى دخلت فيها غرفتى فى فندق جزائرى بعد الاستقلال، وإذا بالخادم الذى كان يحمل حقائبى يضعها على الأرض، ويتقدم نحوى معانقاً وفى عينيه دموع الفرح وهو يقول بصوت جزائرى محبب: "مبارك اليوم اللى شفناكم فيه".
وكذلك أذكر ماقلته لشيخ قبيلة بنى هويل مشاركاً له فرحته: "هل أنت فرح بالعودة؟" وغذا به يرد بصوت أجش: "ولدى!! العودة عودة العائلات فى فلسطين!!". وطربت لعروبته التى تضمنت إلغاء الحدود داخل الوطن العربى الكبير. فهو يتحدث عن كل العرب كعائلات لايفصل بين بعضها البعض خطوطاً لم تضعها اصابعهم ولكن أحلقتها ووضعتها أصابع المستعمرين.
وحينما كنت أستاذاً بجامعة سانت جونز  بضواحى مدينة نيويورك، كان من ضمن طلابى فى الدراسات العليا طالب جزائرى اسمه "الحاج عظوط" قال لى حينما حققت اسرائيل نصراً مؤقتاً على الجيش المصرى عام 1956، "كيف حدث هذا لمصر؟ لقد كنا نقف فى الجزائر أمام الدبابات الفرنسية منعاً لها للتقدم ولو داست علينا". ولذا كان المتطوعين الجزائريون فى حرب العبور عام 1973 فى عهد أنور السادات يدافعون عن مصر على أرض سيناء وكأنها فى نظرهم امتداداً لأرض الجزائر.
ولذا ظلت الإذاعة المصرية تردد الأغنية التى تمجد ذكرى المجاهد الجزائرى "عبد القادر" وكأنه المجاهد أحمد عرابى. وتقع قريته فى محافظة الشرقية بجوار قريتى التى ولدت فيها منذ 95 عاماً مضت. واسمها قرية "رزنة" التى تجاور قرية القنايات بالشرقية.
ولازلت أتذكر قول الشاعر السورى الذى صدح بـ"بلاد العرب أوطانى، من الشام لتطوان".
"إن هذه أمتكم أمة واحدة" وكل عام وأمتنا بخير.