كنت أزوره بين الحين والآخر في التسعينات من القرن الماضي، وهو أبن المدينة الجنوبية العتيقة، وأنا أبن قرية تابعة لها ليس فقط لأنه قاص جميل وأديب رائع، فتصبح صحبته فرصة لتبادل الأفكار، وسماع رأيه في كتاباتي القصصية، ولكن أيضا لأقص عليه أخر المستجدات في علاقتي مع "نون" زميلتي الجامعية التي أصبحت ملهمتي لقصص الحب الرومانسية التي كنت أكتبها وقتها ..كان ينصت باهتمام ثم بدون أن يتكلم يضع شريط كاسيت لفيروز، لنستمع لصوتها العذب الذى يجسد مشاعر تعجز الكلمات عن التعبير عنها, وكأنه يخبرني أن ما أود أن أقوله ها هو يخرج لحنا يملأ الفضاء حولنا .. هناك أيضا سبب آخر لزياراتي المتكررة له، وهو أنه يملك هاتفا منزليا لا تمتلكه أسرتي المتواضعة، وتلك فرصة كبيرة لسماع صوتها.. كان يحضر الهاتف ويتركني في غرفته حتى لا أحس بالحرج وفى أغلب الأوقات كنت أسمع صوت والدتها يجيبني، فأغلق الهاتف وأكمل حديثي معه.
*****
فضل أن يقطن في العاصمة بعد تخرجه من كلية التربية في أوائل التسعينات فهناك المجد ينتظره.. سوف يصبح كاتبا مرموقا بالتأكيد.. كان قد نشر له عدد لا بأس به من الأعمال القصصية بالصحف والمجلات الأدبية .. طلب أن يكون تعيينه كمعلم للمرحلة الإعدادية بالقاهرة حتى يكون قريبا من دور النشر والصحافة.. أجر غرفة بأربعين جنيها في الشهر، وكان يدفع يوميا جنيهان مقابل المواصلات، وبالتالي أصبحت مصاريفه بعد إضافة ثمن الطعام والشراب تتعدي المئتين من الجنيهات، بينما كان راتبه حوالي أربعة وثمانين جنيها مصريا لا غير، فأضطر للبحث عن عمل إضافي يكون مجزيا.. مرت السنوات، وكل ما كان يحاول فعله فيها هو البقاء على قيد الحياة دون أن يجد وقتا للكتابة أو النشر.. الآن كلما أمسك كتابا يتذكر حلمه القديم، ويتمني أن يعود للجنوب.
*****
أخبرني زميلي في الجامعة أن هناك فتاة قد سمعت بشهرتي في عالم الأدب والقصة، وترغب في أن أقرأ لها ما تكتب فرحبت بذلك، وفى الحقيقة أنا حتي الآن لا أتذكر أسمها "أقصد بذلك الفتاة" ولكني أتذكر أسم قصة لها كانت قد أرسلتها لي، وتسمي "كفاح فتاة" والقصة من نوع القصص التي تراها في الأفلام القديمة مع ركاكة في الأسلوب، فأحسست بالحرج في أن أبلغها رأيي صراحة، فاكتفيت بجملة بسيطة من نوع "بداية جيدة يمكن البناء عليها"، واعتذرت لها عن عدم توافر وقت لي لقراءة بقية أعمالها لانشغالي بالدراسة.. بعدها بأيام قليلة أعلنت الجامعة عن مسابقتها للقصة القصيرة، فتقدمت بإحدى قصصي المنشورة في أكبر المجلات العربية وقتها.. عندما ظهرت النتيجة كانت مفاجأة لي أن لا أجد قصتي ضمن القصص الفائزة، أما المفاجأة الأكبر هو فوز قصة "كفاح فتاة" بالمركز الأول.