عندما نفضت الأشجار عن كاهلها ثوب الثلج ، كنت وقتها في طريقي إلى بلاد الكفر ، قلب والدتي الصغير وقع وتدحرج أمامي ، نسيت حينها فن الركل وروحي تحاول لملمته وإبعاده عن أشلاء الطريق ، حينها انشغلت بمعانقة بسمة حبيبتي قبل أن تذبل، صورة أمي التي تبللت بالدموع لم تفارق مخيلتي وهي تنطق بالوداع، وعود عشقي الوارف الذي بدأ يتكسر تسرب مع دقات الوقت النابضة بالحنين.
_ ابني .. عربة الذرة لمن سوف تتركها ..
_ حبيبي .. شهاداتك الجامعية سوف أضعها تحت وسادتي كي لا تتغرب ..
حين حرقت كل مراكبي خلفي لم أجد عود ثقاب، كل الأعواد سرقتها حلكة الليل وتركت بيتنا بلا ضياء، والدخان الداكن الذي خيم على الكون أبى أن يتبخر.
_ عربتي تركتها لجنيننا إرثا" زوجتي الغالية ، وشهادتي مع لمة الجيران، يا أمي حاولي فك طلاسمها، على مصطبة دارنا العتيق.
_ لا تنسي يا نبع الحنان أن تطبعي قبلاتي الحارة على وجنتي صديقي القابع مع الرصيف، يبتاع علب المحارم بلا دموع، وينظف زجاج السيارات التي ضلت طريق مدنها، ويكنس بهدبه أرصفة الطرقات، وصورنا حبيبتي المركونة بجانب سريرنا حاولي أسر كل الغبار عنها باستمرار.
لم أستطع لحظتها التلويح بيدي .. كانت بلا كتف وخرج منها الظهر ، حاولت باليد الأخرى التشبث بذاتي ومداعبة صخب الموجات ، نظرت إلى أشرعة السفينة وهي تحارب الريح وتتسابق مع الغيوم البيضاء الهاربة معي والموج من خلفها يتكسر ، موجة تغتال موجة وأتوه أنا في العد ويموت من خلفنا الطريق والأسماك تبكي دون جفون .
حاولت زرع الألفة مع حطام الموج ، ألفيتها وهي تتسلق برشقاتها على جبهتي العالية تواسيني، والزبد يشكو لي الرحيق ، وقلبي المهاجر مع أسراب النوارس بحثا" عن عمل، ترك نصفه الثاني في الضفة الأخرى وأخذ يعانق الذكريات.
عندما بدأ الموت يتهاطل ويرسل لي دمعات أغرقت كل الموج . استيقظ الحلم وطوى حقبة الظلام والقهر وتسرب في كل أوردتي بلون الشفق لكنه أخذ يتقزم ، كل نبضة تعاتب الرحيل وترنو إلى دم جديد يسرح شعر الفرح ، ومع آخر نبضة وبقايا رشفة من ماء وطني العذب لاحت لي اليابسة من بعيد .