د. صلاح هاشم يكتب: الفُقَرَاءُ والوصمّة ..

د. صلاح هاشم يكتب: الفُقَرَاءُ والوصمّة ..
د. صلاح هاشم يكتب: الفُقَرَاءُ والوصمّة ..

لم أكن أتصور أن بيننا أُناسٍ يعانون من " حَوَّلٍ فُكرٍيٍ شديد الخطورة ، إلا حينما ظهرت بوادر الإحتفاء بالطالبة التى حصلت على أعلى مجموع فى الثانوية العامة ، حيث اتفقت معظم مانشيتات الصحف على عنوانٍ واحد فحواه " بنت البواب الأولى على الثانوية العامة " وكأن التفوق محرم على أبناء الفقراء والمهن الهامشية، وكأن الحياة حيزت بحذافيرها لأُسرِ الأغنياء.. الذين أيضا ينافسون الفقراء بقوة على أبوب الجنة، فغَنىٌ شاكر خيرٌ من فقيرٍ صابر .. !

لقد تناسى أصدقائى الصحافيين أن مصر أكثر من نصف سكانها فقراء .. وأن أدباء هذه الأمة وشعرائها وعلمائها، الذين شَكَلُّوا نسجياً حضاريا مهماً، فى ماضى هذه الأمة وفىحاضرها، كانوا جميعهم من أبناء البسطاء .. لم يفكر أصدقائى لحظة ولم يتدبروا فى الآليات التى يتحقق بها  العدل الألهى المطلق ..؟  بل ولم يتدبروا حقيقة السنن الكونية وكيف تتحقق على الأرض.. ولم يدركوا أبداً آليات  تداول الأيام بين الناس والدول ..!

فعادة ما تعتمد الدول ذات الصبغ الديمقراطية على " التعليم " كآلية فعالة عادلة فى تحقيق سنن التداول بين المواطنين .. فالسيادة والغِنَّى لم تعدً أمرا مطلقا كما كان فى عصورالإقطاع .. فالتعليم إذا تكافئت فُرَصُهُ، يصبح وحده قادرا على تحقيق التداول.فقد يُنجُب االغنى فقيراً،زقد يُنجِبُ الفقير غنياً .. لهذا فإن الدول التى تستهدف تحقيق العدالة الاجتماعية لا يمكنها بحال تحقيق هذا الهدف دون إقرار المؤسسات التعليميةلمبدء تكافؤ الفرص بين أبناء الفقراء والأغنياء .. إذ أدرك فقراء هذه الأمم أنهم لا يملكون نسباً مع السلطة، ولا يمكنهم تحمل  تكلفة الواسطة، ولا يملكون المال  الكافى ، وأنه ليس أمامهم سوى الإعتماد على التعليم كـ" آلية ناعمة " للخروج من الفقر، والإرتقاء إلى الطبقة الأعلى ..!

ومن ثم فإن التعليم فى البلاد الديمقراطية، أو التى تتشدق بهذا المفهوم تسمح بشكلٍ كبير بامتلاك السلطة عن طريق التعليم .. رغم أن انحيازها الواضح لطبقة الأغنياء ؛ عادة ما يدفعها إلى الزج بأبناء الفقراء فى مدارس عامة - لا تعليم فيها ولا علم - بينما تُهيئُالمدارس الخاصة " الناشونال والانتر ناشونال " لأبناء الأغنياء .. لكن سُنّةَ الكون فى تداول أيام  الله تأبى إلا أن تُقِيَم العدل .. فيتفوق أبناء الفقراء فى معظم الآحيان على أبناء الأغنياء..ليصبح التعليم " قاطرة الفقراء " إلى الطبقة الوسطى..!

لم يتصور الصحافيون الذى تبنوا حكاية " فتاة الثانوية " وروجوا لها،وجعلوها مادة إعلامية دسمة - ولو كان ذلك بقصدٍ الإحتفاء بهذه البُنيّة، وجعلِها نموذجاً لأبناء الفقراء الطامحين فى غدٍ أفضل، يقتح أمام أعينهم أبوب المستقبل، الذى كاد أن يُوصَدَ - إنهم ينتهكونخصوصية الفتاة، وحقها فى الإحتفاظ بتفاصل المعيشة التى دفعتها للتفوق . لقد أسقط هؤلاء الصحافيين " الورقة " التى كانت تستر عورة الفقر .. !

والأدهى من ذلك أنهم جعلوا لقب " دكتورة " يسبق اسمها،على اعتبار أنها سوف تدخل كلية الطب، فمنحوها شهادة لم تحصل عليها بعد، كنوع من المجاملة، ولم يدركوا أنهم بذلك يكرسون لاستخدام ألقاب ليست حقيقية.. !

نعم إننا أمام ط إعلام بلا عقل " ، يعجز عن تقدير نتائج ما يفعل. فى إشارة إلى أننا فى مجتمع يفتقد إلى كثيرٍ من الضوابط ، التى تُعَّلِى قيمة التعاطف، وتجعله مشروعاً، حتى ولو كان على حساب الصالح العام ..!

ما أصعب أن يُوصَمَ الإنسان بالفقر، فيصبح الفقر شارة على رأس كل فقير ، تجعل المجتمع يعزله فى منطقة عشوائية معدومة الخدمات، ويحرمة من الالتحاق بالكليات العسكرية، و يحرمه من العمل بكثيرٍ من المهن كالقضاء والسلك الدبلوماسى. بالإضافة إلى وَصمهِ بتجارةِالمخدرات وتعاطيها، وكذلك وَصمِهِ بالسلوك المنحرف أو القابل للإنحراف. وأحياناً يجرده الفقر من فضيلة العِفَةِ والشَرَف؛ فلا يَقبِل الأغنياء تزويج أبنائهم من سكان العشوائيات مثلاً،، والمبرر هنا جاهز– لا يوجد تكافئ ..! بل ويحذر المثقفون من الارتباط بالفتيات الحسناواتذات المَنبتِ ..!

 وأتصور أن " نجيب محفوظ" قد أثار هذا القضية فى روايته" الحب على هضبة الهرم " التى انتهت  بأن الفتاة الثرية إبنة الأستاذ الجامعى، حين اكتشفت أن حبيبها " المتفوق" يعيش فى المقابر مع أبيه " الحانوتى " قتلت الحُبَ لعدم تكافئ الفرص ..!

لن أستبعد أن يُقرَن اسم " فتاة الثانوية " دائما ببنت البواب أو عامل النظافة " الكَنَّاس " ، حتى وإن أجلسها الرئيس بجواره .. وسوف تظل هذه التسمية شارة على رأس الفتاة؛ تطاردها فى كل محفل اجتماعى ، وبين زملائها داخل قاعات الدرس .. لقد استباح هؤلاء الصحافيين الخوض فى الحياة الخاصة لطالبة متفوقة طموحة، لا ذنب لها إلا أنها تفوقت، وتناست أن أباها يعمل " بواباً " ..!

لقد أشبع المجتمع غريزته الشيطانية فى الخوض فى حياتها الخاصة، قبل أن يعطيها حقها فى التكريم والإحتفاء .. ذلك السلوك الذى ترفضه كافة الثقافات الإنسانية الحُرَة. التى تُقِرُ بحق إلإنسان فى عِشةٍ كريمة..فتقدم خدماتها الحكومية لكل طالبً لها، فطالب الخدمة عندها صادق حتى يثبت كذبه ، والكذب عندهم جريمة لا تُغتَفَر ..!  لهذا فإنها جَرَّمَت آلية فحص موارد الشخص، كشرط للحصول على الخدمة ..؟ فلا يُسأَلُ المحتاج عن دخله، ولا عن عدد أفراد أسرته، ولن ترسل الحكومة إلى بيوت المحتاجين باحثاً، تفتش عَينَاهُغُرَف النوم، وتصف ملابسهم الداخلية ..!

أما عندنا فيُنظَر دائماً إلى المحتاج بأنه كاذب، وربما " مُحتَال " وعليه أن يُثبِتُ صدق حالته،أو احتياجهِ بمستندات رسمية لا تقبل الشك.. فلكى تحصل أأسرة " المتوفى "على معونة" الدَفن  " لا تكفى الباحث معاينة الجثة، لكنه لابد من تقديم " شهادة الوفاة" قبل الصرف، والويل أن حدثت الوفاة فى أيام العطلة ..! وكذلك لا يمكن للطلاب الفقراء السكن بالمدن الجامعية أو الحصول على " دعم الكتاب"  إلا إذا قدم الطالب " شهادة فقر " معتمدة، مرفق بها بحثا اجتماعيا يثبت حالة أسرته الضنك، حتى وإن كان مُفَبركاً ..!

 

لست متحاملا ًعلى أصدقائى الصحافيين الذين جعلوا تفوق " إبنة البواب "قضية رأى عام .. وكنت أتمنى ان تُكَرَّمُالفتاة بين زملائها المتفوقين، فيكون معيار التكريم هو التفوق وليس الغنى والفقر، أعتقد أن ذلك كان سوف يكون عائده أفضل على الفتاة ذاتها وعلى جميع المتفوقين، وربما على المجتمع برمته..!

 لست متحاملا على المؤسسات التى راحت تمنح هدياها " لإبنة البواب " دزن غيرها من الفائقين؛لا لشيئ سوى لتحظى بصورةٍ أو خبر؛ يتصدر صفحات الجرائد. لكنى أرفض بشدة تحامل المجتمع برمته على الفقراء، وأطاالب بآليات تحفظ كرامتهم ولا تجعل الفقر شارة " تمييزية " قبيحة، تطاردهم حتى ما بعد الموت..!

 

للتواصل مع الكاتب 
 د. صلاح هاشم

Sopicce2@Yahoo.Com