اُجبِرتُ - بعدما كُسِرَتْ ذراعُ ولدي محمد - على الذهاب للنادي مساء اليوم، ولا تذهبْ بنفسك الظنونُ أيها القارئ فتحسب – وأنتَ واهمٌ الوهمَ كلَّه – أن شخصا ما أجبرني على الذهاب، والحذَرَ كلَّ الحذر أن تكون متيقنًا أن زوجتي (زوجي) فعلَتْ ذلك!! كنتُ انتظر سارة حتى تنتهي من تمرين السباحة، وأنا لا أفعل ذلك كثيرًا؛ فأنا - وهذا حق - أضِيقُ بالناس ومجتمعاتِهم، وتلك سمةٌ أصيلةٌ وإن عمَّقها الديوانيون - رحمهم الله - في نفسي، كان رفيقي في رحلة الانتظار تلك كتابَ المازني (صندوق الدنيا)؛ فأستاذُنا المازني خيرُ ملاذٍ نلوذ إليه - بعد الله - من البشر وشرورِهم، كنتُ أطالعُ بعضَ مقالات الصندوق مستغرقًا مع المازني و(حلاق القرية)، أضحك تارةً وأفغَر فمي أخرى؛ وهكذا شأني مع شيوخي الراحلين؛ يظن من يراني أني أقرأ لهم؛ رغم أني أحَدِّثهم ويحدِّثونني. فجأةً قاطعَني أحدُهم ممن يطوفون حولي كأنني بيتُ الله العتيق، لا يعرفون من لغة الحوار إلا جملةً واحدة: ( تشرب إيه يا بيه؟! )
وعندما أكون بالنادي - رغم قلةِ ذهابي إليه - أُلقي بلساني ولغتي الحادة جانبًا قبل ولوجي إحدى بواباته؛ فلا ذنْب للدهماء إن نالَهم مني ما يكرهون، إن تلك اللغةَ الحادةَ - في رأينا - لا تصلح إلا لهؤلاء الأنصاف أدعياء الأدب أحلاسِ الظلام سماسرةِ الثقافة.
كان الصراعُ بين المازني وحلاقِ القرية ونشوةِ الحدث قد بلغا الذروة في تلك الفقرة من مقال حلاق القرية "ويظهر أن معاشرةَ الحمير بلَّدت إحساسَه فإنه لم يعتذر لي ولا عبِئَ بسؤالي شيئًا، ثم أخرج الموسى من طراز المقص و«مكنة» من هذا القبيل أيضًا، فعجبتُ له لماذا يجيء إليَّ بكل أدوات الحمير؟ وسألته عن ذلك فقال: إن الله مع الصابرين. وبعد أن أفرغ مِخلاتِه كلَّها انتقى أصغرَ الأدوات، وأصغرُها أكبرُ ما رأيتُ في حياتي. ثم أقبل عليَّ وقال: «تفضلْ.»
قلت: «ماذا تعني؟» قال: «اجلسْ على الأرض.» قلتُ: «ولماذا بالله؟» قال: «ألا تريد أن تحلَق؟» قلت: «ألا يمكن أن أحلقَ وأنا قاعدٌ على الكرسي؟» قال: «وأنا؟» قلت في سري: وأنت تذهب إلى جهنم ونعم المصير، وهبطتُ إلى الأرض كما أمر، ففتح موسًى كالمِبرَد، فقلت: «إن وجهي ليس حديدًا يا هذا»، قال: «لا تخفْ إن شاء الله»، ولكني خفتُ بإذن الله، ولا سيَّما حين شرع يقول: «باسم الله، الله أكبر»، كأنما كنتُ خروفًا، ويبصق في كفه ويشحذ الموسى على بطن راحته، ثم جذبَ رأسي، فذعرتُ ونفرتُ ووليتُ هاربًا إلى أقصى الغرفة "
قاطعَني الرجلُ (ساقي الحمير) بلغة العارف الواثق: الكركديه يا محمود بيه!! قالها مبتسما وكأنه يعرفني من بعد خلق آدم – عليه السلام – بجيل أو جيلين على أقصى تقدير.
سألت نفسي: كيف عرف هذا الرجل أني كنت أتمنى لو أُطلِقَ عليّ أبي - يرحمه الله - محمودا؟! وكيف عرف أني أكرهُ هذا الاسمَ الذي يدعونني الناسُ به منذ وُلدتُ وحتى أُبعَثُ حيَّا؟! ومَن الذي أخبره أني أضِيق بحَمل هذا الاسم؟! يذهب معي إلي العمل، ويصحبني في الطريق، ينام معي ويستيقظ متى استيقظت، متى يفارقني بلا عودة؟!
نظرتُ إليه فإذا به طويلُ القامةِ ذو شَعرٍ كثيف، يحسب نفسَه - رغم أسنانه الغريبة وأذنيه - من أكثر أهل الأرض وسامًة، له صوتٌ عجيبٌ حقا يشبه صِياحَ الديكة.
قلتُ له: ما هذا يا رجل؟!
فقال: الكركديه يا محمود بيه!
- أنا لم أطلب هذا المشروب، ولا أحبه ولا أحب من يشربه.
- كيف هذا يا محمود بيه؟! إن الناس جميعَهم يحبون الكركديه..
- وهل افتتان الناس بهذا الكركديه يحمِلُني على حبه؟!
- لكنكً قلت: إنك لا تحب مَن يشربه، فهل تكره الناس جميعًا؟!
قلت: نعم.
حار ساقي الحمير، ولم يَدرِ كيف يجيب، ويبدو أن الأمر كان أكبرَ من طاقته، أو أنه ظنَّ أن بي جِنةً، وخشي على نفسه فعاد إلى الكركديه: "طيب يا محمود بيه، ماذا أحضر لك غير الكركديه؟!"
جاء دورُنا لنحوّل دفة الحديث؛ وما كنا لنسمح لساقي الحمير هذا أن يغيّر مجرى الحديث كما يشاء ونحن نتبعه، ومتى كنا تابعين له أو لغيره من المشعوذين؟!
قلنا: مَن أخبرك باسمنا؟! قال مبتسمًا: حضرتك عَلم يا محمود بيه، قلت يا صديقي: لا تأخُذَنَّك المجاملةُ فتبالغَ في مدحنا، بيد أن ابتسامتنا قد خَدَعتْ الرجلَ فأسرع قائلًا: معاذَ الله، ولِمَ أجاملُ حضرتك؟!
قلنا: مَن أخبرك باسمنا يا رجل؟ قال: تبادلتُ مع زميل لي (الوردية) وأخبرَني الزميلُ أنكم طلبتم كركديه، قلنا له: وماذا قال زميلكم تحديدًا؟!
قال: عندما سألتُه لمن الكركديه؟؟ أشار تلك الناحية حيث تجلسون، ثم وصفكم لي، قلنا: نعم، وكيف وصفنا زميلكم يرحمكما الله؟! قال: مما ذكره من أوصافكم، "ستعرف محمود بيه (الأبيضاني ) ذا الشعر الخفيف، الذي يجلس وحيدًا.
قلنا غاضبين صائحين والناس تنظر إلينا: وكيف يتبجح ويلفق لنا أوصافًا بعيدةً عنا بُعدَ الأرض عن جوِّ السماء؟! صحيحٌ أني ذو بشرةٍ (بيضاءَ)، وصحيحٌ أيضًا أني أجلس وحيدًا؛ لكنَّ الكذبَ كلَّ الكذبِ، والزورَ عينَ الزورِ أن يقول عنا: (ذو شعر خفيف) كاد الرجل يسقط مغشيًا عليه؛ بيد أن أحد (أعضاء) النادي وضع يدَه على كتف ساقي الحمير قائلا: " تعال هات الكركديه على التربيزة بتاعتي "، نظر إليه الساقي واجمًا، أومأ (العضو) برأسه يهمس – مبتسمًا - في أُذُن هذا الساقي: أنا محمود بيه!
التفت إليّ الساقي فوجدَني عدتُ إلى القراءة في صندوق الدنيا، وأبتسم للمازني، وأقول: ( أه يا مازني يا مجرم!) فأيقنَ أنني ذو جِنة، وولَّى من أمامي يضربُ كفًا بكف، وهو يردِّدُ: لا حولَ ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون.