المنتجب علي سلامي يكتب: قصة((أم جهاد))

المنتجب علي سلامي يكتب: قصة((أم جهاد))
المنتجب علي سلامي يكتب: قصة((أم جهاد))

(أمّ جهاد).. أرملة من الفئة الخامسة ،بتسمية عاملة نظافة، وهي قد زيّنت أحد حيطان بيتها بإجازة جامعيّة في علم الاجتماع، التي يئست منه ومن مسابقاته الخلبيّة التي لاتحبّ الفقراء، وكُلّفت بالعمل إداريّةً في ديوان إحدى المديريّات، تسجّل البريد الصادر والوارد، كونها جامعيّة وخطّها جميل ولا (واسطة) لديها، ويمكن التحكّم بها، واستغلال ضعفها،وهي مسالمة وطيّبة.....وقد كانت لخمسة وعشرين عاماً نشيطة في عملها ،ومثابرة في دوامها، وفي تدوين مئات الطلبات المكدّسة يوميّاًعلى مكتبها الحديديّ العجوز، ولم تكن تحصل على كلّ أيّام إجازاتها ،بسبب حاجة الإدارة إليها كونها العارفة بكلّ صغيرة وكبيرة في مجال عملها الديوانيّ، على الرغم من وجود موظّفة متصابية متعجرفة ،ترأس الديوان من الفئة الثانية عُيّنتْ قبلها، وبعد حصولها على الشهادة الثانويّة بدرجة مقبول مباشرةً، وهي لاعلاقة لها بأيّ أمر إداريّ  ،وخطّها مبهمٌ كالمكتوب على الوصفات الطبّيّة، ولاتعي من عملها إلّا إعطاء الأوامر لأمّ جهاد، وخاصّة عندما يتحلّق ضيوفها حول مكتبها، الذي كانت تجلس على عرشه المغرور كزنوبيا لاحتساء القهوة الاعتياديّة، وهي تعتبِرُ حضورها إلى الدائرة نوعاً من التسلية قبيل الظهر ،فهي لاتأتيه إلّا بعد التاسعة والنصف، وتغادره متى تملّه ،وكم تفاخرت بزوجها ووالدها وأخيها وابن عمّها، وهم جميعا في موقع المسؤوليّة في جوانب المدينة، وتباهت بولدها المشاكس ،الذي تضعه في أفخم جامعة خاصّة، ليصمد فيها عشر سنوات، هارباً من خدمة العلم، وبابنها الأوسط ،الذي امتطى بساط الريح إلى ألمانيا، بحجّة الدراسة التي هي مركبُ النجاة له من حلْقِ شعر رأسه وذقنه في صفوف الجيش الشريف....وكم كانت هذه المتفاخرة التي تمتلك سيّارة (ب . م) تمنّن ،وتهدّد أمّ جهاد عند أيّ تقصير أو هفوة أو مجرّد مطالبة بإجازة، وتذكّرها دائماً بأنّها فئة خامسة، وبحركة إصبع منها قادرة أن تنقلها إلى قسم النظافة، لأنّ القانون في صفّها....وكانت أمّ جهاد تصبر وتضع الملح كابسةً على الجرح، فهي مْستأجِرة لبيتٍ متواضعٍ في منطقة مخالفات ،خارج المدينة، ولديها شابّان متطوّعان في الجيش، الأوّل( جهاد) صف ضابط في ريف حلب والثاني( ميلاد )ضابط برتبة ملازم في ريف درعا، وراتباهما بالكاد يكفيهما طعاماً وسفراً، و(انتصار) ابنتها، تلازم البيت بعد حصولها على إجازة في العلوم منذ أربع سنوات ،وهي تنتظر مسابقةً من النجوم، أو عريساً من كوكب الأرض، وهي تحتاج لمن يُنفقُ عليها،كما أنّ هذه الأمّ المسكينة التي توفّي زوجها الذي كان يعملُ في متجر لأحد المسؤولين، تعاني الآن من البدانة ،ومن انقراص في فقراتها الرقبيّة، ومن الصعب عليها وبعد هذا العمر أن تعمل بجهد عضليّ، وهي الحاصلة بجدارةٍ على كرتونة مصلوبة وسط جدار البيت، الذي تعب من حملها........وفي صباح يوم شتويّ عابس، طُعِنَت هذه الأمّ بخبر ارتقاء ولدها الملازم أول شرف( ميلاد)، الذي أراق دمه الطاهر في عمليّة اقتحام بطوليّة في درعا، أشاد بها قائده، ومجّدها رفاقه، الذين افتداهم بجسده الفتيّ الشامخ، الذي تحوّل إلى أشلاء مضرّجة بدماء الكرامة، وكان ماكان من حزن وحسرة وتفاخر و عبرات شجن وكبرياء ،بعد أن نال ضناها وسام الرجولة والشرف......وبعد خمسة عشر يوماً استيقظت أمّ جهاد بعد حلم أبهج قلبها، رأت فيه شهيدها الغالي بلباس الثلج ضاحكاً ،وهو يقبّل يدها المجعّدة المرتجفة قائلاً لها : أنا حيّ معك ياأمّي،لاترتدي لباس الحزن، فلن أتركك بعد الآن أبداً ، ولن أموت .......فتركت بنشاطٍ سريرها الذي علّقت عليه سترةً عسكريّةً لميلادها، ولدها البطل الغالي ،كانت تسقي هذه السترة المضمّخة برائحته كلّ يوم من دموع قلبها ،الذي دفن مع جثمان حبيبها ، فارتدت لباساً أبيض على غير عادتها، وبدت واثقةً وجريئةً و قويّةً ،وكأنّ أوجاع عمودها الفقريّ قد تلاشت، أو كأنّ أحداً صبّ في شرايينها حياةً جديدةً، وانطلقت في السابعة صباحاً ،عندما راحت الشمسُ تزيح الغيومَ الداكنة من أمام عينيهاالبرّاقتين، وكأنّها أرادت أن تلقي بتحيّة الصباح على محيّا أمّ الشهيد...أمّ جهاد........زارت ضريح ميلاد في المقبرة القريبة من منزلها وانحنت لتقبّل ترابه وحجارته ،وتغرس بضعة أغصان من الريحان ووردتين حمراءَ وبيضاء،َ بعد أن قرأت الفاتحة على روحه الطاهرة، ثمّ مشت ربع ساعة،ٍ كما تعوّدت لتصلَ إلى شارع عام،ّ وتقلّها سيارة السيرفيس إلى المديريّة التي تعمل فيها....دخلت ترفع هامتها والكبرياء يرافقها تلقي التحايا على زملائها الموظّفين، الذين استغربوا لباسها ونشاطها وصوتها المرتفع وجرأتها المولودة حديثا،ً ثمّ وصلت مكان عملها (غرفة الديوان) الساعة الثامنة، لتجلس هذه المرّة مكان رئيسة الديوان وعلى مكتبها، وعلى كرسيّها الفخم وأمامها الهاتف والمصحف الشريف وفنجان القهوة.....فهي الجديرة بذلك...أليست أمّ الشهيد الرجل الذي لم يهرب؟!...أليست أمّ جهاد الذي يقاتل أعداء سوريّة ويصدّ خطرهم لكي يحيا الآخرون بسلام؟!...أليست الحاصلة على إجازة جامعيّة بمرتبة ممتاز وكان مصيرها الإعدامُ قهراً بالصلب الجائر على الحائط؟!....أليست من حُرمت طعم الراحة لخمس وعشرين سنة في عملٍ لخدمةِ مديريّة كاملة؟!....أليست من حُرم أولادها الجامعة ليتطوّعوا في صفوف الجيش الذي تُرفعُ أحذية أبطاله في كلّ المناسبات؟!....أليست من قدّمت عشرات الطلبات من أجل تعديل وظيفتها إلى فئة أعلى وكلّها باءت بالفشل لأنّها من أسرة كادحة فقيرة؟!....أليست من تمتلك كفاءة في العمل الإداري وقدسبّب لها مرضاً مزمناً في رقبتهاّ؟!..........قرّرت أنّها بعد الآن لن تخاف ،ولن تركع لأحد إلّا لله ،ولو سجنت، أو طُردت....فهي أمّ الشهيد ميلاد، وأمّ البطل جهاد......وإن أُجْبرَتْ على أن تعمل عاملةَ نظافة ،فلن تخالف قانون سوريّة الغالية ، فدوائرها بحاجة إلى موظّفاتٍ شريفاتٍ و موظّفين شرفاء....لتنظيفها وتنظيفها.