أخبار عاجلة

د. محمد فتحى عبد العال يكتب: الطبيب الإنسان

د. محمد فتحى عبد العال يكتب: الطبيب الإنسان
د. محمد فتحى عبد العال يكتب: الطبيب الإنسان

 

تكريم من عدو :

في عام 2013 منح مركز (ياد فاشيم) الاسرائيلي والخاص بتكريم ضحايا المحرقة اليهودية  (الهولوكوست) ميدالية (الشرفاء بين الأمم) لطبيب مصري هو محمد حلمي لكن القائمون على المركز لم يستطيعوا الوصول لعائلته. ولقد أثار هذا التكريم العديد من علامات الدهشة وقتها خاصة في الأوساط العربية والتي يجمعها بالكيان الصهيوني سنوات من العداء المستحكم  فمن هو محمد حلمي ولماذا فاز بهذا الوسام كأول عربي يحوز على هذا اللقب؟ ولنبدأ الحكاية من البداية

 

عبقرية المكان :

ولد محمد حلمي بالخرطوم عام 1901 لأبوين مصريين في وقت كانت مصر والسودان ممتزجتان في بوتقة واحدة كوطن واحد تحت ظلال التاج الملكي المصري. لا نمتلك التفاصيل عن ظروف نشأة محمد حلمي ولكننا نستطيع أن نستشفها في ضوء الظروف التي سادت فترة نشأته وقبيل انتقاله لبرلين عام 1922.

لقد وقعت بمصر أحداث جسام قبل مغادرة حلمي لمصر بسنوات قليلة  إذ اندلعت نيران ثورة عام 1919 في أعقاب نفي الزعيم سعد زغلول ورفاقه إلى مالطة حيث جري توقيفهم أثناء محاولتهم السفر إلى باريس لعرض مسألة استقلال مصر في مؤتمر الصلح هناك.

لقد  كشف الحراك الإجتماعى إبان هذه  الثورة  عن عبقرية الوطن المصري الجامع لعناصره الثلاثة: المسلمون والاقباط واليهود لتقضي على اكذوبة الانقسام الطائفي والتي روج لها المستعمر الإنجليزي واتخذها ذريعة للبقاء بدعوى حماية الأقليات  وذلك عقب اغتيال بطرس غالي رئيس الوزراء القبطي السابق برصاص شاب مصري مسلم هو ابراهيم الورداني عام 1910.

لقد ظهر وعي المصريين بجلاء في رفض بقاء المستعمر والتدليل على وهن حجته  وان الوحدة الوطنية بين المصريين لا تعرف تمييزا بين المواطنين على أي أساس طائفي او عنصري ولنستدعي من ذاكرة تاريخ هذه الثورة الفتاة اليهودية (نظلة ليفي) والتي ذهبت إلى الجامع الأزهر لتخطب في الناس وفي مشهد فريد كان الشيخ أحمد الحملاوي العالم الأزهري يسير إلى جوارها وبصحبتهما أحد القساوسة ووقف الثلاثة أمام الحاضرين وجلهم من المسلمين فتحدثت نظلة قائلة  :(ان هذه الأيام ليست أيام اضراب عن العمل بل أيام العمل كل العمل عمل النفوس والارواح وهو رأس كل عمل مادي وأن أكبر عمل هو أن تتفق الأمة المصرية جميعها حتى تصير كرجل واحد فلا يمنع الدين الاتحاد لأن للوطن حرمة كحرمة الدين يشترك فيها أهله على اختلاف المذاهب والأديان لذلك اشترك المسيحيون والاسرائيليون مع إخوانهم المسلمين وانها لبداية حياة جديدة في مصر والمصريين ومن الجديد فيها أن تقف فتاة إسرائيلية للخطابة في هذا المعهد الشريف وليس هذا غريبا فبنو إسرائيل والمسلمون أخوة لأب واحد هو ابراهيم  ودعت في النهاية للمحبة والائتلاف).

كما نجد سيرجيوس أول رجل دين مسيحي يعتلي منبر الأزهر وظل لعدة أشهر برفقة الشيخ (محمود أبو العبر) مناديا بالكفاح ضد المحتل حتى أن سعد زغلول أطلق عليه (خطيب الثورة الأول)ومما ورد فى إحدى خطبه: «أنه مصرى أولًا ومصرى ثانيًا ومصرى ثالثًا، وأن الوطن لا يعرف مسلمًا ولا قبطيًا، بل مجاهدين فقط دون تمييز بين عمامة بيضاء وعمامة سوداء»، وهو يشير إلى عمامته السوداء وحينما اعتلى منبر الأزهر خطب وقال: «كنت أسير فى كلوت بك ووجدت أطفالا فى الشارع يصرخون: أمنا فى المنزل وهناك جنود يعتدون عليها فصعدت للمنزل فوجدت امرأة يعتدى عليها الجنود الإنجليز، أتدرون من هم الأطفال ومن هى الأم، فقال الجهمور لا.. فقال لهم الأطفال هم فئة الموظفين والأم هى مصر، فثار الموظفون فقال لهم.. أظهروا شعوركم هذا حيال أمكم مصر».

إن الأساس الحقيقي لبناء أي دولة يكمن في الضمير الحي.. في الإنسان السوي... في المجتمع الرشيد فالضمير هو الفطرة وهومظلة الأخلاق التي تحكم أي مجتمع وترشده إلى الصواب و بناء الإنسان السوي لا يكون إلا في مجتمع رشيد كما أن  المجتمع الرشيد لا يشتد بنيانه الا حينما يقوم على أفراد اسوياء انها معادلة البناء في أي مجتمع راقي  فاستواء الانسان كفيل ان يحقق له السلام الحقيقي داخل نفسه وخارجها فالنفس تتسامي وتعيش حالة من الاتزان والتماسك  والذي يظهر أثره في تناغم هذا الإنسان السوي مع المجتمع من حوله ونبذه للتطرف والتعصب والعنصرية البغيضة وهنا يستنير المجتمع وينهض وهذا ما كشفته ثورة عام 1919 انها عبقرية هذا الوطن و روعة هذا الزمان وفي وسط هذا الإيقاع المتجانس لابد وأن تكون النشأة صحية وسوية لأي انسان لذلك لا نتعجب مما سيفعله محمد حلمي فيما بعد.

 

المحطة الثانية :

سافر محمد حلمي إلى برلين لدراسة الطب ثم عمل بمعهد روبرت كوخ بعد تخرجه.

  مع صعود  نجم ادولف هتلر والحزب النازي  ووصلهم للحكم في ألمانيا عام 1933 أصبحت ألمانيا في قبضة الديكتاتور الملهم والأوحد فسادت فكرة العرق الآري القائم على نزعة تفوق العنصر الألماني وأصبحت الدولة الألمانية جهاز عرقي يمارس الاضطهاد ضد الأقليات في العالم ولقد شرح هتلر في كتابه كفاحي  بكل وضوح ذلك فيقول (إن الشعوب التي تتخلى عن الحفاظ عن نقاوة عرقها تعدل في الوقت نفسه عن وحدة روحها) .

تعرض حلمي للتمييز العنصري مع غيره من حاملي الجنسية المصرية وتم فصله من عمله وهنا يحدث التحول في حياة محمد حلمي الشاب المصري الذي عرف قيم الحرية ونبذ العنصرية في وطنه مصر فبدأ  يناصب هذه القوي الجديدة العداء بشكل علني مما جعله فريسة لكثير من المصاعب فمنع من الزواج من خطيبته الألمانية كما قبض عليه مع مجموعة من المصريين عام 1939 ثم أفرج عنه لظروف صحية.

 

القلب الرحيم :

ولأن الانظمة الفردية والاستبدادية دائما ما تودي بأوطانها إلى الهاوية فقاد هتلر وطنه و العالم إلى أتون حرب مدمرة خلفت الملايين من الضحايا وخلال هذه الحرب كان حلمي يقوم بدوره في مداواة الجميع دون النظر إلى جنس أو ديانة ليقوده القدر إلى عائلة  (آنا بوروس) اليهودية- أصبح اسمها غوتمان بعد الحرب - وتطوع حلمي لحماية هذه العائلة  من الأذى بكل شجاعة وذلك في أعقاب الترحيل القسري لليهود من برلين فساعد آنا على الحصول على أوراق ثبوتية للهروب كما قدم العناية الطبية والدوائية لاسرتها وأمن مخبأ لجدتها المسنة في بيت فريدا شتورمان والتي كرمتها مؤسسة ياد فاشيم هي الأخرى.

وقد سجلت آنا شهادتها بكل عرفان لجميل محمد حلمي إذ تقول  لقد قام دكتور حلمي، وكان صديقا حميما للعائلة... بإخفائي في كوخ له في ‘بوخ‘ من 10 مارس آذار حتى انتهاء الحرب. ومنذ سنة 1942 لم تعد أي صلة تربطني بالعالم الخارجي. وقد كان الجستابو، (الشرطة السرية النازية)، يعلم بأن الدكتور حلمي كان طبيب عائلتنا، وكان يعلم أيضا بأنه يملك كوخا في ‘بوخ‘. وقد تمكن من تجنب جميع تحقيقاتهم معه، وفي مثل تلك الظروف كان يأتي بي إلى أصدقاء له، حيث كنت أقيم لبضعة أيام، مقدمة نفسي على أنني ابنة عمه القادمة من مدينة دريزدن. وبعد زوال الخطر، كنت أعود إلى كوخه.. لقد فعل دكتور حلمي ذلك من وازع قلب رحيم وسأبقي له شاكرة للأبد).

توفي محمد حلمي عام 1982 دون ابناء لكنه خلف ورائه أسطورة انسانية قيمية جسدها ببراعة. 

 

 

د. محمد فتحي عبد العال