إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة السادسة)

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة السادسة)
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة السادسة)

  الموعد بين عادل والكاتب ناجي عنايت ، ينتظر بقلق لا يجد مبرراً له . حدد الموعد الكاتب ناجي عنايت والد ميرفت جنية بحور الشعر . المقابلة بشأن التفاهم معه على بعض الأمور ، قبل أن يوافق على خطبته من ابنته ميرفت . أفكار عادل غير مستقرة ، فكرة تجب فكرة عن سبب هذا اللقاء المنفرد بعيدا عن ميرفت ، أوصاه ألا يخبرها . لم يكن قد تبحر في قلقه كثيراً ، عندما جلس أمامه ناجي عنايت بابتسامته الواثقة المريحة ووجهه الذي يوحي بأنه يحمل أسراراً أكثر من أساطير رواياته . نظر إلى عادل وكأنه يقرأ كل ما بداخله دفعة واحدة ، سأله بالرغم من أنه سبق وسمع إجابة لسؤاله في أول مرة ذهب إليه عادل في منزله :

_ هل يمكنك أن تعيد على سمعي يا عادل كيف التقيت مع  ميرفت؟

ضحك عادل قائلاً :

_ الآن علمت يا عمي سبب هذا اللقاء ، بداية قصة جديدة من قصصك الرائعة.

أجاب ناجي عنايت وعيناه تخترقان سحابة الدخان المنبعثة من غليونه الذي لا يتخلى عنه أبدا.

_ ولماذا لا تكون نهاية لقصة بدأت منذ فترة طويلة ؟ ثم أردف قائلا: ما سأبوح به لك يجب أن يظل طي الكتمان بيني وبينك ، لا تبوح به إلا للضرورة القصوى . كان يمكنني ألا أخبرك به ، لكن الضمير والأمانة يقتضيان أن أطلعك على كل شيء عن الفتاة التي تقدمت لخطبتها ، حجب الحقيقة أمر لا يتحمله ضميري .

قال عادل وبعض من قلق يداعب كلماته :

_ أعدك يا عمي بأن أي أمر ستخبرني به سيكون سراً بيننا ، أنا أعلم أنك لن تسألني هذا إلا إذا كان في صالح ميرفت .

هز ناجي عنايت رأسه وكأنه يؤكد على كلمات عادل ، تاهت نظراته ثانية خلال سحب الغليون الكثيفة وقال :

_ منذ حوالي ثمانية وعشرين عاما ، لحقت أنا بأخي أو الأدق توأمي" نظمي فكري عنايت " ، هاجر قبلي إلى أمريكا .. حصُل على دكتوراه في الطب وحصلت أنا على الدكتوراه في الأدب من جامعة هارفارد . خلال هذه الفترة تعرف على فتاة أمريكية رقيقة جميلة ، كانت زميلة له ، من أسرة غنية تمتلك ثروة لا بأس بها ، تحول ما بينهما إلى حب جارف انتهى بالزواج السعيد . شاء القدر أن تنشأ بيني وبين أختها علاقة حب أيضا انتهت إلى طريق الزواج أيضا . لم يتبق لهذه الأسرة سوى الأخت الثالثة ماري كان عمرها في ذلك الوقت لا يتعدى السادسة عشر ربيعا ، عشنا جميعا في سعادة وبهجة .. أنجب  نظمي طفلة جميلة رقيقة كأمها " كارمن " كانت بهجة لنا جميعا ، كانت تضحكنا جميعا وهي لا تزال في الثانية من عمرها عندما تخلط بيني وبين أبيها نظمي الذي يشبهني تماما . في يوم قرر والد زوجتينا أن نقوم برحلة بطائرته الخاصة ، كثيرا ما كنا نفعل هذا في العطلات ، ذهبنا جميعا عدا ماري وطفلة نظمي التي كانت متعلقة  بخالتها الصغيرة ماري ، اعتذرت عن الحضور معنا لتتمكن من حضور حفلة عيد ميلاد صديقة لها مصطحبة معها طفلة نظمي . طارت بنا الطائرة الخفيفة وضحكاتنا تعلو على صوت هدير محركها . فوق إحدى الغابات حاول والد زوجتينا الارتفاع بالطائرة ليتفادى الاصطدام بالأشجار المرتفعة ، لم تستجب الطائرة ، كان آخر شيء وعيته هو الاصطدام الشديد بأشجار الغابة والصرخات المذعورة للجميع .

فتحت عيني بعد غيبوبة لبعض الوقت ، كنت في حالة لا أحسد عليها وأنا معلق على أحد الأشجار ، تمكنت من الهبوط للأرض بالرغم من الآلام التي كنت أشعر بها في كل جزء من جسدي والدماء تنزف من هذا الجرح الذي لا تزال أثاره باقية فوق وجهي ويذكرني كلما نظرت في المرآة بهذا اليوم المشئوم . اغتابت عيني أشلاء الطائرة المبعثرة على  مسافة كبيرة ، والدخان ينبعث من بعض أجزائها المحترقة ، جثث الجميع ما بين متفحمة وممزقة . أدركت بنظرة واحدة أن الجميع تركوا الحياة للآخرة ، كنت كمن أصيب فجأة بالبلاهة ، أنظر إليهم وكأن الأمر ليس له علاقة بي . توكأت على غصن وجدته ملقى على الأرض في محاولة للوصول للطريق لطلب النجدة ، أرهفت السمع لصوت أنات خافتة صادرة من بين الأشجار الكثيفة ، تمكنت من الوصول إليها. " كارمن " زوجة أخي لا تزال تتنفس الحياة . نسيت آلام جسدي واندفعت بأقصى قوة أزيح الأغصان الكثيفة من طريقي لأصل للطريق أملا في وهم تملكني ، بأنني أخطأت وأن هناك آخرين لا يزال النفس يتردد داخل صدورهم . عندما حضرت الشرطة والإسعاف تبين أن الوحيدة التي لا تزال تملك بعض الأنفاس الباهتة هي كارمن زوجة أخي ، تم نقلي وإياها بسرعة بواسطة طائرة إلى أقرب مستشفي . شفيت من إصابتي ،  خدوش وجروح وكدمات ، واستدعى الكسر بساعدي أن يضمد برباط الجبس ولكنه لم يعقني عن مغادرة الفراش . كارمن زوجة أخي كانت لا تزال في غيبوبتها التي بقيت بها لحوالي شهرين وعندما عادت لوعيها كانت قد فقدت ذاكرتها تماما ، وكل شيء عن حياتها الماضية حتى طفلتها . ما أوجعني وآلمني ، أنه لم يكن هذا هو الشيء الوحيد الذي أورثته لها الحادثة المشئومة ، ظهرت عليها حالة من الهياج العصبي تنتابها بين الوقت والآخر فتحاول الاعتداء على أي شخص يقترب منها حتى طبيبها ، فقال عنها الأطباء أنها حالة من اللاوعي تكمن في عقلها الباطن ، تصور لها أن هذا الشخص سيحاول الاعتداء عليها ، كان من المستحيل المجازفة باقتراب الطفلة منها ، حاول الطبيب مرة ولم تبد على وجه الأم أي إشارة تقول أنها تتذكرها ، علاوة على نظرة عدوانية بدت في عينيها . قرر الطبيب إبعاد الطفلة عنها نهائيا وإلى أجل غير مسمي ، انتظرت حوالي العام على أمل أن تتحسن حالتها ،  لم تحقق أي تقدم ، التقارير أوضحت أن الحالة تزداد تعقيدا . خلال هذه الفترة كانت الطفلة في رعاية ماري خالتها والمتبقية الوحيدة من الأسرة وفي رعايتي ، كانت الطفلة  تندفع نحوي كلما رأتني ظانة أنني أبيها . مر عام آخر ولم يلح أي أمل لقرب شفاء كارمن زوجة أخي وأم الطفلة . خلال هذه الفترة كانت ماري قد تعرفت على شخص أحبها وأحبته وقررا الزواج ، كان خطيبها شابا متعلما ورقيقا ، ساعدني كثيرا في أن أحقق ما رأيت أنه الشيء المناسب الذي أقدمه لأخي الراحل ، للمحافظة على ابنته التي كانت بمثابة الروح له . استطاع بعد جهد أن يقنع ماري خالتها لكي تتخلى لي عن الطفلة لتربيتها وفقا لعاداتنا وتقاليدنا الشرقية ، لم يكن الأمر سهلا وخاصة بعد أن أبديت رغبتي في الرحيل إلى مصر والاستقرار بها . وافقت ماري بعد أن بذلت لها الوعود الصادقة بأنني لن أحرمها من طفلة أختها ، فتحت لها الباب على مصراعيه لتزورنا في مصر وقتما تشاء ، كما تعهدت بالعودة لأمريكا مع الطفلة بين الوقت والآخر لتراها في حالة عدم تمكنها هي من الحضور ، وخاصة أن للطفلة إرث كبير لا أعلم عنه أي شيء حتى الآن.

عدت لمصر وبصحبتي طفلة أخي التي لم تتجاوز الأربعة أعوام ، اتخذت خطوة رأيت وقتها أنها أصلح شيء ، لتنشأ طفلة أخي نشأة سليمة ، لا يشوبها أي عقد أو رواسب نفسية من الماضي ، قررت أن أنسب الطفلة لي لتكون ابنتي بالفعل ، أتممت هذه الإجراءات في أمريكا واستخرجت لها جواز سفر ، ولم يمنع هذا بقاءها في أمريكا مسجلة باسم أخي المتوفى ، إذ ساعد تشابه الأسماء أن تتم هذه الإجراءات بدون أي مشاكل ، هو اسمه نظمي فكري عنايت وأنا ناجي فكري عنايت ، في أمريكا يسجل أسم الطفل متبوعا باسم العائلة وهو عنايت ، أما الاسم الأوسط فيكتفي في أغلب الأحوال بكتابة الحرف الأول من الاسم ، لم يكن صعبا بهذه البيانات أن أسجلها باسمي هنا . ربما تراودك الشكوك في أني فعلت هذا طمعا في ميراثها ، قد تندهش إذا قلت لك بأني لم أحاول حتى أن أستعلم عنه . عدت إلى مصر وأقمت في الإسكندرية حيث مسقط رأسي ، كانت هناك مكاتبات منتظمة بيني وبين ماري خالة الطفلة ، فجأة انقطعت المكاتبات من جانبها ، حاولت الاتصال بها هاتفيا في منزل أسرتها ولم أتلق إجابة . انتهزت قدوم الصيف وذهبت أنا والطفلة إلى أمريكا لأفي بوعدي . لكن عند وصولي لمنزل العائلة  وجدته مهجورا ، دخلت للداخل مستخدما المفتاح الذي تركته معي ماري ، وجدت كل شيء كما تركته ، وبسؤال أقرب جار الذي يقع على مسافة بعيدة ، لأن المنزل قصر تحيط به مساحة شاسعة من الحدائق ، لم يرطب حلقي بأي أخبار عن ماري . سوى أنها اختفت هي وزوجها فجأة من المنطقة . تركت داخل القصر ورقة كبيرة في مكان واضح إلى ماري بها رقم هاتفي وعنواني ، حتى يمكنها الاتصال بي حينما تعود ، لأني كنت قد قررت أن أترك الإسكندرية إلى القاهرة للإقامة بها . بقى أمامي أمل آخر وهو الذهاب إلى المستشفى الذي كانت تعالج فيه كارمن والدة الطفلة ، لم يشفوا غليلي بأي خبر عنها ، تسلمتها ماري أختها مصحوبة بتقرير لإيداعها بأحد المصحات النفسية ، على أمل أن تشفى من حالتها إذا عاودتها الذاكرة في يوم من الأيام ، للأسف فشلت في الاستدلال على عنوان المصحة التي أودعت بها. بعدها بحوالي عام قمت أنا والطفلة بزيارة لأمريكا للمرة الثانية عسى أن أصل لأي معلومة عن أمها أو خالتها ، لم تكن رحلتي بأوفق من سابقتها ،  الورقة التي كنت تركتها لماري في نفس مكانها. منذ ذلك الوقت لم أذهب إلا مرات قليلة ولم أحاول حتى أن افحص الأوراق التي بالقصر للاستدلال على ميراث ابنة أخي .

أعود بك مرة أخرى إلى زواجي من أخت كارمن التي وجدت فيها ما لا يتخيله بشر ، والتي كانت من ضحايا الرحلة المشئومة أيضاً ،  حب وإخلاص وتفاهم تام على كل خطوة من خطوات حياتنا ، حط القدر بأكبر مصيبة على رأسي حين فقدتها وفقدت معها طفلي الذي كان بأحشائها ، كنا ننتظر قدومه بفارغ الصبر ، هناك عواصف لا تخبرك بمقدمها كتلك العاصفة التي حطمت أمامي بكل أحبائي في الحياة . عافت نفسي بعد هذه الزوجة الرائعة الارتباط بأي زوجة أخرى قد يكون لها من الطباع ما يشوه أحلى صورة للارتباط بين الرجل والمرأة ..هذا الذي كان بيني وبين زوجتي ، لن أكون مبالغا إذا قلت لك أنني أعيش فيه حتى الآن ، وهذا ما دفعني لأن أتخذ من طفلة أخي  ابنة لي لتكون هي ميرفت ، نعم ميرفت جنية بحور الشعر التي سحرت قلبك هي تلك الطفلة.

أغمض الكاتب ناجي عنايت عينيه ، لم تنبس شفتا عادل بكلمة واحدة ، أحس بمرارة الرجل في حلقه وهو يرى دمعة تنساب من اسفل الجفنين المغمضين ، كتم أنفاسه حتى لا يزعج ذكرياته ، فتح ناجي عنايت عينيه وعادت ملامحه لطبيعتها ، ابتسم قائلاً :

_ لم أسمع منك أي تعليق يا عادل ولم تقاطعني أثناء الحديث ، أضفت لي جانبا جديدا من شخصيتك ، التي تحبب فيك من يراك منذ أول وهلة كما حدث معي .

قال عادل وهو يودع عينيه نظرة تفوق الاحترام :

_ أشكرك يا عمي على إطراء قد لا يبدو له أثر إذا قارنت نفسي بك ، وتأكد من أن ميرفت نظمي عنايت هي ميرفت ناجي عنايت بالنسبة لي ، بل أشكرك من كل قلبي على ثقتك الغالية في شخصي ، التي دفعتك أن تبوح لي بهذا السر وتأتمنني عليه ، هذا السر سيموت معي إن لم تضطرني الظروف للبوح به لميرفت كما أخبرتني .

قال ناجي :

_  لكن هذا لن يعفيك من واجبك في السؤال عن مصير أمها أو خالتها ، في حالة ظهور أمها أرجوك أن تأخذها إليها ، وإذا كنت  قد فارقت الحياة ، اشرح لها أسبابي التي من أجلها أخفيت عنها الحقيقة .

قال عادل بنبرة جادة :

_ تأكد يا عمي بأن كل ما تقوله لي سيكون بمثابة أمر واجب التنفيذ .

_ انني متأكد من رجولتك يا عادل .

قال عادل مبتسماً :

_ أتلهف على سماع كلمة مبروك من شفتي من أنظر إليه الآن كأب ثان  .

قال عنايت وعيناه تلمعان :

_ قلتها لك في عقلي منذ أول مرة رأيتك فيها بمنزلي حين حضرت مع ميرفت ، فطرة الكاتب تتيح له أن يستشف ما بداخل كل إنسان  من أول وهلة ، وما رأيته داخلك  هو ما كنت أحب أن أراه في طفلي الذي لم ير النور .

 

وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة ؛

 

 

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

**********************