أمر الخديو إسماعيل، الضباط المتمردين، بالانصراف من سراى وزارة المالية، قائلا: «إذا كنتم ضباطى، فيمينكم تلزمكم بطاعتى، فإن رفضتم كنستكم كنسا»، فأطاعوه على غير رغبة، وتذمر بعضهم مطالبين بتركهم يسوون حساباتهم كما يشاؤون، وصاح آخرون: «ليمت الكلاب النصارى»، فأنزلهم الخديو السلالم واجتمعوا بزملائهم الذين يحاصرون أبواب السراى، وأطل «إسماعيل» من نافذة وأمرهم بالتفرق، والعودة إلى بيوتهم، لكنهم رفضوا، فاستدعى الجيش، وأطلق بعض الضباط مسدساتهم فى الهواء، وجرح بعض الجنود والمتمردين، وجرح تشريفاتى الخديو بضربة سيف وهو بجانب مولاه، وتعرض الخديو نفسه إلى خطر كبير، واستمر الأمر نصف ساعة حسبما يذكر إلياس الأيوبى، فى كتابه «تاريخ مصر فى عهد الخديو إسماعيل باشا».
كان المتمردون من الضباط الذين تمت إحالتهم إلى الاستيداع، بقرار شمل ألفين وخمسمائة ضابط، بحجة الاقتصاد فى مصاريف الجيش المصرى، وذلك فى سياق علاج مشكلة عجز سداد إسماعيل للديون الخارجية، التى دفعته إلى الاستسلام لمطالب الدول الدائنة بتشكيل مندوبية لفحص الحالة المالية، ضمت فى عضويتها مصريا واحدا، هو مصطفى رياض باشا، ومندوبا إنجليزيا، هو ريفرس ويلسن، وآخر فرنسيا، اسمه ليرون ديرول، وأصبح الاثنان عضوين فى الحكومة التى يترأسها نوبار باشا، وكانت لهما سلطة القرار فى تصاريف أموال مصر، وأصبح «إسماعيل» - فى هذا الوضع - حاكما بلا قرار، وفقا لتأكيد «الأيوبى».
يذكر «الأيوبى» أن المندوب الإنجليزى «ويلسن» كان هو صاحب قرار إحالة الضباط إلى الاستيداع، دون أن يصرف شيئا لهم من رواتبهم المتأخرة، فانضموا مع عائلاتهم إلى أقصى حدود الفقر، ويدلل على حالة فقر الضباط، بذكره قصة ضابط طالبه صاحب البيت بأجرة السكن المتأخرة عليه، فخرج الضابط واستدعى أول حمار قابله (كانت الحمير وسيلة المواصلات)، وركب الضابط الحمار قائلا لصاحبه: امكث هنا حتى أعود إليك وأعطيك الأجرة، وذهب الضابط بالحمار إلى السوق وباعه وعاد بثمنه، وسدد ديونه لصاحب البيت وسلم الباقى إلى صاحب الحمار، وصرفه دون اهتمام بندبه وعويله، يؤكد «الأيوبى» أنه كان يوجد من هؤلاء الضباط 500 ضابط فى القاهرة، والباقى يعيش خارجها، واستدعى شريف باشا وزير الحربية الألفين إلى القاهرة ليحصل الجميع على جزء من رواتبهم المتأخرة، ويسلموا سلاحهم إلى الحكومة، فجمع بذلك 2500 ضابط غاضب، وأظهروا غضبهم العنيف يوم 18 فبراير، مثل هذا اليوم، 1879.
كان «ويلسن» فى طريقه إلى «سراى المالية»، بعد انتهاء مقابلته مع الخديو إسماعيل بقصر عابدين، وفقا للأيوبى، مضيفا: «قبل أن يجاوز «عابدين» بعربته رأى جمهرة من الناس، فتوجه إليها ليجد نوبار باشا فى عربته محاطا بعدد من الضباط المحالين إلى الاستيداع، بعضهم قبض على رؤوس الجياد وأوقفها، وبعضهم وثب إلى العربة وأمسكوا بنوبار «وقطعوا رباط رقبته، ورموا طربوشه على الأرض ودسوه فى الوحل، وناولوه بالصفعات على وجهه، ولما وقعت عين نوبار على ويلسن صرخ: «سر إلى المالية بسرعة، فالقوم يطالبون بمرتباتهم المتأخرة»، غير أن الضباط أمسكوا ويلسن هو الآخر، وكانت كراهيتهم له تفوق كراهيتهم لنوبار، ووثب ستة منهم داخل المركبة، وقبضوا على لحيته ونتفوها، وأشبعوه ضربا ولكما، أكثر بكثير مما نال نوبار على أيدى زملائهم».
سحب الضباط «نوبار» و«ويلسن» وساقوهما إلى باب المالية، وأدخلوهما إلى غرفة «ويلسن» وهددوا بمواصلة ضربهما إذا لم يتم صرف المرتبات المتأخرة وكانت 15 شهرا لبعضهم، وتزيد على 20 لآخرين، وبينما كان «نوبار» يعد ويراوغ، سمع فجأة أصواتا فى الخارج تقدم التحية، وكان الخديو هو القادم بعد أن بلغه ما حدث للوزيرين، وحسب الأيوبى: «كانت علامات الإهانة بادية على الاثنين، وبعد أن تأكد من سلامتهما، التفت إلى المتمردين ووعدهم بإجابة طلباتهم العادلة، وأمرهم بمغادرة السراى، قائلا: «إذا كنتم ضباطى، فيمينكم تلزمكم بطاعتى، فإن رفضتم، كنستكم كنسا».
استثمر «إسماعيل» هذه الأزمة، فاستدعى قناصل الدول فى عصر هذا اليوم، وأبلغهم أنه إذا لم تعاد إليه السلطة التى هى من حقوقه فلن يكون مسؤولا عن الأمن العام فى البلاد، وفى اليوم التالى (19 فبراير) انعقد اجتماع فى منزل القنصل البريطانى حضره القنصل الفرنسى ونوبار باشا وآخرون، وتناقشوا فيما طلبه إسماعيل، ثم ذهبوا إليه واستمعوا منه إلى ما يريد وهو: «خروج نوبار من الحكومة، ويتولى هو رئاسة مجلس الوزراء أو أحد غيره يثق فيه»، وتمت الموافقة على ذلك، وذهب الأمير حسن باشا، ابن إسماعيل، قائد عام الجيش المصرى، إلى «ويلسن»، واعتذر له عن ما حدث من الضباط المتمردين، وتم اقتراض مبلغ 400 ألف جنيه ودفعت متأخرات للضباط دون أن يعاقب أحد من الثائرين.
هذا الخبر منقول من اليوم السابع