على الرغم من أن الصورة الواضحة للمشهد الإيرانى تعكس صراعا طويل المدى مع الولايات المتحدة، أحياه الرئيس دونالد ترامب، بمواقفه المعادية تجاه طهران، منذ خطاباته العدائية التى استهدفت الدولة الفارسية خلال حملته الانتخابية فى 2016، مرورا بالانسحاب من الاتفاق النووى فى مايو 2018، وسلسلة من العقوبات التى فرضتها الإدارة الأمريكية منذ ذلك الحين، وانتهاءً بمقتل قائد فيلق القدس قاسم سليمانى، والذى يعد أحد أبرز قيادات الحرس الثورى، فى هجوم أمريكى بالقرب من مطار بغداد الدولى، فى أوائل الشهر الجارى، يبقى هناك وجها أخر للصراع فى الداخل الإيرانى بين التيار المعتدل، والذى يتزعمه الرئيس حسن روحانى، من جانب، والمتشددين بقيادة المرشد على خامنئى، ومن وراءه الحرس الثورى من جانب آخر.
ولعل الصراع بين الأجنحة الإيرانية ليس بالأمر الجديد تماما، حيث يبقى العداء بين التيار المتشدد، وما يسمى بالتيار المعتدل، عنوانا مهما للسياسة الداخلية فى طهران، إلا أن الولايات المتحدة أصبحت واجهة للصراع بينهما فى السنوات الماضية، وهو ما يبدو حاليا فيما يمكننا تسميته بالتنافس حول "تشديد الخطاب" تجاه "الشيطان الأعظم"، حيث يحاول روحانى فى مجاراة المتشددين فى الهجوم على الولايات المتحدة، عبر استهداف الرئيس دونالد ترامب، والذى وصفه روحانى بـ"أسوأ رئيس أمريكى" فى التاريخ، وهو الأمر الذى يبدو منطقيا فى ظل المواقف الأمريكية العدائية المتواترة تجاه طهران، إلا أنه يحمل فى طياته محاولات لمجابهة حملات التيار المتشدد، ضد النظام الحالى، والتى وصلت إلى حد اتهامه بالخيانة.
اتهامات بالخيانة.. صفقة أوباما وصمة عار لروحانى بالداخل
وصم التيار المتشدد لروحانى ونظامه بالموالاة لواشنطن، بدأ منذ انطلاق المفاوضات حول الاتفاق النووى، والذى وقعته الحكومة الإيرانية مع القوى الدولية الكبرى، فى يوليو 2015، حيث كان خامنئى وفريقه يتبنون خطابا معلنا يهدف فى الأساس إلى تشويه صورة الصفقة، وبالتالى النظام الحاكم، رغم مباركتهم لها ضمنيا، على اعتبار أنها المنقذ لإيران من أزماتها الاقتصادية الطاحنة، وذلك بالتزامن مع استفزازات من قبل الحرس الثورى، والذى يعد بمثابة الذراع العسكرى للتيار المتشدد بزعامة خامنئى، للجانب الأمريكى، كان أبرزها توقيف زورقين حربيين فى الخليج، كان على متنها عدد من الجنود الأمريكيين، والذين تم تصويرهم فى وضع مهين يظهرهم وأيديهم مرفوعة فوق رؤوسهم.
جواد ظريف مهندس الصفقة النووية الإيرانية
الخطوة الاستفزازية بتصوير الجنود الأمريكيين فى وضع مهين يحمل هدفا صريحا، وهو الاحتفاظ بصورة المناوئ لـ"الشيطان الأعظم"، من قبل المتشددين، فى إطار الدعاية التى اعتمدوها منذ اندلاع الثورة التى أطاحت بالشاة، حيث كان العداء لأمريكا هو بمثابة الضامن الرئيسى لبقاء "الملالى" فى السلطة، فى الوقت الذى سعوا فيه إلى تصوير روحانى ونظامه بـ"المهادن" للأعداء، عبر التوصل إلى اتفاق معهم يمكن من خلاله وضع التزامات على عاتق طهران، فيما يتعلق بإمكاناتها النووية، وهو الأمر الذى تطلب قدرا من الانفتاح السياسى والدبلوماسى مع واشنطن، فيما اعتبره قطاع كبير من المحللين انقلابا على العرف الفارسى القائم منذ الثمانينات من القرن الماضى.
بين المناوءة والمهادنة.. طهران وواشنطن رهان كلا منهما على الآخر
وبين المناوئة والمهادنة، تجلت أزمة العلاقة بين إيران والولايات المتحدة، منذ بداية حقبة ترامب، والذى بدا رافضا للصفقة الأمريكية مع طهران، منذ الوهلة الأولى، مطالبا بزيادة القيود المفروضة على إمكانات تطوير السلاح، بحيث لا تقتصر على الأسلحة النووية، وإنما تمتد إلى وقف تجارب الصواريخ الباليستية، بينما توعد بالانتقام، بعد انتشار فيديو الجنود الأمريكيين، معتبرا أن إيران لم تكن لتجرؤ على نشر مثل هذا الفعل المشين، لو كان هو من يشغل منصب الرئيس، متهما سلفه باراك أوباما وإدارته بالضعف، ليفى بوعده بعد صعوده إلى السلطة بسلسلة الإجراءات المذكورة، والتى حملت عداءً أمريكيا صريحا لطهران، وقوضت كافة الجهود التى بذلها أوباما فى سبيل تحقيق قدر من التقارب مع الدولة الفارسية.
خامنئى ورفاقة يقودون معركة تكسير عظام فى مواجهة روحانى
ولكن بالرغم من الإجراءات الأمريكية العدوانية، والتى أدت إلى نشوب حرب كلامية، لم تقتصر فى نطاقها على الحرس خامنئى والحرس الثورى، وإنما انغمس فيها كذلك روحانى وفريقه "المعتدل"، تبقى هناك نافذه مرنة، يمكننا التقاطها بين طيات العداء العلنى، تبدو بوضوح فى مغازلات خجولة من كل فريق للأخر، ففى الوقت الذى رفضت فيه واشنطن على سبيل المثال الوساطة الفرنسية فى الأزمة الإيرانية، وتفضيلها للوسيط اليابانى، نجد أن استجابة إيرانية بعد الرفض الأمريكى مباشرة، تجلت بوضوح فى زيارة وزير الخارجية الإيرانى محمد جواد ظريف لطوكيو، فى أغسطس الماضى، فى رسالة تعكس قبول إيرانى لعقد صفقة جديدة لتحل بديلا للاتفاق النووى الإيرانى.
على الجانب الأخر، لم يكن مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليمانى خبرا سيئا للغاية بالنسبة لروحانى، وفريقه، خاصة وأن الرجل كان أكبر مناوئى الإدارة الحاكمة فى طهران، وهو ما بدا فى العديد من المواقف، ربما كان أخرها محاولاته لتهميش وزير الخارجية محمد جواد ظريف، والذى يراه المتابعون بمثابة مهندس الصفقة النووية مع إدارة أوباما، فى محاولة لتجريد روحانى من أحد أهم حلفائه، مما دفع ظريف إلى تقديم استقالته فى فبراير الماضى عبر تويتر، ولكنه تراجع بعد ضغوط من الرئيس بعد ذلك، مما يعنى أن مقتل سليمانى يمثل خدمة لروحانى أكثر منه عملا عدائيا، إذا ما وضعنا فى الاعتبار أن نهاية القيادى البارز فى الحرس الثورى تمثل صفعة قوية تساهم إلى حد كبير فى كسر شوكة خامنئى ورفاقه.
مزايدة سياسية.. روحانى يسعى للتوازن عبر استعداء "الشيطان الأعظم"
وهنا يمكننا القول بأن موجة العداء الراهنة من قبل روحانى وفريقه تجاه واشنطن تعد بمثابة جزءا لا يتجزأ من المواجهة فى الداخل مع المتشددين فى إطار مزايدة، يحاول فيها كل فريق إظهار نفسه أمام المواطنين الإيرانيين بـ"الأكثر عداوة" للولايات المتحدة، بعيدا عن الموقف الحقيقى تجاه الولايات المتحدة، لاستقطاب الداخل، فى ظل إجراءات اتخذها التيار المتشدد باستبعاد عدد كبير من المرشحين المعتدلين قبل الانتخابات البرلمانية المرتقبة، فى إطار معركة تكسير العظام، والتى يسعى خلالها خامنئى إلى إقصاء المعتدلين.
وهنا يهدف الخطاب الإيرانى الذى يعتمده روحانى، فى الأشهر الماضية، إلى تحقيق قدر من التوازن بين الشارع، عبر مجابهة حملات المتشددين، من جانب، والسعى وراء صفقة مع واشنطن بهدف حماية الاقتصاد المنهار من جانب أخر، خاصة وأن استمرار العقوبات والضغوط التى تفرضها واشنطن على طهران، تمثل تهديدا صارخا لبقاء المعتدلين فى السلطة فى المرحلة الراهنة.
هذا الخبر منقول من اليوم السابع