بوابة صوت بلادى بأمريكا

فرانسوا باسيلي يكتب: جهاز الكفتة والفريضة الغائبة

الهمبكة 

في رائعته التي حصل عنها علي جائزة نوبل  قدم لنا نجيب محفوظ وصفة لحارتنا في عبارة أصبحت شهيرة هي "آفة حارتنا النسيان"، ونعرف أنه كان يستخدم الحارة مكاناً وشخصيات باعتبارها مصر مصغرة ومكثفة، إذن يقول أن مشكلة المصريين هي النسيان، نسيان الجميل، ونسيان قيمة الإنسان، ونسيان الدروس التاريخية، ولكني كنت دائماً استغرب كلمة استاذنا نجيب محفوظ هذه، فليس النسيان هو أكبر خطايانا كمصريين، فهناك خطايا و "آفات" أكبر وأفدح منه بكثير، ولو كان لي أن اكتب عبارة أخري تعبر عن آفة المصريين الكبري لقلت أن "آفة حارتنا الهمبكة". 

والهمبكة كلمة كانت متداولة في مصر ربما منذ نصف قرن، ولعل هناك كلمات أخري حلت مكانها اليوم، وكانت تعبر عن ميل الشخصية المصرية إلي الفهلوة والفشر والتهريج والكلفتة في العمل وعدم الدقة في الكلام وعدم الإهتمام بالحقيقة، وهي خلطة من الموبقات والآفات والنقائص السلوكية الأخلاقية الفادحة والفاضحة فهي واضحة جلية وليست خفية علي صاحبها ولا علي أحد.

إذا أردت نموذجاً هائلاً لآفة الهمبكة هذه أذكرك بفضيحة جهاز علاج مرض الإيدز بصباع الكفتة، أو هكذا عرف، وكان الجهاز قد قدم كإنجاز علمي وطبي مصري فريد في عرض حي أمام أعلي سلطة في مصر، رئيس الجمهورية في ذلك الوقت المستشار عدلي منصور، وراح اللواء "الدكتور" مخترع الجهاز يشرح ابتكاره العالمي بكل حميمية وحماس وقوة أمام رئيس مصر وتلفزيون مصر، وعلت أصوات التهليل للإنجاز المذهل، فطغت علي الأصوات العقلانية القليلة التي عبرت عن دهشتها من مدي الافتضاح والمسخرة والدجل والشعوذة الواضحة في هذا الوضع، لكن طوفان التهليل أغرق هذه الأصوات، فكيف تجرؤ أن تشكك في إنجاز عالمي قام به لواء في الجيش، يحمل الدكتوراه، وعندما سألت مذيعة رئيس هذا اللواء الأعلي منه في الرتبة والمسؤول عن الهندسة العسكرية في الجيش من أي جامعة حصل اللواء علي شهادة الدكتوراه؟ إعترض مستهجناً السؤال قائلاً بغضب، "هو احنا بقي حانقعد نسأل منين أخد الدكتوراه دي؟" وهو أغرب رد علي سؤال مشروع جداً. 

 

ومازال نصف المصريين يؤمنون إيماناً عميقاً أن جهاز العلاج بصباع الكفتة هو إختراع حقيقي لكن المؤامرة العالمية ضد مصر هي السبب في عدم الإعتراف به.

خذ مثل هذا النموذج الكثير مما يحدث في مصر كل يوم، شهادات مضروبة من جامعات وهيئات وهمية، منها شهادات الدكتوراه ومنها من يدعي الحصول علي نوبل وينشر الخبر في الجرائد، ومنها إنتحال رسائل الماجستير في الجامعات، وسرقة الأبحاث وإنتحال المقالات وأدعاء الإنجازات الوهمية والمشروعات الوهمية والمعلومات السرية، والتصريح السريع بكل شيء وعكسه، وإلقاء الكلام علي عواهنه بلا أي محاولة لتقديم أدلة أو تفسيرات مقنعة.

الهمبكة هي آفة المصريين الحقيقية القاتلة، وهي آفة سرطانية تشري بلا رادع في كافة أنحاء المجتمع، كل شيء هو مظهر وفوضي وتهريج و"كدا وكدا" بلا جدية ولا حقيقة ولا حياء. جل ما تسمع في الإعلام وفي المكتب وفي الشارع ومن فم الدعاة والوعاظ والمسؤلين وغير المسؤولين همبكة في همبكة. مولد وصاحبه غايب هو للأسف أدق مثل شعبي يصف المجتمع المصري بكامله.

"الحقيقة" هي الفريضة الغائبة في مصر، فهي الفريضة الوحيدة التي لا يؤديها المصريون إطلاقاً، علي كثرة ما يؤدون من فرائض مظهرية لا تنفعهم لا في الدنيا ولا الآخرة.

 

 

مغالطات عن الرئيس 

فيما يتعلق بكل رئيس مصري، يقع الكثيرون في  مغالطتين لا يجوز الوقوع فيهما خاصة من شخصيات لها حضور جماهيري.

المغالطة الأولي هي القيام بتقزيم مصر لتصبح هي فقط الرئيس، فمصر أكبر من أي إنسان مهما كان منصبه، وانتقاد الرئيس لا يعني إنتقاد مصر أو كراهيتها، المنافقون وحدهم هم من يتصورون ويدعون أن إنتقاد أي رئيس هو إنتقاد لمصر أو كراهية لها أو خيانة لها، هذا فكر بائس سطحي معيب، لا يجوز إذن إتهام المعارضين السياسيين لأي رئيس بأنهم خونة أو أعداء للوطن، لقد انتهي مثل هذا الفكر منذ إنتهاء أزمنة الزعيم الأوحد والقائد الملهم وبقية الأوصاف التي لم تعد المجتمعات المتقدمة تصف بها الرؤساء، بل إن إنتقاد أي رئيس هو واجب وطني حتي لا يقع في خطيئة غطرسة السلطة فيخطأ بما قد يسبب كارثة للوطن والشعب كله. 

المغالطة الثانية هي توهم أن الرئيس لا يعرف ما يجري من أحداث هامة في مصر خاصة إذا كانت أخطاء أو خطايا، والتظاهر بأن من يفعل هذا هم الوزراء أو الأمن أو صغار المسؤولين، فرغم أن من الطبيعي أن لا يعرف أي رئيس كل شيء، إلاً أن من مسؤولية الرئيس أن يسأل عن ويحقق في الأحداث الهامة خاصة إذا كانت أخطاء ويقوم بتصحيحها، ولذلك فكل رئيس مسؤول إذا وقعت مثلاً حوادث تعذيب للمساجين في عهده،  فالملك فاروق مسؤول عن إغتيال حسن البنا الذي كان من المفروض محاكمته لا اغتياله مما حوله إلي شهيد في أعين أتباعه، فالدولة تحاكم والمجرمون يغتالون، وعبد الناصر مسؤول عن التعذيب الذي جري في سجونه، وهكذا مع كل رئيس، فإن لم يعلم الرئيس قبل الحدث فعليه أن يعلم ويستعلم بعد الحدث ويتخذ اللازم لمحاسبة المذنبين حسب القانون.

ومن العيب "مناشدة" الرئيس أن يتدخل لتصحيح هذا أو ذاك من الأخطاء، فيكفي كشف الخطأ ثم مطالبة، وليس مناشدة، الرئيس بتصحيحه، الرئيس رجل يؤدي دوراً في خدمة الوطن وليس نصف إله يصلي له المواطنون، ويجب إعتبار الرئيس مسؤولاً عن الأخطاء الهامة الكبري في عهده ولا يجوز إلقاء أللوم علي صغار المسؤولين وحدهم بما يعني تنزيه الرئيس عن الأخطاء.

لن تتقدم مصر بهتافات التأييد والتهليل والوطنية السطحية التي تدعي أن الرئيس هو الوطن فتهتف لتفديه بالروح والدم وتتعامي عن أخطائه حتي تؤدي بالوطن إلي الكارثة التالية، هذا فكر بائد بائس ينتمي للقبيلة وليس للدولة العصرية ولا حتي شبه الدولة، من حق وواجب كل مواطن أن ينتقد الرئيس حين يخطيء وأن يمتدحه حين يصيب، ولكن التهليل والرقص والتطبيل والمديح المبالغ فيه بلا مناسبة والمناشدات الإنسانية السخيفة لكي يتدخل الرئيس في هذا وذاك  هي مظاهر صبيانية مراهقة تصدر عن أطفال تابعين لا مواطنين ناضجين وقد آن للمصريين أن ينموا وينضجوا ويكفوا عنها كما فعلت الشعوب الواعية العصرية كلها.

 

في إنتظار مستشفي واحد 

أجري شيخ الأزهر جراحة ناجحة  في العين في مستشفي بفرنسا وهو في رحلة علاجية لمدة شهر، ومنذ نصف قرن علي الأقل ويخرج كافة رؤساء ووزراء ووجهاء ومشاهير مصر إلي الخارج للعلاج، أحيانا علي حسابهم وأحياناً علي حساب الدولة، وهو أمرٌ غريب أن تظل دولة بحجم مصر عشرات السنوات بلا قدرة علي إنشاء ولو مستشفي واحد يوحد الله علي المستوي العالمي يمكن أن يعالج فيه المصريون بدلاً من العلاج بالخارج؟

شيء لا يبشر بالخير، إن لم نكن قادرين علي إنشاء مستشفي بمعايير سليمة، بما فيها المستشفيات العسكرية، فكيف ستكون لمصر القدرة علي القيام بأي عمل كبير آخر سواء طبي أو هندسي أو عسكري؟

 

 جحا هو الحل 

أعلن جحا علي الملأ أنه غداً سيكشف عن معلومات هامة جداً لمن يحضر محاضرة عامة له في المكان والزمان المحدد، في اليوم التالي إزدحم المكان بالحضور لسماع المعلومات الهامة، وقف جحاً علي المنصة وسأل، هل تعرفون ما سأقول اليوم؟ قالوا لا، قال ما دمتم لا تعرفون فلماذا أتيتم؟ وانصرف في قرف وهو يقول إلي الغد إذن، 

في اليوم التالي حضروا مرة أخري فوقف جحا وسأل، هل تعرفون ما سأقول لكم اليوم؟ فخشوا أن يقولوا لا فينصرف فقالوا، نعم، فقال مادمتم تعرفون فلا احتاج أن أقول شيئا وانصرف في قرف وهو يقول إلي الغد إذن، 

في اليوم التالي حضروا فسأل جحا نفس السؤال، هل تعرفون ما سأقول اليوم؟ فاحتاروا  وقال البعض نعم وقال البعض لا فقال جحا إذن من يعرف يخبر من لا يعرف وانصرف. 

هذه الحكاية الجميلة من حكايات جحا أقدمها لكل الدعاة والوعاظ ورجال الدعوة الدينية في مصر، فسيصبح حال مصر والمصريين أفضل جداً لو امتنعوا جميعاً عن قول أي شيء كما فعل جحا، فمصر والمصريون يعانون من شرب الجرعات الدينية الزائدة عن الحاجة بكثير، وكثرة الوعظ والإرشاد مثل كثرة السلام تقلل المعرفة وتزيد الأمراض والآلام والأوهام. 

جحا هو الحل.

 

آخر كلام 

لدي العقول الصغيرة أي شيء يكرر ثلاث مرات يصبح حقيقة دون حاجة إلي دليل 

 

 

أخبار متعلقة :