بوابة صوت بلادى بأمريكا

فرانسوا باسيلي يكتب: فكر الحرية في المسيحية

عدة أحداث لها علاقة بالمسيحية والمسيحيين وقعت في الأسابيع الماضية تدفعني إلي تخصيص مقالي في هذا الشهر لأفكار تتعلق بالمسيحية. هذه الأحداث تشمل العمل الإرهابي البشع الذي راح ضحيته حوالي ثلاثمئة إنسان بريء في سريلانكا، ارتكبته إحدي الجماعات الإرهابية الإسلامية لا يهم اسمها فكلهم في الإرهاب سواء، وهو أكبر الأعمال الإرهابية ضخامة في عدد الضحايا منذ حادث الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك، لا أيحتاج الحدث إلي الكثير من الكلام عنه فمعركة الحضارة ضد الإرهاب لابد ستستمر ولا خيار ولا هدنة فيها.

الحدث الثاني المتعلق بالمسيحية والمسيحيين كان الحادث المؤسف لحريق كاتدرائية نوتردام في باريس، رغم أنها خرجت سليمة حتي من قنابل الحرب العالمية الأولي والثانية، وخرجت سليمة من سنوات الثورة الفرنسية ضد الملكية، فعمر هذه الكاتدرائية أكثر من سبعة قرون.

الملوك والعامة، الأبرار والأشرار، الفرنسيون والغرباء، السياح من كل الأديان من أنحاء العالم لمسوا جدران هذه الكاتدرائية التاريخية التي تمثل الإبداع البشري حين يبني ليعبد الخلق وحين يبني ليعلي من درجات الفن والعلم والجمال في الهندسة والرسم والنحت، تأكيداً للروح الإبداعية في كل شكل وكل مجال.

وفي أقل من 24 ساعة وصلت التبرعات لإعادة بناء وترميم النوتر دام حوالي ثلاثة أرباع بليون دولار، وبعدها بيومين تعدت البليون دولار، وكان تضامن العالم واضحاً وحميماً، وذلك لأن نوتردام هي أكثر من كاتدرائية، فهي رمز للإبداع المعماري والفني والجمالي والحضاري، كما أنها قلب باريس، فموقعها هو المركز الذي تقاس إليه المسافات من أطراف باريس، كما أن باريس نفسها ليست مجرد مدينة ولا مجرد عاصمة لفرنسا، فباريس قبل هذا هي فكرة، فحين توصف بأنها مدينة النور لا يقصد بهذا نور الكهرباء، ولكن نور الحضارة والعقلانية، وهو النور الذي نقل العالم كله من قبضة الخرافات إلي انجازات وبركات العلم، ومن تسلط الفاتيكان ورجاله إلي فضاء حرية الفكر والفعل، وهي الحرية التي اوصلت البشرية إلي التقدم الهائل الذي نعيشه منذ عصر التنوير.


فالهلع علي نوتردام هو هلع علي الإبداع الانساني الشاهق، والتضامن مع باريس هو تضامن مع الحلم الإنساني في إستمرار مسيرة الحضارة العلمية نحو مستقبل بلا خرافات وصراعات دموية وإرهابية وبلا تسلط لدكتاتوريات عسكرية أو دينية.

وقد تم إخماد النيران، وستعود نوتردام إلي حالتها البهية خلال سنوات قليلة.

باريس فكرة إنسانية مضيئة، وليس مجرد مدينة، والأفكار المضيئة تظل نوراً وهدي دائماً للبشرية جمعاء.

 

فكرة الحرية في المسيحية 


من اللافت أن فكرة الحرية في المسيحية هي فكرة لا يتعرض لها الوعظ الديني المسيحي في الشرق كثيراً، والحقيقة هي أن السيد المسيح وقف في موقف مناويء للسلطتين الدينية والسياسية في زمانه ومكانه، سلطة الكهنة اليهود الذين حاربوه وخشوا من تعاليمه المخالفة للسائد من شرائعهم، فمثلاً كان يقول للجموع في تعاليمه لهم، سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم.. من ضرب علي خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً - كما عارض السلطة السياسية الممثلة في الحاكم اليهودي أولاً ثم الحاكم الروماني فوقه، رغم أنه قال اعط ما لقيصر لقيصر، إلا أنه وقف في النهاية أمام الحاكم الروماني بيلاطس، دون أن يدافع عن نفسه بكلمة، بما معناه عدم اعترافه بسلطة الحاكم أصلا وشرعية محاكمته له، ومع هذا أعلن الحاكم الروماني أنه لم يجد أي جريمة ارتكبها هذا الانسان البار، وترك الخيار للقادة اليهود أن يختاروا حسب العادة من يطلق سراحه الحاكم في عيد الفصح، وسألهم هل أطلق لكم سراح يسوع، فصاحوا قائلين لا بل اصلبه، اصلبه. 

إذن هي حقيقة أن السيد المسيح وقف موقفاً مناوئاً أمام السلطتين الدينية والسياسية السائدتين في عهده مقدماً الكلمة فقط، فلم يكن يتزعم جماعة تريد فرض أي شيء بالقوة، فقط قدم فكراً جديداً، يخرج الانسان من عبادة مظهرية تعتمد علي ما يدخل فم الإنسان من مأكل ومشرب يقرر الكهنة اليهود ما هو الحلال وما هو الحرام منه، إلي فكر يرتفع فوق الماديات والجسديات فيقول ليست القضية ما يدخل فم الإنسان ولكن ما يخرج منه، وكان هذا يمثل إنقلاباً فكرياً خطيراً يهدد السلطة الدينية التي لن يصبح من حقها في هذا الفكر الجديد أن تقرر للناس ما يأكلون ويشربون، ويصبح التدين علاقة روحية خالصة بين الانسان وخالقه، وبهذا يتحرر الانسان تماماً من قبضة الوسطاء بينه وبين السماء، كما يتحرر أيضاً من كافة العادات والأثقال المادية الجسدية التي تحدد له ما يأكل وما يشرب وما يلبس، فقد قدم السيد المسيح رؤية ترفض هذه الشكليات وترفض أن تصبح لها سطوة علي الإنسان، فقال أن ما يخرج من فم الإنسان هو المهم وليس ما يدخله، أي أن فكر الانسان هو ما يجب الإهتمام به، هي إذن حرية مزدوجة تلك التي قدمها السيد المسيح، وليست هي المتعلقة فقط بالتحرر من سلطان الخطيئة، ولكن أيضاً التحرر من فكرة تحريم أنواع من المأكل والمشرب فكل شيء حلال لدينا ولكن ليس كل شيء يليق بنا، كما حرر الانسان ممن يريدون التسلط عليه بإسم الدين.

ولهذا أدرك كهنة اليهود مدي الخطر الذي يمثله هذا الفكر الجديد الذي يحرض الإنسان علي التحرر ويقدم حرية الإنسان كحقٍ مصان من قبل الخالق لا يجوز لإنسان أن يسلبه، فتربص الكهنة بالسيد المسيح الذي كان يلقبه الناس ب "المعلم" فقد كان يقدم فكره الجديد في عظات واضحة قوية، أحياناً بالكلمات وأحياناً بالأمثلة والقصص، وأحياناً بالأفعال، منها مثلاً رفضه بأسلوب عملي عادة رجم الزانية وتوبيخه للرجال الذين كانوا يريدون رجم إمرأة ضبطت في ذات الفعل، دون أي حديث من الرجال عن الرجل الذي زني معها وكأنه بلا مسؤولية إطلاقاً، فقال السيد المسيح كلمته البسيطة الهائلة .. من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر، فانصرفوا جميعاً في خجل وخوف، فقال للزانية لم يدنك أحد ولا أنا أيضاً فاذهبي ولا تخطئي مرة أخري، ولك أن تتخيل كيف سيفقد القادة اليهود سلطتهم حين لا يعود في مقدورهم الحكم علي الخطاة ورجمهم حتي الموت أمام الناس.. فكيف يتسلطون علي العباد إذن؟

بجانب اهدافها الروحية إذن فإن للرسالة المسيحية هدفاً واضحاً هو تحرير الانسان من براثن السلطة الدينية للكهنة والقيادات الدينية التي كم تكن تبغي سوي إستعباد الجموع، ولم يهاجم المسيح أحداً بقدر ما هاجم بل لعن هذه القيادات الباغية التي كانت تتحكم في العامة، ورغم طبيعته النقية المتسامحة المسالمة فقد وصفهم السيد المسيح ب "أولاد الأفاعي"، كما أنه لم يأت بفعل غاضب سوي حين رأي تجار الدين ينصبون موائد البيع والصرافة في ساحة المعبد بموافقة الكهنة وبالإشتراك معهم، فقلب عليهم الموائد وطردهم بالقوة قائلاً .. مكتوبٌ بيتي بيت الصلاة يدعي وأنتم جعلتموه مغارة لصوص.

إذن رغم أن رسالة السيد المسيح هي رسالة سلام ومحبة، ولهذا يلقب بملك السلام، إلاً أنها أيضاً وفي الأساس رسالة تحرير وحرية، ولهذا وقفت في موقع مضاد للسلطتين الدينية والسياسية السائدتين في ذلك الزمان، ولكل سلطة متسلطة في كل زمان، ولكن لن تسمع هذه الفكرة كثيراً في الوعظ الديني الذي لا يريد التركيز علي الجانب التحرري في الرسالة المسيحية، ويركز أكثر علي جانب الطاعة والخضوع و "إبن الطاعة تحل عليه البركة"، فكل سلطة سواء دينية أو سياسية لا تريد سوي الطاعة وتخشي أعظم ما تخشي فكر الحرية ولاهوت التحرير.

 

 علماء إسرائيل و"علماء" الفتاوي

علماء إسرائيل يفكرون كيف يمكن لمركبة فضاء إسرائيلية أخري أن تضع قدمها علي سطح القمر بعد فشل المركبة الأولي، و"علماء" الفتاوي في مصر ما زالوا يفكرون بأي قدم يدخلون المرحاض وبأي قدم يخرجون منه حتي لا تركبهم الشياطين.

هذا الإختلاف في الأولويات والبديهيات الفكرية هو مفتاح مشكلة مصر والشرق العربي، ولن تفلح عشرات الطرق والكباري والمدن الجديدة في مصر في التغطية علي هذا الفرق في الفكر، لعلهم يفقهون.

 

لقد حان الوقت أن تقوم بمصر بالثورة الدينية التي طال انتظارها، فاستمرار أولويات الفتاوي معناه إستمرار إنحدار كل شيء في مصر إلي قاع لا قاع له.

 

أخبار متعلقة :