بوابة صوت بلادى بأمريكا

هدى حجاجى أحمد تكتب: فتاة المصنع

بشائر أضواء الفجر تتصاعد بغلالات النور الكونى مقتربة من بعيد تعتلى الأفق وراء منطقة شبرا الخيمة الصناعية ثمة سحابات شتوية كانت تلوح زرقتها وراء أنوار الفجر الزاحفة قالت تكشف أشباح مبانى المصانع وعمارات مساكن الإداريين والعمال ومبنى الميدان الكبير لمحطة ترام شبرا الخيمة الذى برغم اتساع فضائه لم يكن فيه أثر لكائن حى سوى أشباح جنود الحراسة القلائل المتناثرين فى أرجائه منزوين إلى جانب المؤسسة العمالية وأبنية شركات إسكو وحمصى والمتحدة للملابس , ينتظرون اقتراب نهاية وقت حراستهم ……

صامتين لا صوت ولا حركة كل شئ فى الميدان يوحى بهدوء السكون النائم عدا رجل كهل بجلباب أبيض ولحية سوداء طويلة كان يبدو على البعد منحنيا يدب على عصاه بعده بخطوات كان يقبل طالبان جامعيان يحملان كتبا وأدوات هندسية كان صوت كعب عصا الرجل الكهل يدق أسفلت الميدان فى إيقاع خافت منتظم وهو يبتعد ويبتعد فى أتجاه شارع النصر المتفرع من حارة بركات كانت حارة بركات الضيقة الطويلة بكل نوافذ بيوتها الفقيرة وابوابها المغلقة يكتنفها أيضا سكون نهايات الليل الرمادية لا أثر للحياة فى الحارة غير صوت مذياع بعيد تنبعث منه كلمات خافتة لحديث دينى قرب نهايته وغبشة الفجر قد بدأت تتفتح بنسمات ندية على ناصية الحارة من الجانب المطل على الميدان أقبل الترام من بعيد يسبقه صوت عجلاته وجرس السائق يدق دقاته النحاسية أقبل من ناحية ورش مخازن الترام ليقف عند رصيف المحطة ورذاذ المطر قد بدأ يرشق حاجز القيادة الزجاجى بينما الكمسارى إلى جواره ينفخ لذعات البرد فى كفيه ,,وقف الترام لحظات ثم عندما بدأ يتحرك نزلت منه فتاة نحيلة سمراء متوسطة القامة …وجهها مستدير دقيق التقاطيع ,,لوزية العينين تجمع شعرها البنى الغزير فى شبكة حريرية وراء رأسها ….

نزلت من الترام تمشى بطيئة الخطا فى جونلتها الزرقاء وبلوزتها الصوف البيضاء تقطع الطريق فى أتجاه حارة بركات حتى توقفت عند ناصيتها فجأة ترقب الطالبين اللذين أقبلا من ناحية عمارات الإداريين , وقد وقفا معا على رصيف المحطة يتأملانها وهما يتغامزان باشارة ذات دلالة يعرفونها ..كأنما يتفقان على أمر ما قبلها بلحظات كان الطالبان العائدان من مذاكراتهما طوال الليل عند صديق ثالث يتحدثان بسخرية عن بخل والدة زميلهما وخروجهما من شقته دون إفطار رغم ثراء والده مدير المصنع والمبلغ الكبير الذى يدفعه ثمنا لمذكرات الدروس الخصوصية التى جاءا بهدف الاطلاع عليها أثناء المذاكرة عنده …كان الطالبان يتحدثان بسخرية عن زميلهما حين أبصر بالفتاة المتناسقة التكوين الأنثوى فراحا يتأملان خطواتها اللينة وهى تدور حول نفسها قرب مدخل الحارة , تقف ثم تمسح فراغ الشارع حولها بنظرة حذرة حتى تقترب منهما , فترقبهما فى لامبالاة توقفت كلمات حديثهما مع نظراتها وهى تلاحظهما , مطرقة تفكر , تنظر الى خطاها قبل أن تتحرك …

حتى رفعت رأسها فجأة ترقبهما …كأنما تقي المسافة بينها وبينهما وبين آخر رصيف شارع النصر الموصل الى حارة بركات ثم أسرعت تجتاز عرض الشارع ,لتدخل بوابة الحارة ..ثم تتوقف فجأة كان قد اعترض سيرها موتوسيكل يقبل فجأة مسرعا يقوده بائع لبن يضع امامه وخلفه وعلى الجانبين أوانى معدنية مثقلة بما تحمله تكاد كثرتها تحجب رؤيته وهو مقبل بسرعة مخيفة ما أن مر الموتوسيكل منطلقا بأقصى سرعته حتى تنفست الصعداء وواصلت سيرها تهز حقيبة يدها الجلدية السوداء المكتظة بما فى داخلها الى جوار عجيرتها الممتلئة النشطة عبر ضوء النهار الذى بدأت تباشيره الرطبة تتيقظ كاشفة عن تفاصيل كيانها وملامح كل الأشياء حولها ..كانت خطواتها قد ازدادت سرعتها وكان الشابان قد أقبلا مسرعين أيضا يجتازان الطريق نحوها وقد سبقتهما تدخل الحارة ..تصل الى قرب منتصفها ,,

ثم تبطئ من سيرها تحت نوافذ البيوت كان الشابان يقتربان ..لا يزالان يراقبانها صامتين ..بعد أن توقف حديثهما . وقد بدا من نظراتهما وهما يتأملان استدارات جسدها …أنهما فعلا قد عثرا على مغامرة سيقة يحلمان به …انهما سيبدءانها بالمغازلة منفردين بها فى هذه الحارة لمعرفة مدى استجابتها ..ثم لم تمض لحظات وهى تبتعد اكثر عنهما حتى دخل الحارة شاب يرتدى بنطلونا رماديا وقميصا صوفيا أزرق كان الشاب القادم وهو يسرع الخطا مع ابتسامة واضحة على وجهها النحيل . قصير القامة , وسيم التقاطيع , يكاد يميل عليها كأنما يهمس لها بكلمات حتى يتجاوزها ويدخل منزلا فى صدر الحارة على الناحية اليمنى قبل ان يدخل الشاب باب باب منزله استدار فجاة برأسه نحو الفتاة ..وبسرعة أشار لها بذراعه مبتسما محييا …ثم دخل المنزل ووارب الباب خلفه بهدوء لم يغلقهقال عادل لرشدى زميله هامسا هل لاحظت إشارته وابتسامته لها ..؟ نعم ..لقد أعطتنى هذه الاشارة فكرة أنه يقول لها لقد جئت فى موعدى رفع رشدى رأسه فوق قامته النحيلة وتأمل واجهة المنزل هل تظن ذلك ولماذا لا ..عادل ..كم معك من النقود ..؟ معى عشرة جنيهات فالح وأنت معى ثمانية ودلالة مفاتيح وساعة وهذه الكراسات والكتب تسخر منى وراءها …اسرع لكن رشدى الاسمر الوجه ,الحاد التقاطيع لمعت عيناه الخضراوان جمع اصابع يسراه حول راحة يده على مهلك , لا تسرع فلنعرف أولا كيف ستتصرف الى أين هى ذاهبة هل سنصعد الى شقة ذلك الشاب قال عادل حائرا ماذا تظن عمل هذه الفتاة من قال لك انه فتاة ..؟ سنها …انظر جمال ساقيه و…و…. كفى غزلا الآن وشعرا …اعود واسالك ماذا تظنها تعمل ماذا طالبة …لا أظن ..

هى عاملة مصنع او شغالة عند أسرة تسكن وسط البلد …بعد تسكعه هذا ستركب الترام ونحن وراءها ..أراهنك لا أظنها عاملة ..الساعة الآن قبل السادسة ووردية المصانع بعد الثامنة كفاك خلطا ..إنها تقف متظاهرة بعدم النظر إلينا ..لكنها تراقبنا أيضا ..انتظر ..قد تقترب وحدها منا .. هذا اذا لم نبدأها نحن بالحديث كانت الفتاة مع خطواتها التى تباطأت قد اقتربت من نهاية الحارة وتوقفت تنظر حولها وفوقها ثم ابتسم فى مواجهة الشابين وهما يتوقفان على مبعدة منها قال رشدى لزميله مفكرا عادل اسمعنى بانتباه …

أنت تمشى جانب الحائط على اليمين ببطء وانا سأدور مسرعا من الزقاق الاخر لأواجهها ,,,لا تتسرع بالحديث معها دعنى اتصرف قال لعادل دعنى اتصرف …واندفع مسرعا الخط فى هدوء يستدير مع فتحة الزقاق الجانبى الآخر حتى يفاجئها بنفسه بعد لحظات كان قد أقبل يقترب منها وهى تقف فى صدر الحارة أمام حائط جيرى عريض تنظر اليه ثم تنظر حولها , ترقب سكون الحارة , ثم تفتح فجأة حقيبتها , تخرج منها شيئا فى شكل قلم شمع فسفورى أحمر ترفع يدها به تخط على الحائط بضع كلمات واضحة الحروف كانت تكتب سطرا ..ثم سطرا تحته …ثم سطرا ثالثا ورابعا ..بحروف كبيرة كانت تكتب الكلمات ببطء غير عامتعجلة , كأنما تحرص على تحسين رسم الحروف تؤكد على النقط تمد خطا تحت كل سطر …ثم اسفل السطور كتبت بحروف صغيرة …اللجنة الديموقراطية النسائية لعاملات النسيج انتهت من كتابتها ..ونظرت للشابين بثبات ضاحكة العينين ., ثم راحت تراجع ما كتبته مبتسمة أكثر للسطور , معجبة بخطها ..ووضعت القلم فى حقيبتها المعلقة على كتفها , واستدارت تريد الانصراف فى نفس اللحظة التى أقترب منها الشابان حتى أصبحا فى مواجهتها ورشدى يسألها انتظرى من فضلك …ما هذا ..؟ قالت وقد توقفت مبتعدة عنهما خطوة للوراء ماذا …الا تستطيعان القراءة …؟ كان كان صوت الترام القادم من بعيد فى أذنيها يدق بأجراسه النحاسية موحيا بأهمية الإسراع للخلاص من الشابين وركوبه ألقت نظرة خاطفة على ساعة يدها ثم بدأت تتحرك مسرعة الخط مفكرة فى ان امامها محطتين , حتى تصل مقصدها فى موعدها وكان الشابان يراقبانها بنظرة تكاد تشل خطاها , بينما يقرءان معا فى سرعة ما سبق أن قرءاه وهى تكتب الى كل فتاة عاملة وموظفة …. الى كل زوجة …كل امقيدى صوتك فى جدوال الانتخابات صوتك يحمى أسرتك وحقوق زملائك كان الشابان يقرءان الكلمات بسرعة نظرا الى بعضهما بتعجب وابتسما قال رشدى وهو يمد يده الى زميله يمسكه من ذراعه ويسيران خلفها شئ مخجل …تصور ..ماذا كانت ظوننا بها ..؟ آه ….ولكنها فى الحق جميلة …وجريئة …هل تأملت نظرتها لنا بعد ان فرغت من الكتابة كانت تؤنبنا بقولها …ألا تعرفان القراءة العالم يتغيريتقدم بسرعة ….. هز رشدى رأسه مفكرا بجدية يقول لعادل تلاعبنى فى رأسى فكرةهيه …ماذا تقصد ..؟ هل تصدق ….أفكر أن الحق بها …تعالجذب رشدى من ذراع عادل يسحبه وراءه ….. أسرعا وراء الفتاة حتى لحقا بها على رصيف محطة الترام وأقترب رشدى منها يبتسم لها محييا فى رقة يسألها تسمحى من فضلك بالإجابة على سؤال يحيرنا نحن الاثنين معا ..؟ نظرت حولهامالت برأسها مطرقة قبل أن ترد عليه تسأل نفسها وجه هذا الشاب ..كل ملامحه تشبه ملامح خطيبها رضوان ..عينى رضوان الخضراوين …أنفه ..صوته …إشارات يديه وهو يتحدث …هو يذكرنى الآن بموعد رضوان اليوم فى أمتحان قبوله كسباك بدرجة ممتازة فى مصنع الرشيدى للسباكة , اتراه ينجح اليوم فى امتحانه ويتم تعيينه ..؟ ….وابتسمت …اذا نجح اليوم فسوف يأتى لخطبتها رسميا من والدها كما وعدها ,,بعد أن أتفق مع أبيها تنبهت لنفسها على صوت رشدى يعود يسألها لازالت أستسمحك فى السؤال ..هل تأذنين ..؟ قالت تركز فكرها ..؟ نعم ..آى سؤال …؟ لماذا تخرجين هكذا فى الفجر للكتابة على حوائط الأزقة ..مع أن هذا عمل لا غبار عليه ..؟ ابتسمت مسبلة جفنيها على التماع ع ينها اللوزتين قبل ان تقول حتى لا يسألنى متطفل مثلك …يعكس فتاة مثل أخته … ولأننى كان لابد أن أنجز مهمتى هذه فى ستة مواقع , كان أخرها , قبل ذهابى إلى عملى .أى عمل تعملين ..؟ عملى فى المصنع …فى أى مصنع ..؟ هل أنت لا تصدق ..فى مصنع إسكو وأسمى فكرية السيد سليمان هل تسمحين ايضا بسؤال ..؟ وبعدين إسال …. لماذا كان هذا المكان الاخير بالذات ..؟ أفهم قصدك ..لانكما كنتما تسيران ورائى , وجاء هو بالصدفة , ثم هذا الزقاق تسكنه عائلات عمالية كثيرة , فى هذه البيوت التى تراها وأشارت بأصابع كفها السمراء الصغيرة هنا تسكن أكثر من عشرين عاملة من زميلاتى نظر رشدى لعادل , اقترب منه , أكثر همس له أسمع …ابتعد . دعنى أكلمها وحدى واقترب من الفتاة حتى كاد ان يلاصقها , وهى تحذر منه منه متراجعة , وهو يرجوها فى صوت جاد أنسة فكرية …أرجو …تكرمى بأن تعطينى القلم الذى معك وراقبينا ونحن نفعل مثل ما فعلت .. همس بكلماته وهى تتأمله …ليعود يقول لها : كل زوجة ..كل أم …كل اخت …كل اسرة …لابد أن تكون لها رجل أيضا يعمل شيئا ليحمى حقوقها …أرجوك قال عادل يؤكد على كلمات رشدى حقا صديقينا …نحن نحدثك برجولة ومسئولية

………………………………………………………………………………….

كان الترام قد أقبل من بعيد وهى لا تزال تنظر إليهما مستغرقة فى التفكير , تترد , وتنظر إليهما …ثم تبتسم …والترام الذى كان قد توقف بدأ يتحرك ورشدى يعود يستحثها هيا …اعطينا القلم …صديقينا هزت رأسها مبتسمة , مدت يدها فى حقيبتها وأخرجت القلم , اعطته لرشدى الذى أخذه وسحب عادل من ذراعه يبتعدان …يعبران الميدان والترام قد تحرك دون أن تركب …اصبحت وحدها على الطالبان الجامعيان يبتعدان يتجهان إلي سور مبنى الجمعية التعاونية كانت تراقبهما بعد ان أبتعد الترام وأقبل من بعده الاتوبيس مزدحم بالركاب فاتجهت نحوه على الرصيف الآخر تعلقت ببابه الخلفى فى اللحظة الأخيرة , ثم أسرعت تتسلل مسرعة بين زحام الركاب حتى جاوزت زجاج نافذة العربة كانت عيناها على رشدى يناول عادل القلم بعد أن فرغ من الكتابة وعادل يكتب بحروف مائلة تحت السطور الأربعة كلمات , اللجنة الديموقراطية لعاملات النسيج

…………………………………………………………….

رأتهما جيدا …تأكدت من ملامح وجهيهما فيما كان الاتوبيس يقترب منهما خلال دورته مع الميدان متجها إلى طريق مصنعها كان الطالبان قد ابتدءا يسيران فى نفس الاتجاه …فظلت تتابع خطواتهما من وراء زجاج الاتوبيس حتى تحرك يتجاوزهما فاستندت …الى جانب زجاج النافذة بكتفها أولا …ثم ظهرها …مستريحة النفس مبتسمة كانت قد راحت تتطلع بشغف إلي ملامح وجوه الركاب المتزاحمين …ثم الى هالة الضوء البعيد , التى بدأت تحبو فوق مطلع الأفق …منذرة بطلوع شمس يوم جديد ..

أخبار متعلقة :