بوابة صوت بلادى بأمريكا

فرانسوا باسيلي يكتب: 32 عاماً علي رحيله جاهين ، شاعر الفرح والثورة

في 21 أبريل نحتفل بدكري رحيل صلاح جاهين، ذلك المبدع المصري الفذ الذي جاء مختلفاً في كل شيء، يمكن وصفه بشاعر الفرح وصانع البهجة، حيث قدم إبداعاً فريداً يحمل خلاصة الهوية المصرية في أنقي وأجمل تجلياتها،  وهي حالة البهجة والمرح والفكاهة والسخرية التي يعشقها المصري ولا يقدر علي الحياة بدونها ويعبر بها عن كافة أحواله الوجودية والإجتماعية والسياسية، فصناعة الفرح هي موهبة مصرية فريدة، ولذلك كان جاهين رسام الكاريكاتير الساخر هو الأقرب تعبيراً عن العبقرية المصرية شعراً ورسماً وغناء ورقصاً وفلسفة، ونري إنتماء جاهين للفرح والبهجة واضحاً في قوله

كرباج سعادة وقلبى منه انجلد

رمح كأنه حصان ولف البلد

ورجع لى نص الليل وسألنى ليه

خجلان تقول أنك سعيد ياولد؟ 

وككل مصري أصيل كانت السخرية وحب الفكاهة و"التنكيت" تأتيه تلقائيا وفي كل مناسبة لتساعده علي التفكير بل والتفلسف، وقد سمعته في أحد البرامج الإذاعية الجماهيرية وأظنه "جرب حظك" يسأله المذيع: أنت رسام كاريكاتير مصري مميز، فمن هو في رأيك أعظم رسام كاريكاتير في العالم؟ فيرد جاهين، الذي كان قصيراً سمينا ذي جسد أقرب إلي الكرة، قائلا: "أنا كل ما أبص في المراية أعرف أن ربنا  سبحانه وتعالي هو أعظم رسام كاريكاتير في الدنيا"، فيضج الحاضرون بالضحك والتصفيق. 

 

شاعر الفرح

قدم لنا جاهين الفرح كقيمة إنسانية عامة لا تنبع بالضرورة من عامل محدد، ولكن من رؤية مصرية صميمة تعشق الحياة وتقبلها بكل ما هي عليه من نقائص، الكمال ليس مطلوباً ولكن الفرح هو غرض اللحظة، وهو القصد من قبل ومن بعد:

أنا اللى بالأمر المحال إغتوى

شفت القمر نطيت لفوق فى الهوا

طلته ماطلتوش إيه انا يهمنى

وليه مادام بالنشوة قلبى ارتوى

عجبى 

قدم لنا جاهين فرحه الوجودي الهائل بمفردات جديدة لم نتعودها في الشعر، فالسعادة تأتيه في هيئة "كرباج"، وفي صورة حصان يمرح ويلف البلد، لقد تحرر من المفردات الرومانتيكية المبتذلة وانتشل مفرداته وصوره من طمي الحياة اليومية وصور الحارة المصرية المعتملة بالشوق والدفء الإنساني العميق.

جاهين هو شاعر الفرح لأن علاقته بالفرح حميمة عميقة أساسية، فهو يكتب مزامير الزهور والحب والبهجة، ويروج لعشق الحياة بحس شاعر ونزق طفل وتهور شاب مقبل على مباهج الأحلام المنتظرة فى فرح حقيقى، وفي نظرة فلسفية عميقة يقبل وجود الألم ولكن لا يستسلم له ولا يعامله بالرفض ولكن بالمحبة: 

فتحت شباكى لشمس الصباح

مادخلش منه غير عويل الرياح

وفتحت قلبى عشان أبوح بالألم

ماخرجش منه غير محبة وسماح

عجبى 

 

 

مجمع أصوات

كانت الطاقة الإبداعية لدي صلاح جاهين هائلة ومتفجرة في إتجاهات مختلفة، فقد كان شاعراً يبدع بالعامية شعراً يتناول موضوعات فكرية فلسفية لم تكن العامية قبله قادرة علي تحملها وتقديمها، فهو فيلسوف بجانب كونه شاعراً، وكتب الأغنية الوطنية فانتقل بها من نشيدٍ وطني سياسي حماسي غاضب جاد إلي أغنية إنسانية فرحة تتغني بحب الوطن وترقص علي وقع التغير السياسي الإجتماعي السائر علي قدم وساق، وإستخدم مفردات لا يمكن أن يتخيلها أحد في أغنية، مثل "علي راس بستان الإشتراكية"، وكتب  أحد أهم الأعمال الفنية المصرية التي خلبت لب كافة أطياف المجتمع المصري من وقتها وإلي اليوم وهي "الليلة الكبيرة" التي ما أن نجتمع نحن المهاجرين في الولايات المتحدة في جلسة للأصدقاء حتي تجد من يبدأ بمقطع منها فيسارع الكل في الإنخراط الكامل في غناء هذا العمل الفذ بكل كلمة وكل نغمة من نغماته فينقلنا إلي الحارة المصرية الحميمة بشخوصها وكلماتها ورقصاتها وألوانها ورائحتها بشكل لا يجاريها فيه أي عمل فني آخر. 

 

لاتستطيع أن تستحضر للذاكرة العبقرى صلاح جاهين الا ويحضر معه زميلاه الشاعران أحمد عبد المعطى حجازى وصلاح عبد الصبور وكان الثلاثة يعملون فى غرفة واحدة تضم مكاتبهم فى دار روز اليوسف، ويقول حجازى: "كان جاهين أكثرنا نشاطا ومرحا وحضورا، كان يرسم وينظم بالعربية وكان احيانا يغنى بعض الأغنيات الاسبانية من تراث الحرب الأهلية، بالاضافة الى أغنيات روسية، وفى تلك الغرفة سمعت من صلاح جاهين معظم أغنياته التى نظمها فى الخمسينات وأوائل الستينات، ويقول انه رغم بدانة جاهين فإنه هو الذى علمه رقصة الفالس! ويقول: "لم يكن صلاح جاهين صوتا بسيطا مفردا، وإنما كان مجمع أصوات، كان صوت مصر وصوت البشرية، صوت الجماعة فى الواقع وفى الحلم معا، صوت جماعة ناهضة حرة متقدمة سعيدة منتمية لحضارة العصر مشاركة فى صنعها. فصلاح جاهين ليس ثمرة تراث قومى مغلق وانما هو ثمرة التراث القومى والتراث الانسانى، وهو يدين للوركا وبول إيلوار بقدر مايدين لشوقى وبيرم التونسى."

 

 

 شاعر الثورة

الكثير من شباب ثورة 25 يناير الواعي المثقف يحتفظ في وجدانه بمكانة خاصة لشاعر ثورة يوليو 52 صلاح جاهين، الذي رحل في 21 أبريل  1986. وهناك بعض الفرق الفنية من الشباب تلقي أشعاره وتستلهم أغانيه وأناشيده في عروضها الموسيقية، وهكذا يظل هذا الشاعر الفنان الفذ الذي شكل وجدان جيل كامل في الخمسينيات والسيتينيات من القرن الماضي حاضراً يشكل وجدان الجيل التالي الذي قام بالثورة المصرية الجديدة.

قام جاهين بتشكيل الذائقة الوجدانية لجيل ثورة يوليو 52 بأكمله، شعراء وفقراء وبسطاء وعمالا وفلاحين وموظفين وعاشقين وحالمين. من هنا تأتى أهمية هذا الشاعر الشعبى العظيم الذي  لم ينل مايستحقه من تقدير يناسب انجازاته الهائلة فى ميادين الابداع المتنوعة التى طرقها، من الرسم الكاريكاتورى الى شعر العامية والزجل والاغنية والأشعار المسرحية والسينمائية والفوازير التليفزيونية ومسرح العرائس والسيناريو السينمائى فضلا عن الأناشيد الوطنية التى صنع منها جاهين فنا جديدا قائما بذاته.

و كان أول رسام كاريكاتير عربي تقدم اعماله يومياً في مكان ثابت في أهم صحيفة عربية في ذلك الوقت، الأهرام، فينتظرها القاريء بل يهرع إليها في الصفحة الداخلية ليطالعها قبل قراءة أي شيء آخر في الجريدة، فلا يضحك عند مطالعتها فقط، ولكن يتعلم ويعلم ويتأمل ويأمل، فقد كان جاهين يتابع بابداعه ما يعتمل في مصر في زمنه الزاهي من أحداث جسام وتحولات سياسية وإجتماعية وثقافية هائلة.

كان ما يكتبه يتحول الى أغنيات ثورية شعبية بصوت فنان الثورة عبد الحليم حافظ بألحان الموسيقار الفريد كمال الطويل، واستطاع ان يترجم مشاعر وأحلام وأفراح ملايين المصريين الى كلمات حية متوثبة مليئة بالدفء والزهو والنشوة.

وبهذا الصدق والفرح والتفاؤل كتب جاهين –وغنى عبد الحليم- أناشيد إحنا الشعب (56) وبالأحضان (61) والمسئولية (63) وياأهلا بالمعارك (65) وصورة وناصر وغيرها. وكان من المدهش حقا إستقبال الجماهير لهذه الاناشيد وتجاوبها معها حفظا وغناء وكأنها أغنيات فى الحب والصبا والجمال وليس فى الثورة والحرية والكرامة بل والسياسة الاقتصادية (على راس بستان الاشتراكية/ واقفين بنهدس ع المية/ أمة أبطال/ علما وعمال / ومعانا جمال..)

 

فرح العشق 

 الشقاوة وحب المرح هما وجهان لطاقة حب الحياة وحب اللآخر، حالة من العشق والوجد المقترن بالدلع والنزق تتملك جاهين كما تتملك كل شاب مصري أصيل عاشق، فيقول فى شعر الغزل والشقاوة والمحبة:

يا بنت يام المريله كحلى

ياشمس هااله، وطاالله م الكوله

لو قلت عنك فى الغزل قوله

ممنوع عليا والا مسموح لى؟

عجبى

وفى رباعية غزلية آخرى يقول:

أوقات افوق ويحل عنى غبايا

واشعر كأنى فهمت كل الخبايا

أفتح شفايفى عشان أقول الدرر

ماقولش غير حبة غزل فى الصبايا

عجبى

 

مسئولية الكلمة

يعرف صلاح جاهين مسئوليته كمبدع وكشاعر. كثيرا ما يشير الى الصمت فى شعره كمرادف للموت، ويشير الى الكلمة كمرادف للحياة. يقول فى قصيدة بعنوان "اتكلموا":

اتكلموا.. اتكلموا.. اتكلموا

محلا الكلام، ماألزمه، ماأعظمه

فى البدء كانت كلمة الرب الاله

خلقت حياه والخلق منها اتعلموا

فإتكلموا

الكلمة ايد الكلمة رجل الكلمة باب

الكلمة لمبة كهربية فى الضباب

الكلمة كوبرى صلب فوق بحر العباب

الجن ياأحباب مايقدر يهدمه

فاتكلموا

وفى رباعية جميلة يقول:

ياعندليب ماتخافش من غنوتك

قول شكوتك واحكى على بلوتك

الغنوه مش حتموتك...... إنما

كتم الغنا هو اللى ح يموتك

وعن أهمية الكلمة  المضيئة والألم الذي تسببه لمن يقولها بصدق يقول:

عجبتني كلمة من كلام الورق
النور شرق من بين حروفها و برق
حبيت أشيلها ف قلبي .. قالت حرام
ده أنا كل قلب دخلت فيه اتحرق

 

فيلسوف الفقراء

ينفرد جاهين بخاصية هامة تمنح شعره –على بساطته وعاميته- بعدا فلسفيا لانعرف له مثيلا لدى شعراء العامية الآخرين، وهنا لم يحصل جاهين على حقه من التقدير بسبب النظرة العدائية من الوسط الثقافى النخبوى للعامية، وربما بسبب التحيز للفصحى والخوف عليها، مع قدر من عدم التصديق لإمكانية ان تقول العامية الدارجة معان تقرب من مدار الفلسفة المقدس. ولكن لايصح أن يمنعنا مثل هذا الموقف الاستعلائى الزائف والخائف من أن نخوض فى رفق وحدب فى أعماق أشعار جاهين لنكتشف مابها من جواهر فكرية ووجدانية بديعة.

 فإنك لتجد فى رباعياته أصداء لفلسفة سارتر الوجودية ولمواقف ألبير كامو فى اغترابه ولجرأة نيتشه الذى لم تكن فلسفته سوى شعرا مكثفا، بالإضافة الى نهل جاهين من التراث الفلكلورى المصرى والعربى الاسلامى والمسيحى، ومزجها كلها فى صوت صادق متفرد هو صوته وحده. ولننظر الى بعض رباعياته التى يمكن اعتبار كل رباعية منها أطروحة فلسفية كاملة تطرح كل منها أحد الأسئلة الوجودية الهامة فى تصوير بالغ الإيجاز والإيحاء والدهشة:

 

عيد والعيال اتنططوا ع القبور

لعبوا استغماية ولعبوا بابور

وبالونات ونايلونات شفتشى

والحزن ح يروح فين جنب السرور!

عجبى

الدنيا صندوق دنيا.. دور بعد دور

الدكة هى .. وهى كل الديكور

يمشى اللى شاف ويسيب لغيره مكان

كان عربجى أو كان امبراطور

عجبى

أنا شاب لكن عمرى ولا ألف عام

وحيد ولكن بين ضلوعى زحام

خايف ولكن خوفى مني أنا

أخرس ولكن قلبى مليان كلام

عجبى

علمى ان كل الخلق من أصل طين

وكلهم بينزلوا مغمضين

بعد الدقائق والشهور والسنين

تلاقى ناس أشرار وناس طيبين

عجبى

 

 

 

فرسان الثورة

إستطاعت الثورة المصرية منذ ولادتها وبسبب اهتمام عبد الناصر بالثقافة والفنون والأدب أن تخلق مناخا إجتماعيا مثيرا لعوامل الابداع الانسانى فى جميع المجالات .. وانطلقت مع بداية الثورة وبشكل تلقائى مدهش شرارة الخلق والابداع الفنى والفكرى فى عدد هائل من الشباب المثقف الصاعد من قرى ونجوع مصر الزاحف نحو القاهرة والاسكندرية فإذا بمئات ومئات من المبدعين تتصاعد أنجمهم فى سماء مصر حاملين رايات ملونة زاهية لأعمال جديدة مدهشة فى كل مناحى الابداع. أرصد هذا لأوضح أن صلاح جاهين –وان كان حقا صوتا متفردا مميزا فى الشعر وفنانا مبدعا فى الرسم وغيره من الفنون – لم يكن وحيدا وانما كان واحدا من "جيش" مدهش من المبدعين المجددين الذين استقوا من ينابيع الجسد المصرى المتفجر بإرهاص الولادات الجديدة ووعود الأحلام المثيرة القادمة فى فورة إبداعية نعرف الآن أنها كانت –للأسف- إستثنائية فى تاريخ مصر المعاصر.

وقد كان لجاهين شاعر الثورة المصرية وواضع مزاميرها الجماعية المحفزة أثر كبير فى حركة النهضة الفكرية التحررية المواكبة، فقد راح فى رسومه وكلماته وأناشيده وأشعاره يرسم ملامح المجتمع الحر القادم فى عيون شباب وصبايا يعانقون أحلام الحب الجميل والحرية الاجتماعية والتحرر الفكرى البادئ بالذات والممتد نحو الانسان فى كل مكان .

وكان لهذه الفورة الابداعية والتفجر الغنى المثير فعل السحر فى الشباب المثقف الصاعد الى حد أنه حتى المثقفين الذين دخلوا السجون فى تلك الفترة بشبهة الميول الشيوعية او اليسارية المتشددة خرجوا منها وهم على إخلاصهم العجيب للثورة التى لم تتورع عن التهام عدة سنوات من شبابهم الحالم، وهى ظاهرة لا نعرف لها مثيلا فى التاريخ.

 

ولعل أجمل مايعبر عن حالة جاهين بعد أنهيار أحلام الثورة التى شارك فى صنعها هى رباعيته التى كتبها عندما أصابه انسداد فى شرايين القلب احتاج الى جراحة فى صيف 1981:

 

يامشرط الجراح أمانة عليك

وانت فى حشايا تبص من حواليك

فيه نقطة سودة فى قلبى بدأت تبان

شيلها كمان.. والفضل يرجع اليك.

 

لقد كانت النقطة السوداء قد احتلت قلبه الكبير وراحت تكبر فيه وتنهشه هى نفسها النقطة التى أصابت قلب مصر مع جرح 67 ومع رحيل ناصر وانهيار أحلام الجيل الصاعد وتسليم السادات مفاتيح مصر للتيارات الدينية الظلامية التى أطفأت مصابيح مصر واحدا بعد الآخر وحاربت الفن والفكر والابداع والتحرر والمساواة والفرح والبهجة والانطلاق والغناء والرقص والمزامير ، فكانت هى الخاتمة السوداء لاحدى أجمل فترات النهضة المصرية فى تاريخها الحديث.

سيظل جاهين صوتا مميزا مزهوا فى الوجدان المصرى الى الأبد.

فالشاعر الأصيل لايعرف موتا ولاصمتا. وهو الذى قال:

دخل الشتا وقفل البيبان ع البيوت

وجعل شعاع الشمس خيط عنكبوت

وحاجات كتير بتموت فى ليل الشتا

لكن حاجات أكتر بترفض تموت.

نعم "حاجات أكتر بترفض تموت" ومنها كلمات جاهين وابداعاته الخالدة التي تظل متأججة في وجدان وعقول كل جيل مصري جديد.

 

أخبار متعلقة :