بوابة صوت بلادى بأمريكا

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: ودفع ثمن خيانته (قصة)

********

     في الحكايات عن المهاجرين قد تجد طرائف وقد تجد غرائب وقد تقابلك أحداث لا يصدقها عقل . كنت جالساً بأحد المقاهي العربية ، ذهابي إلى المقهى دائماً بلا هدف ، فقط لأخرج من عزلة فرضتها حول نفسي ، أقضي بعض الوقت وأتطلع إلى وجوه ، تُفصح قسماتها الصامتة عن حكايات مختلفة  . كنت على وشك أن أغادر المقهى ، عندما أقبل قادمان واحتلا مقعدين خلفي ، لم أقصد التصنت على حديثهما ، لكن صوت أحدهما الجهوري المرتفع هو الذي زج بكلماته إلى سمعي . البداية لم تكن فضولاً ، لكن البداية أحياناً تأسر بقيود لا سبيل إلى التخلص منها  ، والكاتب معذور ، دائماً يبحث عن مورد رزق يغذي وريقاته ، تسللت كلمات صاحب الصوت الجهوري طائعة :  " يا عم تصدق بالله ، الحكاية دي لولا أن معرفتي بأبطالها معرفة كويسه ، كنت قلت أنها حدوته فارغه "  وأجابه الآخر : " ياعم احكيلي ، دا باين علينا هنقعد هنا لنص الليل " ورددت في داخلي ويبدو أنني أيضاً  "هأقعد معكما إلى منتصف الليل " . لم أندم على الوقت الذي أمضيته ، فلقد خرجت بحكاية طريفة .                                                               

*****

اليوم ليس يوماً عادياً في حياة  "شريف الحديني " ، ساعات قليلة تفصله عن موعد وصول الطائرة ، سيقف في صالة الانتظار بالمطار ، يراقب بعين متوترة ،  نظراته ستكون محصورة في البحث عن عروس ترتدي ثوب الزفاف الأبيض ، انتهى لتوه من إعداد الشقة لتكون جاهزة لاستقبالها . صديق عمره  " كرم المنياوي " يقف إلى جانبه ، صداقتهما تعود إلى عهد الطفولة في قرية واحدة ، مدرسة واحدة ، جامعة واحدة ، أحلام واحدة ، ثم الهجرة غير الشرعية التي انتهت بالاستقرار داخل أمريكا ، اختلف طريق العمل ، لكن كانت تجمعهما شقة واحدة . أصر " كرم " أن يتركها لصديقه عندما قرر الزواج ، الشقة كانت مسرحاً لطيش الشباب والعزوبية . لم يتخذ " شريف " خطوة للزواج إلا بعد شديد الإلحاح من أبيه ليبعده عن طريق الحرام ، وافق على الزواج ، أرسل لوالده لينتقي له عروسه ، شرطه الأول والأخير أن تكون ربة منزل ، قصده الحقيقي أن تكون خادمة منزل ، يريد امرأة تعد له حاجته وتنجب له الأطفال . الأب لم يفهم الأمور من زواية تفكير ابنه الذي يمثل نوعاً من البشر ، لا يشغل فكرهم سوى البحث عن الثراء من أي طريق . بالنسبة له امرأة منكسرة ستكون أفضل من إمرأة تختال بجمالها وتشغله ولا تنتهي طلباتها التي بالتأكيد ستكون مكلفة من الناحية المادية .  الاثنان  " شريف وكرم " هربا من أداء واجب الخدمة العسكرية ، وبالتالي حُرِمت عليهما زيارة الوطن ، في أمريكا سلكا الطريق الذي يسلكه البعض وهو طريق زواج " البزنس " أي الزواج من نساء يحملن الجنسية الأمريكية نظير الاتفاق على مقابل مادي ليحصلا على الإقامة القانونية . ثم الطلاق بعد أن تنتهي المهمة . لكن في زواج الاستقرار المقبل عليه  "شريف " ، انتقى له أبوه بحكم خبرته التجارية فتاة رائعة الجمال ، وعلى الطريق العكسي رائعة الفقر ، لتقبل بالارتباط بشخص لم تره ولم يرها . دموعها لم تلين قلب الأب ، سحق قلبها تحت قدميه رافضاً ارتباطها بمن اختاره قلبها ، قائلاُ أنه لن يسمح بمزيد من الفقر ، الأب يرى أنه من الجنون أن يغلق باب الكنز الذي أتاه بطريقة تشبه مصباح علاء الدين . وافق على كل الشروط أمام رزمة الأوراق الخضراء ، توسلت الابنة أن يرحمها من البيع في سوق النخاسة ، لم تر العريس إلا من خلال صورة قديمة له ، ثم من خلال صورة مشوشة على الهاتف المحمول الذي أرسله إليها العريس لتتصل به من داخل المطار عند وصولها ، الزواج سيتم بالوكالة ، تذهب بعدها لتقدم نفسها وجبة دسمة للعريس المجهول ، لا تعرف عنه سوى اسمه ، نظراتها صرخت في وجه المأذون تترجاه بأن يكتب في عقد الزواج بالوكالة " ذبح على الطريقة الشرعية " . صديقه " كرم المنياوي " عندما شاهد صورة العروس ، وصفه بأنه محظوظ ، الصورة تشهد بأن العروس خضراء ندية كخضرة الصباح الباكر المبللة بالندى ، لكن شريف صدمه عندما قال في لا مبالاة بأنها امرأة مثل كل النساء المطلوب منها الإيفاء باحتياجاته وانجاب الأطفال ، وألا تزايد بجمالها لاستنزاف نقوده . نظر " كرم " نحو صديقه وكأنه يراه لأول مرة ، ولسان حاله يقول ، خسارة فيك ، ابتسم ابتسامة تحمل لوناً مخالفاً لكل ابتساماته السابقة ، وقال وهو يضرب ظهر  "شريف " بيده  :                              

 - لقد انتهينا من إعداد كل شيء يا عريس ، وسأتركك الآن لتعد نفسك لاستقبال العروس ، لكن دعنا أولاً نشرب نخب زواجك ، ولا تبطئ في الذهاب إلى المطار حتى لا تجد عروسك نفسها وحيدة في بلاد لا تعرفها .                          

 

*****

       دق جرس الهاتف في شقة " شريف الحديني " ، قفز سريعاً واختطف السماعة ، جاءه صوت صديقه  " كرم المنياوي " :                                                 

_ صباحيه مباركه يا عريس ، آسف لو كنت أزعجتك مبكراً .

أجابه شريف بصوت تائه وبعيداً تماماً عن صوت عريس في اليوم الأول من زواجه :

_ قل صباحية سوداء كالقطران .

قال كرم ضاحكاً:

_ هل استعصت عليك العروس ؟!

_ وأين هي لكي تستعصي ؟! لقد ضاعت العروس .

_ هل لديك وقت للمزاح يا عريس ؟!

_ أنا لا أمزح ، العروس ضاعت ، لم أجدها بالمطار .

_ كفاك تهريجاً واخبرني متى يمكنني أن أحضر للمباركه للعروس ؟

_ أقسم أنني لا أمزح ، العروس ضاعت ، لم تكن بالمطار .

_ أنها ليست حقيبة يا رجل ، حتى تُفقد كما تقول .

_ لكن هذا ما حدث ، بعد أن تركتني بالأمس ، شعرت بإرهاق بعد المجهود الذي بذلته في الأيام السابقة ، قررت أن أغفو لبعض الوقت ، كان لا يزال أمامي ثلاث ساعات على موعد وصول الطائرة ، عندما استيقظت ، كانت الساعة تشير إلى أن الطائرة وصلت منذ فترة طويلة ، أسرعت إلى المطار ، ووجدت أن الطائرة بالفعل وصلت في موعدها ، ولم أترك ركناً في المطار لم أبحث فيه عنها .                                                      

_ لكن كان معها الموبايل الذي أرسلته إليها ، ألم تهاتفك ؟!.

_ وهذا ما يزيد من دهشتي .

_ قد تكون أجلت سفرها في آخلر لحظة ، لأي سبب من الأسباب .

_ فكرت في هذا ، واتصلت بأبي في القاهرة ، وقال لي أنهم كانوا جميعاً في وداعها ، ولم يغادروا المطار إلا بعد أن أقلعت الطائرة ، وتأكدوا من سفرها . وتأكدت من فرع شركة الطيران أن اسمها ضمن قائمة ركاب الطائرة .                                             

_ ألم تتخذ أي أجراء ؟

_ حتى الآن لم أتخذ أي إجراء ، وأنتظر اتصالك بفارغ الصبر ، لاستشارتك ، فأنت في غمرة مشاغل الأيام السابقة ، لم تترك لي عنوانك الجديد أو رقم هاتفك ، والموبايل الخاص بك مغلق طوال الوقت .                                                            

_ سآتيك سريعاً .

_ لا تتأخر ، لنتشاور في هذه الكارثة .

_ وأي كارثة يا صاحبي .

 

 

********

 عاد " كرم المنياوي " إلى  شقته يسابق الريح ، بعد أن اتفق مع " شريف " أن يتروى قبل الإبلاغ عن اختفاء عروسه ، حتى يتصل بصديق له بالقنصلية المصرية ، ليستشيره عن الإجراء المضبوط . فتح الباب وجالت خطواته السكرى داخل الشقة ، تقفز عيناه من غرفة إلى غرفة ، ومن الحمام إلى المطبخ ، لا يتوقف عن المناداة ،  " حنان " .. " حنان"  وصدى الصوت يجيبه .. مغفل .. مغفل . ترنح وكاد أن يسقط كمغدور به أُطلقت عليه رصاصة من الخلف . فراشه المبعثر واختفاء الصندوق الذي يحتفظ به أسفله  أصابه بنوع من الجنون المفاجيء ، تبخر الصندوق ومعه كل مقتنياته المالية التي واصل الليل مع النهار لجمعها طوال هذه السنوات ، وتبخرت معه  "حنان " وحقائبها ، من هي " حنان " وما هي قصتها ؟ ، هذا هو اللغز المضحك .  " كرم المنياوي " ، أتى إلى المهجر ، يحمل أشكالاً وأنواعاً من النذالة والخيانة ، وأول من استخدمها ضده ، هو صديق عمره   "شريف الحديني "  . تحركت ميكروبات الخيانة في دمه وتبعتها فيروسات النذالة ليعملا معاُ ، ليلعب لعبته القذرة للإستيلاء على زوجة صديق عمره . بعد أن  فشل في رحلة البحث عن عروس في المهجر . إقامته مع " شريف " وصداقتهما التي لا تدع سراً مخفياً بينهما ، مكنته من تجميع كل خيوط اللعبة في يده . شاهد صورة العروس وعشقها غيابياً ، ألهمه عشقه بخطة شيطانية معتمداً على أن العروس لم تشاهد زوجها المنتظر إلا من خلال صورة مشوشة على شاشة الهاتف المحمول . وضع خطته على أن يكون هو  " شريف " . انتظرها في المطار بعد أن وضع المخدر لصديقه في كأس الشراب الذي اقترحه كنخب في صحة العروس . رقد  " شريف " تحت تأثير المخدر ولم يفق إلا بعد وصول الطائرة بفترة طويلة ، هرول إلى المطار ، لكنه لم يعثر على أي أثر يقوده إلى عروسه . سبقه  " كرم " إليها وقدم نفسه لصاحبة فستان الزفاف الأبيض على أنه  " شريف " . بدت بعض الدهشة داخل عينيها ، سرعان ما أخفتها ، قدمت له ابتسامة لؤلؤية ، سكر سكرة مزدوجة ، الفوز بعروس أرق من نسمات الفجر الندية ، ونجاح خطته التي خطط لها منذ أن تحرك الشيطان بداخله وأغراه بها . ذهب بالعروس إلى شقته الجديدة مهنئاً نفسه لعدم شكها فيه . حاول أن يرفع من فوق رأسها طرحة الزفاف كعريس ولهان ، أبعدت يده بشدة وهي تنظر إليه شذراً قائلة :                                                                                    

_ ماذا تريد ؟!

_ أريدك كزوجة .. أنتِ زوجتي بالوكالة .

_ أين  " شريف " ؟!

فاق من أحلامه ، وأجاب مضطرباً :

_ أنا أعلم أنك قبلت الزواج منه مرغمة ، فهل يهمك أمره ؟!

_ أنا أسألك أين  " شريف " أجبني أولاً .

_ يرقد في شقته ، دسست له المخدر ، لأعوقه عن الذهاب إلى المطار.

_ لماذا !!

_ رأيت صورتك ، وعشقتك قبل أن أراك ، استخسرت أن تكوني عروساً لأناني ، لا يبحث عن الحب مع زوجته ، لكنه يبحث عن خادمة كل وظيفتها خدمته وإنجاب الأطفال ، أما أنا فقد رأيت فيك سيدتي التي ستحول حياتي إلى نعيم لا ينفض .                

_ وكيف ستحقق ذلك ؟

_ بالزواج الحلال ؟

_ وشريف !

_ هل يهمك أمره ؟!

_ رأيت صورته ، وكرهته قبل أن أراه .

بدا الإرتياح فوق وجهه وسألها :

_ وبالنسبة لي !

_ لقد صحبتك بالرغم من تعرفي عليك في المطار ، تعرفت عليك من صورتك التي على شاشة الموبايل ، والتي كتب  " شريف " أسفلها " كرم أعز أصدقائي " .

سرور مضاعف طغى على قسمات وجهه:

_ أي أنك قبلت الذهاب معي بإرادتك الخالصة .

_ لن أرواغ ، نعم صحبتك بإرادتي ، لكن لن أكون لك سوى بالحلال .

_ إجابتك تثلج قلب النار .

_ لكني أريد أن أطمئن على مستقبلي معك .

قال وهو يشير بفخر نحو الفراش :

_ أسفله ثروة أيام الغربة كلها ، من هذه اللحظة ستكون تحت قدميك ، لأحقق لك كل ما تحلمين به في الحياة .

_ دعنا الأول نرى ما سيفعله صديقك .

_ لن تأتي في رأسه ذرة شك نحوي ، وسنبتعد عن طريقه إلى أي مكان آخر .

_ غداً تهاتفه وتبدي إندهاشك عندما يخبرك باختفائي ، وتسارع بالذهاب إليه حتى تعطله عن إبلاغ الشرطة ، إلى أن تدبر كيفية زواجنا ثم نختفي بعيداً عن طريقه ، كأنك ستذهب للبحث عن عمل في مكان آخر حتى لا يتسرب إلى داخله الشك .

_ مدهشة ، هناك مثل يقول العقل السليم في الجسم السليم ، وأنا اكتشفت اليوم أن العقل السليم في الوجه الجميل ، تخططين ببراعة وذكاء .

ضحكت ضحكة أذابة قلبه قائلة :

_ وأنا اكتشفت أن العقل السليم في الرأس الشيطاني ، خطتك الشيطانية لا تخرج إلا عن ذكاء شيطاني .

اقترب منها وهو يسير بخيلاء قائلاً :

_ وهل أعجبك ذكائي الشيطاني ؟!

_ بالتأكيد ، وإلا ما كنت اتيت وأنا أعلم أنك " كرم" صديق زوجي ، قرأت الذكاء في عينيك ، وقدرت أنه سيكون في أحلك الظروف أفضل من زواجي من  "شريف "

اقترب بضعة خطوات أخرى نحوها لكنها أوقفته بيدها الممتدة عن أخرها قائلة:

_ ألم يخبرك هذا الذكاء ، بألا تقترب خطوة أخرى إلا بعد أن أصبح زوجة شرعية لك .  

  توقف كطفل صغير أمام النظرة الصارمة التي أكسبت وجهها مهابة وجمالاً أكثر قائلاً : 

_ أشتاق إلى الغد ، لأقدم لك عقد الزواج فوق طبق من الذهب المرصع بالماس .

قالت ونظرة غريبة تطوف بعينيها :

_ أتعشم أن تسير كل الأمور كما أحلم .

******

يئس  " كرم المنياوي " من العثور على عروس الأحلام ، أو ثروته المفقودة ، ألقى بجسده المتفكك كأفكاره فوق الفراش المبعثر ، الموضوع كله تحول إلى قصة هزلية ، عقله توقف عن التفكير تماماً ، سؤال يطن داخل أذنيه ، هل حقيقة اختفت  " حنان " ، واختفت معها ثروة عمره ؟ ، هل يمكن أن تكون هذه الفتاة الرقيقة ، التي تسكب كل ألوان الجمال حولها ، تملك عقلاً شيطانياً يفوق شيطانية عقله ؟ ، أم أن ما حدث هو عقاب الغدر.  استرعت نظراته التائهة ورقة مطوية فوق المنضدة ، قفز إليها ، الكلمات مكتوبة على عجل :       لا تحزن ووفر دموعك ، الجزاء من جنس العمل ، وتأكدت الآن من صدق المثل القائل : " من حفر حفرة لأخيه وقع فيها " وأنت ترديت في حفرة أعمق بكثير من الحفرة التي حفرتها لصديق عمرك  " شريف " ، أرجو ألا تصف نفسك بالغفلة ، واقبل بالأمر الواقع ، وأنا متأكدة من أن الذكاء سيقدم لك النصيحة ، بأن تنسى الموضوع برمته ، وأنا سأنسى أيضاً " . حاول أن تبدأ من جديد بعقلية غير شيطانية .  بالرغم من أني مضطربة الأعصاب ، ومستعجلة ، إلا أنني كتبت لك هذه الكلمات وشهيتي مفتوحة للضحك ، بطريقة لم أعرفها من قبل . أرجو أن تقبل تحياتي يا فارس الأحلام .                                                                        

******

" حنان " أصبحت فيما بعد سيدة أعمال داخل أمريكا ، وتزوجت من فتى أحلامها الذي تركته خلفها مع دموعه ،  كيف ؟! ، هذه قصة أخرى . 

 

 

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

 

 

 

أخبار متعلقة :