بوابة صوت بلادى بأمريكا

المدقريّ .. صوت المثابرة (10) بقلم د. علي زين العابدين الحسيني

الكتابة، تلك الشعلة الدائمة التي لا تنطفئ، هي نهر الزمن الذي أعبره كلّ يوم، ألتقط منه لحظات حياتي، وأعيد صياغتها على الورق، وكأنني أبعث من جديد مع كلّ حرف وكلمة. عندما أكتب، أشعر بأنني أمد حياتي بعيدًا عن نطاق الأيام المعتادة، أخلق أزمنة جديدة، وأعبر جسورًا من الحاضر إلى الماضي، ومن الماضي إلى أعماق المستقبل، حيث لا شيء يحد من وجودي إلا صمت الصفحة البيضاء.
الكتابة ليست فعلًا عابراً، بل نظاماً مستمراً، هو نظام يبني صرحًا من الجهد والمثابرة. كما قال تشارلز ديكنز: "ليس النبوغ إلا المقدرة على تحمل الجهد المستمر". في هذه العبارة أجد سرّ النجاح، ليس في سرعة الكتابة أو عدد الصفحات، بل في استمرارية الفعل. قد تقلّ الكلمات في بعض الأيام، وقد تنساب بسلاسةٍ في أيام أخرى، لكن الاستمرار هو جوهر الكتابة. 
إنّه التزام يوميّ بالعودة إلى الصفحة، مهما كانت الأفكار ضبابية أو الأرواح منهكة!
أعتبر النجاح انعكاسًا لهذه المثابرة، فالناجح هو مَن يبقى، مَن يستمر رغم الرياح والعواصف، بينما الفشل يأتي من لحظة التوقف، من الاستسلام للفجوات الزمنية التي تبتلع الرغبة في الكتابة. الكتابة حينئذٍ ليست هواية، إنها جزء لا يتجزأ من كينونتي، وضرورتها لديّ كالماء والخبز.
وفي كلّ مرة أكتب، أهرب من ضجيج العالم، أجد في الكتابة حصناً يخفف عني ثقل الأيام. إنها الطريقة الوحيدة التي أستطيع بها أن أحرر نفسي من أعباء الحياة، أن أجد الخلاص في السطور. كلّ حرف أكتبه يحمل جزءًا من ألمي، من سعادتي، من ذكرياتي المدفونة، ومن تلك المواقف التي قد نسيتها أو تجاهلتها عمدًا.
الكتابة هي سرّ البقاء في هذه الحياة، هي شريان العمر الممتد عبر الزمن، وهي الخلاص الذي أبحث عنه كلّ يوم. أجد في كلّ نص أكتبه معنى جديدًا لحياتي، وأعيد اكتشاف نفسي، فأدرك أن الكتابة ليست مجرد كلمات، بل هي الحياة بأكملها.
لم أخرج يومًا إلى العالم الخارجي إلا وكان القلم رفيقي الدائم، يقبع في جيبي كما لو كان جزءًا مني، وحوله أوراق صغيرة أدوّن فيها كلّ ما تلتقطه عيناي وما تسمعه أذناي من مشاهد الحياة اليومية. في الشوارع، حيث تعكس الوجوه ما تخفيه النفوس من آلام وأحلام، وفي المقاهي، حيث تنساب الحكايات والقصص كما تنساب الأحاديث في الهواء، كنت أجمع كلّ شذرات التجربة الإنسانية. تلك اللحظات البسيطة، التي قد تبدو عابرة للآخرين، كانت هي الشرارة الأولى التي أوقدت في قلبي حب الكتابة. منذ البداية شعرت بأن الكتابة ليست مجرد هواية أو وسيلة لتفريغ ما يدور في داخلي، بل هي طريقتي الوحيدة لنقل ما يجول في خواطر الناس، وما يعبر عنهم.
حتى في هذا العصر، حيث أصبحت التكنولوجيا هي الأداة الأساسية لكثير من الكُتّاب، لم أترك القلم أبدًا. صحيح -أنني كغيري- قد استعنتُ بالوسائل الحديثة أحيانًا في الكتابة وتسطير الفوائد والملاحظات، إلا أنني ظللت متمسكًا بالقلم، ذلك الرمز الذي أعتبره جزءًا من هوية الكاتب، والركيزة التي تربطني بجوهر الكتابة. فالقلم ليس أداة للكتابة، بل هو صلة بين الفكر واليد، بين الروح والكلمة، بين الموقف ووصفه، بين الحادثة وتشخيصها، وبين العالم الداخلي والعالم الخارجي. إنّه رمز للإبداع والتواصل مع الماضي، وهو التذكير الدائم بأن الكتابة ليست وليدة التقنية، بل هي امتداد لثقافة طويلة وعريقة.
مع مرور الزمن، وجدت نفسي أحقق إنجازات في مجال الكتابة، وأصبح لي مقعدٌ في مجالس الأدباء والمفكرين والمثقفين. فتحت لي المجلات والجرائد والمواقع الإلكترونية أبوابها، وصرتُ أجد مكانًا لنفسي في كلّ نقاش ثقافي أو قضية معرفية عامة، لا كشيء عابر، بل كعنصر فاعل ومؤثر. ومع ذلك، لم أحب قط أن أُعرف في تلك الأوساط بألقابٍ أو شهاداتٍ، فأنا أرى أن سيرتي الذاتية ليست في الشهادات التي حصلت عليها أو الألقاب التي قد أنسب إليها، بل في كلّ حرف كتبته. 
إنني أرفض أن تُختصر حياتي في سيرةٍ ذاتيةٍ تُلخص في بضع كلمات، بل أرشد مَن يسألني عنها إلى كتاباتي، فهي مرآة حياتي الحقيقية!
ورغم أنني قد حصلت على بعض الاعترافات من الوسط الأدبي، فإنني لا أعتبر نفسي متفرغًا للكتابة بعد. ما أكتبه الآن، رغم قيمته وأهميته في أعين الكثيرين، أشبه بوجبات سريعة. نعم، هي وجبات كتابية تحمل في طياتها أفكارًا ومشاعر ورؤى جديدة في بعضها، لكنّها تفتقر إلى تلك العناية التي يتطلبها الإبداع الأدبي الحقيقي. أحلم بأن يأتي اليوم الذي أتمكن فيه من التفرغ الكامل للكتابة، أن أعيش تلك الحياة التي لا يتداخل فيها أيّ شيء مع القراءة والكتابة.
لقد حبستُ نفسي طوعًا ورغبة ومحبة في هذا العالم الواسع الذي تملأه الكلمات، ورغم كل ما يقدمه لي هذا العالم من تحديات وصعوبات، فإنني وجدت فيه ملاذي الوحيد؛ فالكتابة أصبحت بديلة عن كلّ شيء، وبدونها أشعر بالفراغ، وبها أجد الراحة والسكينة. 
إنها سعادتي الخالصة، السرور الذي يغمُرني كلما أمسكت بالقلم أو جلست أمام الورق!
عالمي اليوم ليس مجرد عالم الكتابة، بل هو دولة خاصة بي، تشمل المقالات النقدية، والمقالات الاجتماعية، والترجمات، والقصة القصيرة، والمقالات الشرعية المتخصصة، وتأليف الكتب، وحتى الإشراف على الأبواب الثابتة في بعض المجلات. أقدم الاستشارات الثقافية، وأكتب تقاريظ لكتب الآخرين، ولكن كلّ هذا لا يعدو أن يكون أجزاء صغيرة من مملكتي الكبيرة: مملكة الكتابة.
أحببتُ الكتابة الإبداعية التي تركز على التعبير الفني والأدبي، وتشمل الخيال والابتكار في السرد والوصف، وتستخدم للتعبير عن الأفكار والمشاعر بطرق فريدة وغير تقليدية. يشمل هذا النوع من الكتابة الروايات، القصص القصيرة، النصوص النثرية، والمقالات الأدبية.
هذه الدولة التي أقيم فيها لا يمكن مقارنتها بأيّ شرف آخر، فهي عالم يملأ حياتي، وأعتز به أكثر من أيّ شيء آخر. الكتابة هي حياتي، وهي الوطن الذي أعيش فيه، واللغة التي أتواصل بها مع نفسي ومع العالم. إنها الشرف الأعظم، ولا أرى في أيّ مهنة أخرى ما يقارن بها.