بوابة صوت بلادى بأمريكا

د.محمد فتحي عبد العال يكتب : مولد سيدي العريان

 
تصور وأنت تحي هذه الذكري في 10سبتمبر  من كل عام الموافقة لذكرى وفاة شخصية حلقتنا أنك تحتفي بالقديس برسوم (برسوما) العريان وليس سيدي محمد العريان !!.إنها مصادفة لا تحدث إلا في مصر العظيمة تلك البقعة من العالم التي تشهد تلاحما تاريخيا فريدا بين قطبيها المسلم والمسيحي في نسيج واحد قوي الصلات صلب العرى ثابت الدعائم أبد الدهر ..
كان برسوم العريان رجلا صالحا عاش في القرن الثالث عشر الميلادي وكان والده ويدعى (مفضل) ذا حظوة ومكانة رفيعة لدى الأقباط  بحكم عمله  ككاتب لدى الملكة شجرة الدر (ثالث ملكة في الإسلام بعد أروى بنت أحمد الصالحية حاكمة اليمن والسلطانة  رضية الدين بنت  شمس الدين إلتتمش في دلهي بالهند) أما أمه فكانت من عائلة (التبان) وهو ما جعل الناس يطلقون عليه (برسوم ابن التبان) نسبة لأسرة والدته..
مات الأب ( مفضل) تاركا لبرسوم ثروة هائلة مما جعله مطمعا لأسرة والدته وعلى رأسهم خاله والذي استطاع الاستيلاء على ميراثه وتركه فقيرا معدما  فانطلق برسوم إلى دير (مرقوريوس) في المعصرة على طريق حلوان ناشدا العزلة والبعد عن الضوضاء وشرور الناس ومطامعهم ..وكانت (المعصرة )في ذلك العصر قرية خضراء هادئة ومصيفا بديعا تسمى ( شهران ) وفيها كان مولد موسى عليه السلام ومنها ألقته أمه في تابوت خشبي إلى البحر لذلك اكتسبت طابعا دينيا مقدسا  ...
كان دير (مرقوريوس) والذي حمل اسم دير برسوم بعد ذلك  ديرا صغيرا آنذاك وقد تم إنشاءه في القرن الحادي عشر الميلادي حينما سمح الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله للرهبان ببناء دير خارج القاهرة فبني هذا الدير حاملا اسم الشهيد (مرقوريوس أبي سيفين) وذلك بحسب بعض الروايات.
أقام برسوم في مغارة صغيرة داخل الدير وقضى فيها عشرين عاما استطاع خلالها ترويض ثعبانا ضخما واستئناسه عبر الصلاة  وطوال هذه المدة ظلا مترافقين دون أن يلحق به الأذى . 
  وقضى سبعة عشر عاما على سطح دير مرقوريوس مرتديا من جلد الماعز ومن قماش الخيش المشعر ما يستر عورته فقط ومعرضا طوال الوقت للمطر وأشعة الشمس فاسود جلده مع الزمن واشتهر بين الناس كافة  المسلمون منهم والمسيحيون   وذاع صيته وتناقل العامة كراماته  والتي ربما تسربت إلى أدبيات الصوفية الإسلامية فضموه لتراثهم وصار لديهم "سيدي محمد العريان" وصار العامة يرددون "عم يا عريان يا طب الثعبان"و "ياعم يا رفاعي يا طب الأفاعي"...
المثير  أنه على مدار التاريخ يوجد مئات القصص لمن يمكن أن نطلق عليهم ( سيدي العريان ) بعضها قديم وكثير منها حديث ..ومن أمثلة القديم أيضا ماجاء في تاريخ الجبرتي ( عجائب الآثار في التراجم والأخبار) عام ١٢٠٧ هجرية (١٧٩٣م تقريبا ميلاديا ) عن مجذوب يدعى ( علي البكري) كان حليق اللحية وأقام لسنوات متجردا عريانا يجول في الأسواق وشقيانا لا يجد ما يسد رمقه والجوع يأكله ..بيده نبوت طويل يصحبه في أغلب الأوقات وتتبعه امرأة معروفة بالشيخة أمونة ..يتكلم فيخلط في كلامه.. تارة يضحك وتارة يسب ويشتم .. "ولابد من مصادفة بعض الألفاظ لما في نفس بعض الزائرين وذوي الحاجات فيعدون ذلك كشفًا واطلاعًا على ما في نفوسهم وخطرات قلوبهم".. هيئة الرجل المسكين أطمعت أخاه في استغلاله   فروج لكراماته فأقبل الناس عليه أشتاتا خاصة النساء لزيارته ودفع النذور والهبات وإحضار الطعام وفي الوقت نفسه حجر على المسكين ومنعه من الخروج ومن حلق لحيته حتى عظمت وكست أغلب وجهه كما سمن بدنه وكبر جسده من فرط الطعام الذي يحضره الناس والراحة فأوكل أخوه من يعتني به ويراعيه طوال الوقت فقد غدا البيضة التي تدر له ذهبا "واتسعت دنياه ونصبه شبكة لصيده"...ولما مات هذا المجذوب المسكين في العام الذي أشرنا له آنفا في تاريخ الجبرتي ..اجتمع الناس لجنازته ودفنوه في مسجد الشرايبى بالقرب من جامع الرويعى وأقاموا على قبره مقصورة ومقاما للزيارة وعمل له مولد "واجتمع عند مدفنه في ليال وميعادات قراء ومنشدون وازدحم عند أصناف الخلائق ويختلط النساء بالرجال ومات أخوه أيضًا بعده" ..
ومن النظائر لهذه القصة  في ربوع مصر الكثير ففي قنا يقام كل عام مولد الشيخ جاد الكريم الملقب بالعريان بمركز نقادة ومقامه بني بجوار حفرة بعمق ٣ أمتار مكث فيها أكثر من ٥٥ عاما عاريا دون انقطاع  ..كما يوجد ضريح باسم ضريح سيدي العريان في محافظة القليوبية في وسط أرض زراعية وتكسوه مقاطع خشبية داخلها حجر جرانيت كان يجلس عليه صاحب الضريح  ..
بالطبع في كل قرى مصر أضرحة تختلط أسماء أصحابها ولا يعرف لهم تاريخا على وجه الدقة والتحديد سوى ما يردده الأهالي عنهم وأغلبه من المبالغات والأساطير التي تتناقلها الألسنة دون فحص أو تمحيص ..
 
 
د.محمد فتحي عبد العال 
المصدر
 
كتاب نزهة الألباء في مطارحات القراء
كتابي الصادر في معرض القاهرة الدولي للكتاب ٢٠٢٤م

أخبار متعلقة :