بوابة صوت بلادى بأمريكا

مسعدة يكتبها : محمد فيض خالد

 
 
ظل عمرا يقنع بالقليل ، ويرضى بالتافه ، رغم أنه من أصل كريم ، وسليل عائلة وجيهة ، يمتد نسبها في الثراء ، ورث عن أبيه أرضا وأملاكا ودورا تناثرت في القرية ، يتذكر والده حين كان ينهره في جنون ، مرددا في غلظة :" ٍ المال هو الأصل ، والناس بدونه لا شيء "، يغيم وجهه في ابتسام مأزوم ، يعاود كر مسبحته الكوك ، كأنه ينفض عن نفسه هواجس الأمس، يعود سريعا مترحما عليه ،لتسكن نوازعه رويدا رويدا ، " مسعدة " أو سعدة كما تعود مناداتها ، بهجة حياته ومسرة أيامه ، الوحيدة التي  تسكن نفسه إليها ،ويطمئن فؤاده لرؤيتها ، ابنة خاله تصغره بعشرين عاما، تزوجها قبيل رحيل والده بأشهر ، يشعر بغصة في حلقة فإلى الآن لم تهبه الذرية،  بالغت مسعدة في محبتها مذ دخلت بيته ، تغرقه بودها، وتجرفه بعطفها  ،  تطيعه فلا تثني له أمرا ، تتحسس مواقع سمعه وبصره، يقدر فيها رجاحة عقلها  ، لكنه يحاذر أنوثتها الطاغية التي جعلتها منية كل نفس ، ومطمع كل قلب ، فلولا القدر الذي كتب لها عيشا في بيته ، لكانت تحت وجيه من وجهاء الناحية.
لا يتورع أن يذكر بين رفاقه أنها تخشى الله فيه ،وتصون عرضه ، ولا تأت ما يسوئه ،تسكن نفسه إلى نفسها ساعة يضمها إلى صدره ،يلتمس كل لذائذ الحياة في وهجٍ لا يهدأ، يتشرب ليونة جسدها الفائر، يشعر وكأنما حيزت له الدنيا وملك مفاتح خزائنها، يتضاءل عزه أمام عنفوان حسنها ، يفيق بعد برهة على ما يعكر صفو مزاجه وينتزعه من نشوته ، تتدفق من رأسه سيول الأفكار السيئة تزلزله ، يرسل زفرات الأسى متلاحقة كلما تذكر فارق العمر بينهما ، يخشى في قرارته اليوم الذي تمل فيه صحبته ، فتنصرف عن مشاعرها لغيره من أندادها ،يداعب خصلات شعرها الفاحم المرسل في فوضى فوق صفحة عنقها العاجي ،يغيب نفسه في قبلة طويلة ، قبل أن يستعيد حكايته المستفزة ، عن عمه عبدالعزيز وامرأته " لواحظ " التي هربت مع سائق ماكينة الحرث ، وكيف سلبته شقا عمره ، فلم تترك له ولأودها غير شؤم العار ، ومر الفضيحة.
في كل يوم تنفق من دلالها بسخاء، تحاول جاهدة كي تعيده لأنسه ثانية، تهمس في أذنه بخيوط من حرير ،ثم تصب على قلبه من عينيها شواظ من نار ، تذكره ما جرى بينهما في شهر العسل ، تتضاحك في تعنج وميوعة يتهدم أمامها وجدانه ، سريعا تعود إليه فحولته وكأنما نشط من عقال كأقوى ما يكون ، ليغيبا مجددا في لهيب من الأشواق ، يسبحان بين أمواجها مدا وجزرا ،حتى تتقاطر رسل الفجر.
ترفع أكف الضراعة مع صوت المؤذن ، راجية أن ترزق منه الطفل الذي يبدد مخاوفه، لكن أيامها تمضي دون نتيجة ، وكلما مضت ،كلما اكتفى  بعشرتها عما سواها ،ليتعلق بها تعلق الطفل بأمه ،يزعجه فضول الناس عن مآل ثروته من بعده ،يدفعه حديثهم لأن يلعن المال ألف مرة ،تمنى لو كان فقيرا معدما ، عن أن تلوكه  ألسن الثقلاء في اجتراء.
عادت ظنون الأمس  تحاصره، هذه المرة لم يشفع لها جمالها ولا حسنها ،لم يعد يرتوي من شهدها المراق بين شفتيه ، مضت أيامه على هذا المنوال من الفتور ، حتى كان اليوم الذي ذهبت لتوقظه ، وجدته ورسل الموت تنازع روحه .
مسكين ظل حياته يقنع نفسه ؛ أنها ليست كباقي النساء، لأنه لم يكن يوما كبقية الرجال ،غاب عنه أن الغيب يخبئ في كفه ، ما ستنشره حتما صحائف الأيام.
انفتلت أيام عدتها ، لترضى بأول خاطب لها ، شاب في شرخ الشباب ، أمضت معه أياما هانئة  منعمة في مخادع الحب ، حتى داهمها من سلبها النعيم ، باع المتوفي جميع أملاكه  فبل رحيله ، هبط البائع ليلقي بالحبيبين خارج اسوار الجنة .
 
 

أخبار متعلقة :