بوابة صوت بلادى بأمريكا

د. بهي الدين مرسي يكتب : الابتزاز العاطفى.. جريمة بلا بصمات

 
 
 
يشكل المكون الانفعالى فى الإنسان ما قيمته الثلث من جملة البناء النفسى، والذى يتضمن الحالة المزاجية، والتركيبة العاطفية، وأخيرًا الحالة النفسية، لأن التركيبة البيولوجية للإنسان تتألف من الشق الأول وهو الشق النفسى، الذى يتعامل مع الحياة من خلال مدخلات الحواس الخمس، ثم ربط هذه المدخلات بالرصيد المعرفى، وفى النهاية يتم تحديد ردود الأفعال التى تصل للعقل، الذى يمليها بدوره للجسم، وهو الشق الثانى أى الشق البدنى، على شكل أوامر ليؤتى رد الفعل المناسب، سواء فى شكل انفعال عاطفى مثل الفرح أو الاستياء، أو ردة فعل بدنية مثل صد الأذى. 
الابتزاز العاطفى هو إحدى صور التلاعب النفسى بالضحية، حيث يقوم المبتز باستخدام الميل العاطفى لدى الضحية، وتوجيه ردود الأفعال ناحية مصلحته، فيما يشبه الإكراه أو التهديد، وعادة ما يكون المبتز على دراية تامة بالميل العاطفى للضحية، بل ولديه بعض اليقين بكيفية الاستجابة للابتزاز. 
كيف تتجنب الابتزاز من خلال الشراك العاطفية؟
كما أوضحنا سلفًا، الابتزاز العاطفى هو تبديل الإرادة الطوعية للفرد والتى تخضع لإدارة العقل، ونزع حسابات المنطق وإخضاعها منفردة للانفعال العاطفى، ويعتبر الانفعال العاطفى عنصرًا مؤثرًا وخطيرًا عندما يزاحم العقل فى قراراته، ولتقريب المسألة حول التدخل العاطفى، دعونا نراجع بعض المواقف الحياتية، لنفهم كيف ومتى يعمل هذا المؤثر:
■ قد تصادف شخصًا يشبه فى ملامحه أباك، أو عزيزًا مفقودًا لديك، فيشرع الانفعال العاطفى فى تأسيس علاقة انفعالية فورية مع هذا الشخص بلا ضوابط منطقية، فأنت لا تعرف اسمه، ومع ذلك تمنحه جميع الحصص المخصصة لأبيك، وهى الحب والاحترام والدفء وربما تتقدم للعطف عليه، وكلها أمور لا ضرر منها سوى أنها فى سياق مجهول الأساس، وبالطبع، يمكن لهذا الانفعال العاطفى أن يقودك لكراهية أناس لم تتعامل معهم، ولا ذنب لهم سوى أنهم يشبهون آخرين فى رصيد الذاكرة لديك، وقد يربطهم بك بعض البغض أو الكراهية، فينالون- بلا ذنب- نفس العداء. يختلف هذا الانفعال العاطفى بالطبع عن الظاهرة العلمية المعروفة، وهى «الارتباط الشرطى».
تعالوا نحاكى السيناريو المتكرر الذى يعيش فيه البعض دور المبتز دون وعى، فمثلًا، لا توجد طريقة مباشرة تمكننى من تفريغ محفظتك وتجعلك طواعية تمنحنى ما بها من أموال، ولكن بالابتزاز العاطفى سأفلح، وإليك بعض المشاهد التى كثيرًا ما نرصدها فى الشارع المصرى، ومنها مشهد الطفلة ذات السنوات السبع وهى منكفئة على كتاب القراءة وبجوارها علبة ورنيش الأحذية والفرشاة، وغالبًا بدون الصندوق الذى نعرفه للعامل المحترف. هذا المشهد مألوف فى أشهر الدراسة وفى فترة الدراسة الصباحية ويمتد لفترة بعد الظهر، مما يعنى أن الطفلة ليست مرتبطة بالمدرسة، ومعه أيضًا مشهد الطفل الفقير المنكفئ على عمل الواجب على الرصيف فى وسط البلد على نور الشارع.
■ أما المشهد الثانى، فتراه غالبًا أمام مدخل المحال التجارية الفخمة، التى تبيع الملابس النسائية بوسط العاصمة، أو على مرمى البصر من بائع الإيشاربات الحريمى حيث يستغرق زمن الفرز والفصال بين الزبونة والبائع ما أقله عشر دقائق، وهو زمن يكفى لبناء علاقة الابتزاز العاطفى واستدعاء صورة طفلك الغالى، والتعوذ بالله من أن يلقى هذا المصير، فيقايض المبتز هذه الأم وتنتهى الترضية بدفع بعض النقود، أما المشهد الثالث، فهو «بيع الخطايا» أو كما يعرفه رجال الاقتصاد وخبراء التأمين ببيع الدين أو نقل المخاطر، وتبدأ عملية الابتزاز عندما يقوم عامل التوصيل «الدليفرى» بتقديم نفسه بأنه مكتمل الإيمان، وسوف يسمعك نغمة هاتفه التى استبدل فيها الجرس بالأدعية أو تلاوة القرآن، فتصلك الرسائل بامتلاك هذا الشاب لكل ما ينقصك من حسن العلاقة مع الله، وهنا يبدأ الاشتغال العاطفى، فيقايض الضحية دون أن يدرى على شراء الرضا الربانى من خلال العطف على أحد عباده المحبوبين الطيعين، فيغدق عليه الهبات.
■ ونصل للمشهد الأخير فى أطروحتنا وهو مشهد عامل النظافة التابع للبلدية ذى الزى المميز؛ جاكيت فسفورى أخضر وبدلة عامل نظافة خضراء، وتراه وهو ممسك بالمكنسة الطويلة ويجلس على الرصيف وهو منهك كالمسكين المفترى عليه، ويظهر لك انكسار المغلوب على أمره.
هذا الكذاب أمره مفضوح، فلا يوجد كناس مسموح له بالتعاقد مع المقاول للأحياء أكبر من ٤٥ سنة، كما أن العمال ليس مكانهم الشوارع المكتظة بالسيارات بوسط المدينة، فهذه الطرقات يتم تنظيفها بسيارات البلدية فى الفترة الصباحية.
لا تعذب نفسك مع هؤلاء، لأنك تشارك دون أن تدرى فى صناعة النصاب والكذاب، وأنت لا تدرى ماذا يصنع الجنيه الذى تمنحه للمتسول وتظن أنه سيتعشى به. يجب كبح جموح العاطفة قليلًا، فهذا المتسول مرت عليه سنوات وهو مستأجر لمنطقة التسول بأرقام تذهلك، وتكون أنت السبب فى اكتواء قلب أبوين على طفلهما المخطوف والمستخدم فى حرفة التسول.
يجب التنبه إلى أن القضية عقلانية، بنيت على ثوابت علمية لا تحتمل الاعتراض ولا تخضع للنفى، ولا يجب أن ينتهى عنها الجدل حول الفقر والفقراء والعطف والزكاة والتراحم وفتح قنوات الجدل الدينية، على الأقل ليس فيما يتعلق بهذه المشاهد.
يهدف هذا المقال لمحاربة «الفقر»، ولا علاقة له «بالفقراء»، لأن أبطال هذه النماذج المذكورة هنا ليسوا من الفقراء، بل من النصابين.

أخبار متعلقة :