بعد طول مراوغة أعادت قطر برفضها مطالب الدول الأربع (مصر, السعودية, الإمارات, البحرين) الأزمة إلى مربعها الأول سعيا لكسب الوقت, وربما رهانا على تغيير بعض المواقف للحصول على أقصى ما يمكن أن تحصل عليه فى أى تسويات سياسية مرتقبة, أو أن تجد لها الوساطة الدولية, التى تقوم بها الولايات المتحدة, مخرجا لا ينزع عنها كل أوراقها, خاصة بعد ما وسعت دائرة الأزمة لتُدخل فيها كلا من إيران وتركيا اللتين أصبحتا بدعمهما الصريح وانحيازهما السافر للدوحة طرفين أصيلين فيها.
والواقع أن كليهما (إيران وتركيا) ليستا مجرد دولتين حليفتين لهذه الدولة الصغيرة, فلكل منهما مشروعها التوسعى المناهض للنظام الإقليمي العربى - الذى فى المقابل تعمل مصر والسعودية على بقائه واستمراره - لصالح نظام شرق أوسطى جديد يعطى لهما فرصة لقيادة إقليمية تستميتان لتحقيقها, وهو نفس المفهوم الذى طالما تحدثت عنه الدوائر السياسية والبحثية الأمريكية تحت عنوان «الشرق الأوسط الكبير» حتى وإن اختلفت الرؤى حوله من دولة إلى أخرى, فطهران منذ الثورة الخومينية 1979 تتبنى مشروعا شيعيا فارسيا تريد له أن يمتد شمالا إلى العراق وسوريا ولبنان, وجنوبا إلى شبه الجزيرة العربية حتى اليمن, تخوض من أجله حروبا مباشرة وبالوكالة وتدعم كل الميليشيات الممكنة لتقويض الدول الوطنية, وتركيا من ناحيتها مع حكم أردوغان لا تألو جهدا ولا دعما للجماعات السنية المتطرفة ولجماعة الإخوان بالذات حتى تُصبح مركزا للعالم الإسلامى بعد انقضاء زمن خلافتها العثمانية, وواشنطن على الجانب الآخر ترى فى تقسيم بعض الدول أو السماح بإقامة دويلات لبعض الأقليات مثل الأكراد وغيرهم وسيلة لإعادة رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط تستكمل بها أو تطور مثيلاتها القديمة التى كرستها «سايكس - بيكو» بعد الحرب العالمية الأولى, أما قطر فقد وضعت نفسها فى خدمة جميع هذه المشاريع على تضاربها لتُوجد لنفسها وظيفة ومكانا بين الدول الكبيرة, وبالتالى فكل من الدول الثلاث (أمريكا, تركيا, إيران) تريد شيئا ما منها توظفه لأهدافها أو مشروعها الأكبر, وهو ما تسبب فى تعقيد الأزمة وتشعبها.
ولأن تركيا وإيران هما فى النهاية دولتان إقليميتان تبحثان عن قوة دولية كبرى تدعمهما, وجدتها الأولى فى روسيا والأخرى فى الولايات المتحدة حليفها الطبيعى الذى تعمل تحت مظلته فى حلف «الناتو», فإن السؤال الجوهرى يظل متعلقا بموقف القوة العظمى أى أمريكا وطبيعة الدور الذى تلعبه فى هذه الأزمة وطريقة إدارتها لها, والأهم انحيازاتها لأى من طرفيها, الدوحة (التى تضم أكبر قاعدة عسكرية أمريكية فى الشرق الأوسط) فى جانب والدول الأربع (الحليفة لها) فى الجانب الآخر.
منذ البداية, ورغم إعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن وقوف إدارته بصلابة ضد الإرهاب واعتبار محاربة داعش ومثيلاتها من التنظيمات المتطرفة أولوية قصوى والتى تُتهم قطر بدعمها, إلا أن مواقفه بدت مترددة وأحيانا مرتبكة, يحاول أن يحافظ على ذات العلاقة الجيدة التى تربطه بالجانبين دون إحداث أى تغيير جوهرى فى السياسات, بل واستمرت صفقات السلاح كما كان مقررا لها, وهو ما تؤكده التصريحات الصادرة عن البيت الأبيض ووزارة الخارجية والبنتاجون, حتى وإن اختلفت فى التفاصيل, وبالتالى لم تسفر «دبلوماسية الهاتف» التى اعتمدتها الإدارة - أى الاتصالات المتتابعة مع طرفى الأزمة - أثناء الوساطة الكويتية عن شىء ملموس, بل إن ترامب, الذى أظهر حماسا شديدا مقارنة بباقى المؤسسات الأمريكية بسرعة حسم المواجهة مع التنظيمات الإرهابية, عندما أشار إلى الدول الداعمة للإرهاب لم يسمها بالاسم واكتفى بالقول (إنه على جميع الدول وقف تمويل الإرهاب وتقويض أيديولوجية التطرف) مثلما استبقت وزارة خارجيته قطر نفسها فى دعوة الدول الأربع لأن تكون مطالبها عملية وقابلة للتنفيذ, وهو ما اعتبرته الأخيرة طوق نجاة مؤقتا لها.
المعروف أن الأزمة مع الدوحة جاءت فى الأساس على خلفية علاقتها بإيران (دون ذكر لتركيا) وبالجماعات المتطرفة الشيعية والسنية, وفى القلب منها جماعة الإخوان المسلمين, ولا شك أن موقف إدارة ترامب من إيران ووكلائها واضح وصريح, وسبق أن وصفتها بأنها «أكبر راع للإرهاب فى العالم», وتتوافق في ذلك مع دول المقاطعة الخليجية الثلاث (السعودية والإمارات والبحرين) التى تعتبرها تهديدا مباشرا لأمن الخليج, وإن ظل السؤال عالقا حول المدى الذى يمكن أن تصل إليه الأمور على هذا الصعيد تسويةَ أم حرباَ, ولكن بقى الموقف من الشق الثانى, تحديدا ما يتعلق بالإخوان (وهو ما يهم مصر فى المقام الأول) غائما, ومن هنا جاء التعليق الأمريكى بضرورة حل الأزمة «داخل البيت الخليجى» وكأنه يفصل ضمنيا بين الشقين.
صحيح أن الرئيس الأمريكى فور توليه السلطة وجه انتقادات علنية لهذه الجماعة وشرع فى إصدار قرار تنفيذى بإدراجها ضمن قوائم الجماعات الإرهابية وهو ما أكده أحد مستشاريه للأمن القومى, إلا أن ذلك لم يحدث, وقد ينطبق نفس الشيء على مشروع القانون المقدم بنفس المضمون إلى الكونجرس. والمشكلة أن هذه القضية تنقسم حولها الآراء, وتكفى الإشارة إلى الهجوم الذى تعرض له ترامب من كبريات الصحف الأمريكية فى حينه لإثنائه عن اتخاذ مثل هذا القرار, استنادا إلى كونها- أي الجماعة - مشاركة فى الحكم فى عدد من الدول العربية والخليجية فضلا عن تركيا, التى خرج أردوغان فى الأصل من تحت عباءتها, وهى دول كلها من حلفاء أمريكا, وكذلك فعلت المنظمات الحقوقية كـ «هيومن رايتس ووتش», والأهم شهادة وزير الخارجية ريكس تيرلسون فى إحدى جلسات الاستماع بمجلس الشيوخ, التى أكد فيها أنها (جماعة كبيرة لها أنصارها فى جميع أنحاء العالم العربى والإسلامى, وبالتالى يصعب وصفها فى العموم بالإرهاب, لكن فقط يمكن تصنيف بعض تياراتها أو أجنحتها المتورطة فى العنف كجماعات إرهابية) وهو موقف يحمل نوعا من «البراجماتية» أو التوظيف السياسى للجماعة, الذى ترسخ بعد أحداث 11 سبتمبر كجزء من إستراتيجية احتواء الجماعات المسلحة بالاعتماد على الإخوان باعتبارهم «المعتدلين».
هذه الإشكالية تحديدا هى ما تعول عليه قطر ومعها تركيا لكسب الوسيط الأمريكى فى صفها فى تلك النقطة بالذات, ولا يبدو إلى الآن أن إدارة ترامب قادرة على حسم الموقف, وأقصى ما يمكن انتظاره منها هو البحث عن الحلول الوسط, التى ستطيل أمد الأزمة.
الجماعة 2
علاقة جماعة الإخوان بالنظام السياسى المصرى منذ ثورة 1952 وحتى عهد مبارك, كانت موضوعا للرسالة التى نلت عنها درجة الدكتوراه فى العلوم السياسية, والتى صدرت فى كتاب حمل عنوان «الدولة والحركات الإسلامية المعارضة: بين المهادنة والمواجهة» فى النصف الثانى من التسعينيات, ثم تلته كتب أخرى وعديد من الأوراق البحثية باللغتين العربية والانجليزية, وإن تناولت فترات لاحقة على الحقبة الناصرية. وكنت أعتقد كما يعتقد كثيرون غيرى من العاملين بالحقل الأكاديمى- أن هناك وقائع تاريخية باتت محسومة استنادا إلى التوثيق العلمى والتاريخى لها وليست الميول والأهواء السياسية أوالأحكام الذاتية. لذلك فاجأنى هذا الكم الهائل من الغضب والانتقادات اللاذعة التى وُجهت للكاتب الكبير وحيد حامد لتعرضه لعلاقة عبد الناصر بالإخوان قبل ثورة يوليو فى مسلسل الجماعة فى جزئه الثانى, الذى عُرض فى شهر رمضان, واتهامه بالاعتماد على مراجع «إخوانية» رغم أن مواقفه المناهضة لفكر الجماعة والاسلام السياسى عموما معروفة.
صحيح أن كثيرا من رموز جماعة الإخوان وقياداتها أرّخوا لهذه الفترة, لكنهم بالقطع لم يكونوا الوحيدين فى هذا المجال, فمعظم المؤرخين من خارج صفوف الإخوان أكدوا نفس العلاقة, وحتى المستشار طارق البشرى عندما تطرق لها (أى علاقة ناصر بالإخوان) فى عمله الضخم «الحركة السياسية فى مصر 1945 -1952» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب فى بداية السبعينيات من القرن الماضى لم تكن له انحيازات إخوانية, لذلك عندما أعاد طبعه حديثا عن دار الشروق, وقد مالت توجهاته الفكرية ناحيتهم, حرص على تمييز الجزء المضاف, وبقى النص الأصلى كما هو دون تغيير. ولم تخرج أعمال معظم المؤرخين عن هذا الخط، على تباين اتجاهاتهم السياسية يمينا أويسارا, فنفس التوصيف سنجده مثلا عند د.عبد العظيم رمضان (تطور الحركة الوطنية فى مصر الصادر فى أربعة أجزاء) ناهيك عن عشرات الكتب والمذكرات السياسية للذين عاصروا هذه الفترة ومنهم من انتمى للضباط الأحرار, وهو ما ركز عليه مقالا الأستاذ صلاح عيسى والأستاذة فريدة النقاش بعرضهما جانبا من مذكرات د. خالد محيى الدين «الآن أتكلم» على سبيل المثال لا الحصر.
علاقة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بالإخوان من نوع العلاقات المعقدة أو المركبة, بدأت بالتقرب (إن كان مصطلح الانتماء يصيب البعض بالصدمة) والتعاون ثم الاختلاف الذى تأرجحت خلاله العلاقة بين المواجهة حينا والاحتواء حينا آخر وصولا إلى نقطة اللاعودة أو الصدام الحتمى, وهو الجانب الأشهر فيها.
كان العداء للنظام الملكى ولحزب الوفد صاحب الأغلبية والذى وصل للحكم أكثر من مرة قبل الثورة هو الأرضية المشتركة التى بُنيت عليها تلك العلاقة إضافة إلى حرب 1948 ومناهضة الاحتلال الإنجليزى لمصر, ثم تصدعت تلك الأرضية على خلفية الصراع على اقتسام النفوذ وتوزيع الحقائب الوزارية بعد نجاح الضباط الأحرار فى إزاحة النظام القديم ومطالبة الإخوان بنصيب أكبر فى السلطة تأسيسا على تعاونهم الذى سبق الثورة. بعض دلالات هذا التعاون -وليس كلها- استثناء جماعة الإخوان من قرار حل جميع الأحزاب السياسية فى 18 يناير1953 (بعدما اعتبرها قانون تنظيم الأحزاب 179 لسنة 1952 مجرد جماعة دينية)، إصدار عفو خاص (تحديدا 11 أكتوبر 1952) عن قتلة المستشار أحمد الخازندار وبقية المسجونين فى قضية اغتيال النقراشى, وعفو شامل عن مرتكبى جميع الجرائم السياسية (فى الفترة من توقيع معاهدة 1936 إلى ثورة 1952) وكان أغلب المتهمين فيها من الإخوان, كذلك عدم فتح تحقيقات قانونية حول حريق القاهرة, الذى تردد تورط الجهاز السرى أو النظام الخاص للإخوان فيه رغم انقضاء الحقبة الملكية بكل نخبتها وجلاء الاحتلال, إلى جانب العداء الشديد لأصحاب الاتجاهات الماركسية والشيوعيين (الذين يصنفهم الإخوان كمعادين للأديان والذين تم استثناؤهم من قرارات العفو) وهو العداء الذى استمر طويلا رغم تحالف ناصر بعد ذلك مع الاتحاد السوفييتى وتبنيه الاشتراكية, بعبارة أخرى إذا كان العداء لليبراليين, الذين اعتبرهم رمزا للرجعية والامبريالية وغيرها من مصلطحات رنانة مفهوما, فالعداء الأخير ظلت أسبابه غامضة أو لا تُفسر إلا فى سياق تلك العلاقة. لذلك فإن ما أورده المخرج خالد يوسف فى تعليقه على «الجماعة 2» (بأن جمال عبد الناصر قد بحث فى كل التنظيمات والأحزاب والحركات السياسية عن ضالته فلم يجدها..وانضم شكليا لبعضها ليستطيع التقييم الصحيح) كان هو الذى يحتاج إلى أسانيد تدلل علي صحته, وإلا فبأى مقياس يمكن الجزم بأن انضمامه لبعضها (والمقصود هنا الإخوان فى الأساس) كان شكليا؟
وبغض النظر عن التفاصيل, لأنها كثيرة, فالسؤال هو هل فى الكشف عن هذا الجانب من التاريخ ما يسىء للرئيس الراحل؟ الإجابة لا, فكل السياسيين قد يبدّلون مواقفهم ويُعدّلون من أفكارهم, بل ان كثيرا من المثقفين يفعلون ذلك أيضا دون أن يستدعى ذلك كل هذه الضجة, لكن المسىء وغير المقبول هو تلوين التاريخ ومحاولة إسقاطه قسرا على الحاضر والعكس, أى مضاهاة الحاضر بالماضى. فأغلب من هاجموا المسلسل سعوا عنوة لربطة بثورة 30 يونيو ضد حكم الإخوان والادعاء بأنه ينال من شرعيتها, وكأننا مازلنا فى العصر الناصرى, الذى لا يعترفون بانقضائه, فلا الزمان هو الزمان، ولا الرئيس عبد الفتاح السيسى هو جمال عبد الناصر, فلكل عهد ظروفه الخاصة التى لا يمكن قياسها إلا بمعايير زمانها, والمواجهة الحقيقية مع الإخوان لم تبدأ إلا فى الوقت الحالى, فقبله بعقود وإلى عهد مبارك كان ما يتوارى خلف الكواليس يفوق بكثير المعلن منه.
إن الأزمة الحقيقية التى خلفتها «الجماعة 2» لا تكمن فيما كشف عنه العمل, حتى وإن كانت هى المرة الأولى التى يتصدى فيها عمل فنى للمساحة المسكوت عنها فى علاقة ناصر بالإخوان, وإنما فيمن يصبغون شكلا أسطوريا على الزعماء. الأزمة باختصار هى فى منطق التفكير الذى يصادر كل شىء يختلف عما يراه أصحابه, فمثلما يطالب أنصار التيار الناصرى بمحاربة «الأصولية» فى مجال الإسلام السياسى فعليهم هم أيضا أن يتخلصوا منها, لأن الأصولية - بمعنى الجمود فى التفكير- قد تصيب فى النهاية أى تيار فكرى.
أخبار متعلقة :