بوابة صوت بلادى بأمريكا

د.ماري ملاك: نظرة نفسية تحليلية نحو تناقض الشخصية المصرية (ياعزيزى كلنا مجانين!)

شعرت بحيرة شديدة حينما بدأت الكتابه فى هذا الموضوع حيث  وجدتنى أمام كم هائل من الصفات المتناقضة بحيث تجعل الصورة أشبه بمناطقنا العشوائية المنتشرة فى طول البلاد وعرضها ففيها الفقر الشديد والغنى الفاحش , وفيها الظلم وفيها العدل , وفيها القسوة فى أشد صورها( تعذيب حتى الموت ) وفيها الرحمة فى أجمل صورها ( جمعيات خيرية وتكافل اجتماعى ) وفيها العلم والعلماء ( أربعة جوائز نوبل فى فترة زمنية قصيرة ) وفيها الجهل المنتشر على غالبية سكانها، وفيها الأزهر والحسين والسيدة نفيسة والكاتدرائية المرقسية والجماعات الإسلامية والمسيحية , وفيها شارع الهرم واستديوهات إنتاج الفيديوكليب , فيها الطيبة والقسوة , فيها الشهامة والنذالة , فيها السماحة والتعصب , فيها الفن الجميل والقبح الفاحش , فيها ...... وفيها , وفيها ......

ولذلك سوف نجد أنفسنا أمام سمات قد تبدو متباعدة أحيانا ومتناقضة أحيانا أخرى , وهذا يستدعى منا الكثير من الصبر وسعة الصدر والإحتمال لما سنعرضه عن هذه الشخصية المثيرة للإعجاب فى لقطات والمثيرة للغضب والإستهجان فى لقطات أخرى .

  

وفيما يلى بعض الأمثلة لاهم السمات المتناقضة للشخصية المصرية

 

1 - من التسامح إلى التساهل و التسيب :

الشخصية المصرية بطبيعتها الزراعية تميل إلى التسامح , ففى البيئة الزراعية لاتوجد حاجة للإنضباط الصارم فالأخطاء لاتؤدى لكوارث بل يمكن تلافى آثارها دائما . يضاف إلى ذلك الطبيعة الدينية للمصريين والتى تدعو غالبا إلى التسامح , كما أن الإرتباطات الأسرية والإجتماعية القوية تشجع دائما على التسامح خاصة مع الأهل والأصدقاء والجيران وغيرهم . وفى ظروف معينة نجد هذه الصفة الإيجابية – وهى التسامح – تتحول تدريجيا إلى حالة من التساهل مع الآخرين فى ظروف العمل أو فى الأخطاء التى يرتكبونها , فهناك ميل دائما للعفو والتساهل , وهذا الميل يصل فى النهاية إلى حالة من التسيب تترك آثارا سيئة على الإنضباط والإلتزام المطلوب لنجاح أى عمل .

2 - من الكرم إلى الإسراف إلى البذخ إلى السفه :

ربما تكون وفرة الطعام فى مراحل معينة من تاريخ المصريين قد خلقت لديهم صفة الكرم  فالنهر بما يفيض به من خيرات يعطى حالة من الطمأنينة للناس تشجعهم على الإنفاق دون خوف . ورغم تغير الأحوال بالنسبة لجموع المصريين وحالة الشح التى يعيشها أغلبهم إلا أن صفة الكرم مازالت موجودة , وقد تتحول عند البعض إلى حالة من البذخ والسفه , فنجد أنه رغم الظروف الإقتصادية الصعبة ينفق الناس بسفه فى الأفراح والحفلات , ويكلفون أنفسهم مالايطيقون وربما يستدينون فى سبيل الظهور بمظهر الأثرياء , ويطلق المصريون على هذا أوصاف مثل : " العنطزة " ... و " الفشخرة " ..... و " الأنزحه " , ولديهم أمثلة شعبية دالة على ذلك مثل : " الصيت ولا الغنى " ..... " من بره هلا هلا ومن جوه يعلم الله "

3 - من المطاوعة إلى المسايرة إلى الخضوع :

المصرى لا يميل إلى التصلب أو العناد بل هو أقرب للمرونة والمطاوعة , وربما يؤكد هذه الصفات انتشار كلمة " ماشى " على ألسنة المصريين , وهى تعنى ميلهم الغالب للموافقة , حتى ولو كانت لديهم بعض التحفظات فهم دائما قادرون على التجاوز والتساهل والتنازل . وفى مجلس الشعب الذى يفترض فيه المناقشان والإعتراضات والتحفظات على قرارات الحكومة , إلا أننا نجد أن كلمة موافقة هى السائدة طول الوقت تقريبا على لسان رئيس المجلس ( حتى أصبحت مثارا للعجب والتهكم فى الصحف والمجلات ) وأحيانا يقولها رئيس المجلس دون أن يدقق فى عدد الموافقين والمعترضين , وكأنه يعلم أن عدم الموافقة غير وارد بالمرة .  وصفة المرونة والمطاوعة كثيرا ما تتحول إلى حالة من المسايرة حيث يلغى الشخص خياراته لحساب الآخر خداعا ( خذه على قد عقله ) , أو تكيفا ( اربط الحمار مطرح ما يعوز صاحبه ) أو يأسا وضعفا ( هو احنا ها نغير الكون ) ( ما يقدر على القدره إلا اللى خالقها ) أو سعيا نحو الراحة السلبية ( كبّر ) ... ( نفّض ) .... ( فوّت ) ..... ( طنّش ) .... ( عدّيها ) . وإذا زادت الضغوط

( خاصة إذا كانت تحمل بصمة سلطوية ) فإن خيار الخضوع – لا المواجهة – يصبح أكثر احتمالا , والخضوع هنا يلبس مسوح الحكمة أو تقدير الظروف , أو الحفاظ على لقمة العيش , أو تربية العيال . وأحيانا يلبس الخضوع رداءا دينيا . وفى مرحلة تالية قد يتبنى الشخص المطيع أو المساير أو الخاضع خيارات المتحكم فيه ويقنع نفسه بوجاهتها وأهليتها للإتباع , وهذا ما يطلق عليه : " التوحد مع المعتدى " , فنجد المصرى يبرر آراء المستبدين به ويتبناها وربما يروج لها , ولا ينجو من هذا المصير غير أصحاب البصيرة القوية ومن لديهم القدرة على الفكر النقدى بعيدا عن الإنزلاقات الدفاعية أو التحيزات الوجدانية .

4 - من حب الإستقرار إلى الجمود :

لقد فرض نهر النيل وما أرساه من طبيعة زراعية مستقرة على شاطئيه حالة من الإستقرار المعيشى جعلت المصريين يميلون للمحافظة عليها والتمسك بها حتى أصبحت هذه الحالة جزءا من سماتهم الأصيلة لقرون طويلة حتى تحولت مع الوقت إلى حالة من فرط الإستقرار , وفى كثير من الأوقات إلى حالة من الجمود , على اعتبار أنه " ليس بالإمكان أبدع مما كان " ......... " اللى نعرفه أحسن من اللى ما نعرفوش " ..... " من فات قديمه تاه " ...... " من طلع من داره اتقل مقداره " . وسمة الإستقرار ( التى تحولت إلى فرط الإستقرار ثم إلى الجمود) تحظى بحفاوة وتشجيع ممن حكموا مصر على مر العصور , وهم يجعلونها مصدرا للفخر لدى شعوبهم , لأنها فى النهالية تصب فى مصلحة الحاكم الذى يريد أن تبقى الأوضاع على ماهى عليه .

5 - من الصبر إلى الرضى بأقل القليل إلى قلة الحيلة إلى التسليم :

يعتبر الصبر أحد السمات الواضحة فى الشخصية المصرية , والصبر هو احتمال الشئ الصعب على مضض , وهو لدى المصرى مرتبط بالمفاهيم والتصورات الدينية التى تعلى من قيمة الصبر وتعد الصابرون بالجنة " فاصبر صبرا جميلا " ..... ومرتبط أيضا بالبيئة الزراعية التى تعودت أن تضع البذرة وتنتظر النتيجة بعد شهور عديدة ويصبح الإنتظار حتميا حين لا يكون بالإمكان تعجل الحصاد , ويصبح الوقت متمددا مرتخيا , ويصبح إيقاع الزمن بطيئا , ولهذا تتعود النفس على التحمل والإنتظار , وبطء الإيقاع دون تذمر أو ثورة . وإذا كان الصبر هو التحمل وضبط النفس على مضض فإن الإنسان المصرى يتحول مع طول الصبر إلى حالة من الرضا قد يسعى إليها سعيا أو يضطر إليها اضطرارا ,.

وشيئا فشيئا يتحول الصبر إلى صبر سلبى يعانى منه المصريون دون أن يفعلوا شيئا لتغيير واقعهم , ثم يتحولون إلى حالة من الرضى بالفتات يفقدوا معها الدافع للنمو والحركة والتطور , ثم يصلوا إلى حالة من قلة الحيلة وفقد القدرة على التغيير تنتهى بحالة من التسليم أو الإستسلام للأمر الواقع .

وقد يكون الصبر السلبى وقلة الحيلة والإستسلام للأمر الواقع , دفاعا ضد الشعور بالمسئولية تجاه الواقع المؤلم ومحاولة تغييره , حيث تعطى هذه المفاهيم فرصة للشخصية أن تسترخى وتستسلم تحت وهم مبادئ برّاقة خاصة إذا أخذت قيمة دينية هامة , وفى هذه الحالة لا يفطن الشخص إلى الفروق بين الصبر الإيجابى المسئول وبين الصبر السلبى المستسلم والمتواكل .   

6 - من المرح إلى الفوضى :

رغم الحزن الكامن فى أعماق الشخصية المصرية والذى تؤكده كثير من عادات وطقوس وأدبيات المصريين خاصة فيما يختص بالموت وفراق الأحباب والأحزان الممتدة ( الخميس والأربعين والسنوية , والطقوس والأدبيات الجنائزية , والتعديد على الموتى وذكرهم لسنوات طويلة , والمواويل المصرية الحزينة على صوت الناى الأشد حزنا ) , إلا أننا لايمكننا تجاهل مظاهر الفرح أيضا لدى المصريين , وربما يكون للفرح تاريخا طويلا مع المصريين فهم تعودوا الإحتفال بأعياد الحصاد , وتعودوا الإحتفال بالنيل كل عام , وتعودوا الإحتفال بمولد ملوكهم , وتعودوا الإحتفال بأفراح زواجهم , وغيرها من المناسبات المتعددة , ولهم طرائق متعددة فى كل احتفال تدل على ولعهم بالفرح والمرح بشكل لافت للنظر إذا ما قورنوا بشعوب أخرى لا تملك هذا التعبير الواضح للفرح فى مناسبات كثيرة . وقد يكون  المرح لدى المصريين هو الوجه الآخر والطبيعى المواجه والمعادل للحزن فى هذه الشخصية ( وفى الإنسان عموما ) , وقد يكون رد فعل أو تكوين عكسى   ( Reaction Formation )على الحزن الكامن فى الأعماق . وحين يتحول المرح إلى صخب ( كما هو الحال فى الأفراح والموالد وكل المناسبات ) فإن هذا يؤكد فكرة رد الفعل أو التكوين العكسى , وكأن المصرى يحاول أن يبالغ فى فرحه ليهرب من الحزن الكامن بداخله .  

وشيئا فشيئا يتحول المرح إلى فوضى حيث تنطلق الميكروفونات بالأغانى والموسيقى فى كل فرح وفى كل قهوة أو كافيتريا , وفى كل رحلة أو معسكر , وفى كل نادى أو باخرة نيلية , دون اعتبار لعوامل الراحة أو الهدوء لبقية الناس , فمظاهر الفرح تفرض على الجميع قهرا وقسرا بأشكالها المعتدلة والفجة على السواء .

7 - من حب الحياة الراحة و الكسل :

لا شك أن المصريون شعب محب للحياة , وقد ترسخ لديهم هذا الشعور كنتيجة لعطاء الله عليهم من خيرات جاءت مع فيضان النيل , فعاشوا يمرحون على ضفافه ويستمتعون بخيراته , وسط بيئة خضراء , وطبيعة معتدلة , كل ذلك أعطاهم فرصة لممارسة الرياضات المختلفة , وإنتاج الفنون الجميلة والإستمتاع بها , وكانت طبيعة الحياة فى كثير من العصور تدعو إلى الراحة والرفاهية والترف , فماء النيل يروى الأرض بجهد بسيط ومحتمل , والأرض خصبة تجود بالخيرات , والطبيعة سمحة ومعتدلة وهادئة , والإستقرار شبه دائم .

هذا الأمن الغذائى والإعتدال البيئى أعطى فرصة للشعور بالراحة الذى يصل فى بعض الأحيان إلى حالة من الطمأنينة الزائدة التى تدعو إلى الكسل والتراخى .

                       

أخبار متعلقة :