بوابة صوت بلادى بأمريكا

حسنى حنا يكتب: الشاعر أحمد الصافي النجفي ... غربة الفكر والروح

"الصافي أكبر شعراء العربية"

*عباس محمود العقاد

 

أحمد الصافي النجفي باسمه الكبير المعروف، شاعر فذ، يفلسف الحياة بشعره، أو هي الحياة على علانها تفلسف شعره، على فيض من الأخيلة المستظرفة، والصور الحياتية المتجددة، والعطاءات الجمة من دواوين الشعر. إضافة الى الترجمة الأمينة الموفقة لرباعيات الشاعر عمر الخيام، التي ترجمها عن الفارسية إضافة إلى الكثير الكثير من القصائد الوجدانية والغزلية والتصويرية المخطوطة التي كان قد أعدها للنشر.

وقد رغبت أن تكون هذه المقالة إطلالة عابرة، أقدم فيها ملامح من شعره في غزلياته وبعض طرائفه...

لقد قدر لي أن ألتقي بهذا الشاعر في مدينة دمشق أكثر من مرة منذ زمن بعيد، في مقهى الهافانا الشهير بدمشق، والقريب من ساحة المرجة الشهيرة. وكنت آنذاك طالباً في كلية الآداب بجامعة دمشق في مطلع الستينات من القرن الماضي. وكان مقهى الهافانا ومقهى الكمال ومقهى الروضة، ضالة شاعرنا في دمشق وكان ينتج عن حضور الشاعر، حضور الكثير من الزبائن. خاصة من الأدباء والشعراء والفنانين وغيرهم. الذين كانوا يجالسونه، ويحتسون كؤوس الشاي. وعلى هذا كان صاحب المقهى يحسب رزقه!..

ملامح من حياته وشعره

ولد الشاعر الكبير أحمد الصافي النجفي، في مدينة النجف في العراق، في العام (1897) وتوفي في مدينة بغداد في شهر حزيران من عام (1977) وعاش متنقلاً بين إيران وسوريا ولبنان ولكنه أمضى سحابة عمره في سوريا، وأتخذ من مدينة دمشق وطناً أخيراً له. وفي دمشق نعم شاعرنا بالصحبة الحسنة، والشهرة الواسعة. وفي دمشق غداً سعيداً بحياته المستقرة. أما في بيروت فلم يسعد الشاعر بصخبها وبهارجها ومظاهر التغريب فيها.

عاش الشاعر النجفي سنوات طويلة في الغربة. وكانت غربة الشاعر بعضها اختياري، وبعضها جبري. وقد عانى في حياته الكثير من المفارقات. ففي دمشق عاش الشاعر في غرفة بالية، بالقرب من سوق الحميدية في وسط دمشق. ليس بينها وبين القبر فارق. غير أنها كانت فوق الأرض. وهكذا كان الأمر في بيروت!...

إختلط شعر الصافي بحياته، وكان بدايته ونهايته وهو القائل:

مقامي بين فلسفة وشعر..... فأيهما أتابع لست أدري

ولي روح بظرف أبي نواس..... ولكن في وقاري كالمعري.

وكان الشاعر قليل الدخل، لكنه كان أبي النفس، لم يحاول يوماً أن ينسكب بشعره وان يقف على ابواب أصحاب السلطة أو المال وهوالذي قال:

"... وشعري ما اشتراه الملوك والأمراء"!.. وهو القائل أيضاً حين عرض عليه أحدهم المال من أجل مدح أحد الأمراء العرب ورفض:

"وأمير رام أن أمدحه..... أنا احتاج لمن يمدحني"!

وقال شاعرنا عن مدينة النجف التي ولد فيها. وهي مركز ديني هام في العراق. حيث توجد المدارس والمعاهد الدينية الكثيرة والتي يرغب العديد من الناس أن يدفنوا فيها، لقيمتها الدينية عندهم. وقد قال في ذلك:

"فصادرات بلدتي مشايخ..... وواردات بلدي جنائز"!

أحب الشاعر مدينة دمشق، التي كانت في يوم من الأيام (عاصمة الدنيا) كما قال عنها الشاعر سعيد عقل، وغنت فيروز، وفي دمشق قال:

أتيت جلق مجتازاً على عجل..... وأعجبتني حتى اخترتها وطنا

لايبرح الحسن يوماً عن مرابعها..... كأنما الحسن من قدم بها فتنا

وقد بقي الشاعر على لباس الكوفية والعقال والدشداشة لباساً عربياً ومات عازباً، كما مات من قبله الجاحظ وأبو العلاء المعري.

ولم يهتم يوماً بمظهره الخارجي وهندامه. بل كان يعتز برجاحة عقله.

 

 

الشاعر في غزلياته

يقول شاعرنا: إسمحوا لي أت أباهي بلون الغزل في شعري، واسمحوا لي كذلك أن أعتز به.... حقيقة أن غزليات الشاعر النجفي، تكاد بتفردها وخفة روحها، تفوق عطاءات الكثيرين من شعراء الغزل. وفي قصيدة غزلية، نسمعه يتغنى في مطلعها بمشية الحبيب:

يزهو اختيالاً كلما أرنو له..... فيكاد يبدي السكر في خطواته

وإذ تأتي المحبوبة بباقة من الورد العابقة بالشذى، هدية متواضعة. نسمع الشاعر وهو يرد الهدية بأحسن منها:

أهديتني ياحبيبتي      ورداً كوجنة خدك

فكلما غبت عني       قبلت وجنة وردك

ويروي الشاعر شيئاً في خصوصياته ، فقد أنشد في فاتنة مثقفة بعيدة الديار، كانت قد أهدته كتاباً من وضعها:

ياجميلاً أهدي إلي كتاباً     حافلاً مثله بكل جميل

اسمك الحلو في كتابك هذا     كاد يمحي من كثرة التقبيل

فهل ثمة ماهو أرق من هذا الوصف، وماهو أدق من هذا المعنى!.

وعندما نمعن النظر في مزيد من الإصغاء تطالعنا صورة آخرى من صورة الجميلة لغانية كثر محبوها وعشاقها.

ياثروة الروح والمنظر      ويا ثروة في يدي معسر

جعلت قلبك للعاشقين     مساكن بالعد لم تحصر

أفتش قلبك هل ألتقي     بزواية فيه لم تؤجر

وعندما أهدى الشاعر أحد دواوينه إلى احدى الجميلات قال:

أهديت ديواني لغانية     فغداً يقبل كفها لثما

فاستغرقت فيه وهام بها     وغدا يشم أريجها شما

هيهات تفلت من يدي أبداً     ديوان شعري ضمها ضما

هذا سحر في شعر، وشعر في سحر,لايحتاج الى مزيد من البراهين!

 

الشاعر في بعض طرائفه

من طرائف الصافي أنه ذهب يوماً الى الحلاق، من أجل قص لحيته التي طالت واستطالت، وجعلته يبدو دميماً، وقد نفر منها الناس قال:

ذهبت الى الحلاق يوماً بلحية     كلحية شيخ أو كلحية خوري

ولما رأيت الوجه زاد دمامة     بها، وأغتدت منها الورى بنفور

مضيت الى الحلاق أطلب قصها     وتخفيف شعر مثقل كشعوري

ويبدو أن الحلاق اجتث معظم لحيته، وعندما نظر الشاعر الى وجهه بالمرآة تالم كثيراً لدى رؤيته تجاعيد وجهه، التي كانت تخفيها لحيته!..

ويبدو أن شاعرنا كان يسخر من اللحى، وخاصة اللحى الكثيفة التي تغطي وجه صاحبها، وتزيده قبحاً، فتارة كان يشبهها بالمكنسة وتارة أخرى بالمروحة. كما كان يسخر من الشعراء ذوي اللحى.

 

الشاعر ومادة الشعر والحياة

حين تقرأ للشاعر أحمد الصافي النجفي، فإننا نقرؤه في يسر وسهولة. فهو يشدنا الى آفاقه. وهو الذي كان نسيج وحده في مدرسة خاصة به ومعروف بها. ويؤكد ذلك شاعر العراق جميل صدقي الزهاوي عندما يقول:

إذا الشعر لم يهززك عند سماعه     فليس خليقاً أن يقال له شعر

وفي إحدى قصائد الصافي نراه ينبئنا أنه والشعر والدهر واحد:

أسجل شعر هذا الدهر نظماً     وأجلوه بكلنا صفحتيه

كأن الدهر فتش فاصطفاني     وأمرضني ووظفني لديه.

وشاعرنا لايؤمن بالشعر المنثور. الذي يرى فيه مضيعه للوقت:

تفلسف في أكتناه الشعر قوم    فضاع الوقت وامتد الطريق

ويعجبنا في شاعرنا احترامه لنفسه الأبية، التي يعتبرها أمانة أودعها الله في جنبات الشاعر.. الإنسان.. الحقيقي:

هذى الأمانة قد عييت بحملها     إن النفوس أمانة الخلاق

أوصلتها لليوم وهي سليمة    أأعافها عند القليل الباقي.

وفي هذين البيتين تجسيد جمالي موضوعي لحكمة السيد المسيح في قوله: "ماذا يستفيد الانسان. إذا ربح العالم وخسر نفسه"!.

والبشر عند الشاعر أهم من الحجر. فقد كان العرب هم وطن الشاعر في أي يلاد كانوا، وهو القائل:

إني امرؤ عربي للعلا نسبي     في أي أرض عرباً أرى وطناً

ويبدو أن الشاعر الصافي كان يحب البحر، وهو الذي كان كبيراً كالبحر في كثرة معانيه:

إذا البحر لم يلهمك فيه معانياً     فأنت غريب لايكلمك البحر

أرى البحر مثل الحسن ملكاً لشاعر     ولكن هذا الملك سراقه كثر!.

 

أعمال الشعر

ترك الشاعر الصافي تراثاً شعرياً خصباً، تمثل في دواوينه العديدة، التي تذكر منها: الأمواج (1932) أشعة ملونة (1938) الأغوار (1944) ألحان اللهيب (1944) شرار (1950) اللفحات (1955) وقد صدرت له مجموعة شعرية هامة بعد رحيله بعنوان: (قصائي الأخيرة) إضافة إلى ترجمته الرئعة لرباعيات الخيام (1934) وقد أمضى في ترجمتها عن الفارسية ثلاث سنوات كما ترجم الى جانب الرباعيات الكثير من الكتب والمؤلفات.

 

وفاة الشاعر

توفي الشاعر أحمد الصافي النجفي عن عمر ناهز الثمانين عاماً. بعد إصابته برصاص قناص في بيروت، خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية في العام (1976) وقد تم نقله الى مدينة بغداد للعلاج حيث توفي هناك بعد حين.

وقد أرخ لحياته كثيرون، لعل من أهمهم د.ابراهيم العاني في كتابه:

(أحمد الصافي النجفي.. غربة الروح ووهج الإبداع).

لقد كانت حياة الصافي كلها في بساطة وقناعة مابعدها قناعة. وأشعاره غنية بالصور ونفسه عامرة بالثقة والاعتزاز بالنفس، طافحة بالأصالة وهو القائل:

ولي في الشعر مدرسة وشرع     وآيات تلوح ومعجزات

أعلمكم بشعري الشعر لكن     تعلمكم حياتي ما الحياة!.

لم يحظ الشاعر بالتكريم الذي يتحقه إذ لم نسمع بشارع كبير يحمل اسمه ولا بمدرسة تحمل رسمه.ألتقي

أخبار متعلقة :