بوابة صوت بلادى بأمريكا

حسنى حنا يكتب: جزيرة أرواد.. جوهرة الساحل السوري (3)

 

"لقد كانت بلادي شراعاً وستبقى"

*الشاعر يوسف الخال

 

أرواد في السياسة الدولية

كان لمملكة أرواد سياسة دولية، لاتتفق دائماً مع ممالك الجنوب كجبيل وصيدا وصور ، ولايزال للجغرافيا، السهم الأوفر في توجيه السياسة الدولية وتطوير حوادث التاريخ. وقد كانت الممالك الفينيقية توالي المصريين غالباً على غزاة الشرق والشمال. وكانت أرواد تراعي مصلحتها الخاصة، فتتحد مالك الشمال على المصريين.

 

العلاقة مع المصريين

لم تنج أرواد من قبضة فرعون مصر تحوتمس الثالث في القرن (15 ق.م)، وذلك في حملته الخامسة على الدويلات الكنعانية. فأحكم قبضته على السهل الفينيقي الخصيب. المعروف اليوم بسهل عكار. وذكر في بيانه الحربي الرسمي الذي أعلن فيه سقوط الجزيرة العبارات التالية:

"انظر.. إن جلالته قهر مدينة أرواد، ومافيها من قمح. وقطع جميع أشجارها الجميلة.. لقد كانت جنائنهم ملأى بثمارها، وخمورهم كالمياه الجارية وحبوبهم أكثر من رمال الساحل"!.

وقد سجل تحوتمس انتصاراته على جدران معبده في طيبة. وذكر أسماء المدن التي احتلها والغنائم التي حملها معه. لكن أرواد لم تنحن أمام جيوش فرعون مصر رمسيس الثاني، كما فعلت المدن الفينيقية الأخرى في الجنوب. بل بلغ الأمر بالأرواديين أن تحالفوا مع أعداء مصر. وفي معركة قادش الكبرى عام (1295 ق.م) كانت كتائب أرواد تقاتل الى جانب الحثيين.

 

العلاقة مع الآشوريين

شهدت الحقبة ما بين عامي (1100- 650 ق.م) سيطرة النفوذ الآشوري على المنطقة وقد مال الأرواديون أحياناً، إلى محالفة الآشوريين. ويذكر آشور ناصر بال في سنة (876 ق.م) أن ملك أرواد قدم له الذهب والرصاص والبرونز والقماش والعاج. ولكن مالبث الأرواديون أن تحالفوا مع ملك دمشق سنة (854 ق.م) ضد الآشوريين. وقد انتصر الآشوريون على هذا التحالف في معركة (قرقر) الشهيرة بقيادة ملكهم سلمنصر.

ويفتخر تغلات فلاصر الثالث (734 ق.م) بأنه أخذ الجزية من جزيرة أرواد.

وبعد سنوات قليلة سخر سلمنصر الخامس أسطول أرواد ليساعده في حصار صور، وتشتد وطأة الآشوريين على أرواد فيخضع ملكها (ياكين لو) سنة (650 ق.م) للملك آشوري آشور بانيبال.

ومع اضمحلال الدولة الآشورية، حاول الفراعنة الاستيلاء على ارواد لكنهم فشلوا، وتحالفت أرواد مع البابليين منذ عام (604 ق.م) ثم مع الفرس عام (539 ق.م) فتعينهم بأسطولها في حروبهم ضد اليونان في معركة سلامين خاصة سنة (480 ق.م)

 

العصر اليوناني

في سنة (333 ق.م) وبعد معركة ايسوس، التي انتصر فيها الاسكندر المكدوني على داريوس ملك الفرس، خضع (ستراتون) ملك أرواد للجيش المكدوني الظافر، وقدم له قلعة سيغون (صهيون) ومريمين وقام الاسكندر بتسخير اسطول ارواد لمحاصرة مدينة صور.

وبعد وفاة الاسكندر واقتسام قواده امبراطوريته الفسيحة. شهدت مملكة أرواد وباقي الممالك الفينيقية على الساحل السوري شيئاً من الطمأنينة فأخذت تستعيد بعض مظاره استقلالها ضمن مملة السلوقيين المترامية الأطراف وكان لأرواد أن تستفيد من ذلك فجعلت ترمم أسطولها وتعزز طرق تجارتها.

ومع ظهور بوادر الانقسام في دولة السلوقيين منذ القرن الثاني قبل الميلاد ضعفت الروابط زظهرت الانقسامات في مملكة أرواد، فثارت مدينة عمريت المجاورة على امها أرواد. وهذا ما أدى الى خراب عمريت بتمامها سنة (143 ق.م) وبدأت المملكة بالتأخر المتتابع حتى دخول الرومان سوريا.

 

أرواد في العصر الروماني

أصبحت سوريا ولاية رومانية من عام (64 ق.م) حيث دخلتها الجيوش الرومانية بقيادة (بومبي) وظهرت للوجود مدن جديدة كانت أرواد قد أنشأتها تجاهها على الساحل، وقد دعيت أنتارادوس أي (المقابلة أرادوس).

وقد تأثرت أرواد بحضارات الشعوب الأخرى كالآشوريين واليونان والرومان، فارتفعت دورها حتى خمسة او ستة طوابق، تبرز بالزخارف الرائعة، والتماثيل الرشيقة. على جمال التوازن في صفاء الرخام وصلابة الغرانيت. وكان على رصيفها المستطيل الدائر بالمرفأ كله أروع مظاهر الفن الفينيقي، المتأثر بخصائص الهللينية. وتقول مريام هاري: "إن الفن الأغريقي شاهد نمو في أرواد. لم يعرفه في أي مكان فينيقي آخر".

وقد قامت في هذا العصر المعابد الفخمة في الجزيرة وعلى الساحل وفي الجبال. وقامت الحصون المنيعة والأروقة والقناطرة والتماثيل والحمامات والملاعب، وسائر المنشآت العامة. كلها مظاهر للاستقلال السياسي والازدهار الاقتصادي والنهضة العمرانية وازدهار الثقافة.

وكان لأرواد هيكل عظيم في الجبل على نحو ثلاثين كيلومتراً شرقي الجزيرة هو هيكل (بيتوكيكي) المائلة آثاره الى اليوم ومعروفة باسم (حصن سليمان) وكان هذا الهيكل مزاراً يؤمه سكان الجزيرة وسائر أنحاء المملكة.

ويبزغ فجر المسيحية ويتواتر التقليد أن (القديس بطرس) بنفسه وصل الى أرواد فبشر سكانها ونقلهم الى الدين المسيحي.

وفي التاريخ البيزنطي لايوجد مايميز أرواد بأحداث خاصة إلا ماعرف من أنها تتابع أزدهارها. واهميتها زمن الحروب، نظراً لموقعها الجغرافي ومناعة أسوارها. فتحول جهتها أنظار الفارين وطموح الفاتحين.

 

 

أرواد والفتح العربي

رأى معاوية بن أبي سفيان (661- 680م) أنه مادام البحر المتوسط في يد البيزنطيين والجزر مرافئ للأسطول البيزنطي فالبحر في يدهم فقام على اثر غزوة قبرص (649م) يحاصر جزيرة أرواد إلا أن مناعة أسوارها. ومقاومة أهلها، وأشتداد العواصف في ذلك الشتاء حالت بينه وبين فتحها، فتراجع عنها.

لكن في السنة التالية عاد إليها بأوفر عدة، وشدد عليها الحصار حتى استسلم أهلها بشرط أن تعطي لهم الحرية في الذهاب أينما شاؤوا فدخلتها عساكره وأحرقتها ودكت أسوارها، وعطلت ميناءها.

وجزيرة أرواد مثل جزر كثيرة في البحر المتوسط، تناوب في السيطرة عليها العرب والبيزنطيون مرات عديدة، فأصابها بذلك الكثير من الخراب.

وظلت أرواد تحتال على الحياة. وقد فقدت ماكان لها من أهمية بفقد حصونها وتبدو سكانها فأخذت اهميتها تتضاءل يوماً بعد يوم.

 

 

عصر الفرنج

تميز هذا العصر، الذي بدأ في القرن الثاني عشر للميلاد. بأنه زمن حروب وغزوات برية وبحرية. وكانت أرواد تستعيد دورها الهام دائماً في حالة الحروب.

احتلها الفرنج في مطلع القرن الثاني عشر. فشادوا فيها قلعتين منيعتين، وأقاموا أسوارها من جديد، وعادت المراكب التجارية الى مرفأ الجزيرة من شواطئ المتوسط الشرقية والغربية وتكاثر عدد سكانها.

وتتوالى الحروب بين الفرنج والعرب. وتتفكك الممالك والامارات الفرنجية واحدة بعد أخرى. وتسقط القلاع في أيدي الأيوبيين قلعة إثر قلعة. وتكون الجزيرة المنيعة من آخر المعاقل القائمة، فتسقط بيد المماليك سنة (1302م) بعد سقوط طرطوس. وتشهد خراباً جديداً، ودكاً لأسوارها، ومن المعروف أنه باستيلاء السلطان الخليل بن قلاوون على حصن عكا سنة (1292) وبعض المدن الساحلية انتهت دولة الفرنج في بلاد الشام. فأتخذ الفرنج من جزيرة أرواد مقراً لهم. وبنوا لأنفسهم سوراً عظيماً، يتحصنون فيه من الغزاة. ولكن بسقوط الجزيرة بيد العرب سنة (1302م) قتل العرب وأسروا جميع اهلها وخربوا أسوارها.

 

أرواد في العهد العثماني

في عام (1516) انتصر العثمانيون على المماليك في معركة مرج دابق وفتحت لهم أبواب سوريا. وقد شهدت جزيرة أرواد في هذا العهد، كما سائر بلاد الشام، تراجعاً كبيراً في كافة النواحي، وقل عدد سكانها حتى أصبحت شبه مهجورة.

وقد تحدث عنها المعلم بطرس البستاني في دائرة المعارف (1877م) قال: "فيها كثير من أبنية الفينيقيين من قلاع وأسوار متينة، لاتزال آثارها الى الآن. وقد مد من طرفيها حيطان منيعة في البحر، فحصل من ذلك مرسى أمين وليس فيها ماء، إلا مايجمع في الابار من ماء المطر". ثم يقول "وقد صارت أرادوس الآن، بعد تلك الشهرة والأهمية ملجأ لطير البحر عند اشتداد الأنواء".

وتحدث عنها الأب مارتين اليسوعي قال:

"إن هذه الجزيرة، التي تبعد عن البر نحو ألفي متر لم تكن الا أرضاً ذات صخور لانبات فيها".

وتقع الحرب العالمية الأولى، ويحتل الفرنسيون الجزيرة، وفي أول أيلول من عام (1915) وغدت الجزيرة موقعاً حربياً خطيراً. وسهماً مسدداً. نحو مراكز العثمانيين، وحلفائهم الألمان على الساحل السوري المجاور. وكانت الجزيرة تتعرض للخطر. إذا ماقذفتها مدافع الشطوط بحممها المدمرة وهذا ماحصل وفي شهر تشرين الثاني من عام (1917) قذف الألمان من طرطوس بمدافعهم الجزيرة، فأضطر الفرنسيون الى اخلائها. وذهبوا هم وكل من كان فيها الى قبرص ولم يعد سكانها إليها إلا بعد انتهاء الحرب.

 

أرواد في عهد الانتداب الفرنسي

احتل الفرنسيون أرواد بعد أن حاصرتها البارجة الفرنسية (جان دارك) وكلفت فرنسا الضابط (دي لاروش) بإحتلال منطقة الساحل السوري، وقد وصل فعلاً في 3 تشرين الأول من عام (1918) على ظهر باخرة الى أرواد كما وصل الى الاذقية في 5 تشرين الثاني واستلم منصبه كحاكم عام للمنطقة.

وقد ظلت أرواد تحت الحكم الفرنسي حتى أستقلال سوريا والجلاء عام (1946).

 

أرواد في كتابات الرحالة

زار جزيرة أرواد ومازال يزورها الى اليوم العديد من الرحالة، بسبب موقعها الفريد، وأهميتها التاريخية والسياحية، وقد كتب عنها الكثيرون ومن ذلك ماكتبه عنها الرحالة الفرنسي الشهير (فولني) الذي مر بالساحل السوري (1775): "إنها طلل داثرة لاعمران فيه، وبأنها جزيرة مقفرة خالية".

أما المعلم بطرس البستاني فقد قدر عدد سكانها عام (1877) بنحو ثلاثة آلاف وكتب عنها الرحالة والطبيب الفرنسي (د.لورتيه) عام (1880):

"أما جزيرة أرواد فتكاد تكون هذه الأيام غير مأهولة وتعاني من الجفاف وقلة الماء. بينما كانت في الماضي مقراً لمملكة فينيقية قوية ومزدهرة، ترسل مراكبها التجارية الى جميع موانئ البحر المتوسط"!

وقال عنها المستشرق الأمريكي (فان دايك) في أواخر القرن التاسع عشر:

"وأهلها الان قلائل، وأكثر أعمالهم في البحر والمواشي وأهلها القدماء كانوا مشتهرين في المعرفة بسلوك البحر"

ووصفها أحد الرحالة الأوروبيين في مطلع القرن العشرين بقوله: "أرواد تبدو كآخر بلدة فينيقية، كما كانت المدن الفينيقية الكبرى مثل صيدا وصور، وجبيل وأوغاريت في غابر العصور. تبني المراكب الشراعية وترسل برجالها الى أعالي البحار".

ويروي فؤاد أفرام البستاني عن أرواد في كتابه (رحلة الموازيك في سيارة بويك) وكان قد زارها في عام (1950) مايلي:

"هذه درة البحر، تسمو ببناياتها البيض على زرقة الأمواج فتشع لمحات تحت الأضواء المتسللة خلل الغمام، ويمنطقها الزبد المتطاير على بقايا السور الجبار، يتناهى بياضه الباهت على صدأ العصور، مغلفاً احمرار الحجر الرملي حتى يتلاشى في دكنة المياه، عاكسة تلبد الغيوم من الشرق الجنوبي".

هذه حكاية جزيرة أرواد عبر العصور، قدمناها في ثلاثة أقسام أوجزنا فيها قدر المستطاع ، لتاريخ يتسع لمئات الصفحات.

 

أخبار متعلقة :