"للأسطورة وظيفة اجتماعية شاملة ولايجوز الانتقاص من أثرها في المجتمع"!..
*مارسيل موس M.Mause
لقد استيقظت الأساطير عند الأمم والشعوب، وسايرت التاريخ. وكثيراً مانجد في الأسطورة، حكمة العصور الماضية، معبراً عنها بلغة خاصة، هي لغة الرموز. ولم تعد الأسطورة حكاية من الحكايات. بل أصبحت تأملاً في موضوع بذاته. وفي حدث معين. وهي بلا شك، شكل من أشكال التجربة الانسانية.
وفي هذا القسم الثالث والأخير، نتابع الحديث عن أساطير وملاحم الساحل السوري:
اسطورة دافني Daphne
مسرح أحداث هذه الأسطورة، هو منطقة الغابات والشلالات والينابيع الرائعة، التي تقع الى الجنوب من مدنية أنطاكية، على بعد نحو عشرة كيلومترات، والتي يطلق عليها اليوم اسم (الحربيات).
أبطال هذه الأسطورة هم: الفتاة الرائعة الحسن والجمال (دافني) ابنة إله النهر بينيوس و(أبوللو Apollo) اله الفن والشعر والموسيقى و (ايروس Eros) أو )كيوبيد Cupid) اله الحب.
سدد (إيروس) السهم الثاني من سهام الحب، التي يحملها في كنانته الى (دافني) على حين رمى (ابوللو) بالسهم الأول. فإذا (أبوللو) قد هام حباً، وإذا (دافني) تفر هاربة الى الغابات، حين أبت أن تستجيب للحب. وما أن أحست متابعة (أبوللو) لها ،حتى ولت الأدبار، بسرعة الريح، ولم تلبث لحظة، لتستمع إلى توسلاته، بل خلفته حيث هو، وعبثت الريح بثوبها، فجعلته يلتصق بجسدها، فيكشف عن مفاتنها، كما عبث بشعرها، فإذا شعرها يتهدل متموجاً. وإذا هي بهذا وذاك، تبدو آية في الجمال!..
ولم يقتنع الاله الشاب. فدفعه الهوى، الى أن يسرع خطاه ويطاردها، وإذا هما يعدوان، كل يريد تحقيق هدفه. العذراء يحدوها الأمل في أن تنجو، والاله يملؤه الخوف من أن يخفق. وإذا هي تكل ولاتقوى على العدو.
فتقع خائرة القوى، الى جانب مياه النهر، والدها (بينيوس) فصرخت تستنجد به، كي يمسخ جمالها، الذي آثار الاعجاب بها في قلوب الجميع.
وما أن أتمت كلماتها، حتى استرخت، وإذا صدرها قد استحال الى جذع شجرة، واذا شعرها أوراقاً، وإذا ذراعاها أغصاناً، وإذا قدماها جذوراً. وإذا وجهها قمة تلك الشجرة. ولكنها على هذا بدت رائعة. ولم يثن هذا (أبوللو) عن حبه لها. فأخذ يحتضن الأغصان، ويشبع الشجرة بقبلاته وهو يقول:
"إذا كان ثمة مايحول بيني وبينك. وبين أن تكوني لي، رفيقة في حياتي، فابق لي كما أنت، أهيم بها واطوف، ولسوف اجعل اغصانك، تيجاناً لهامات المحاربين. وفي مواكب النصر. وستظل أغصانك تجللها الخضرة، التي لن يعتورها ذبول"!..
وكانت تلك الشجرة هي شجرة (الغار Laurel) ذات الاوراق العطرة.
أسطورتان من أرواد
تبدو جزيرة أرواد على الساحل السوري، كآخر بلدة فينيقية، كما كانت أخواتها في غابر العصور. تبني المراكب، وترسل برجالها الى أعالي البحار وهناك أسطورتان تتحدثان عن جزيرة أرواد.. كيف نشأت أرواد.. كيف تمددت فوق بساطها الأزرق، هذه الصبية الجميلة، التي تبدو كلوحة رائعة، رسمتها الطبيعة في زرقة المياه؟!...
-تقول اولادهما:
أن صياداً شاباً ركب البحر في طلب الرزق، ومرت الأيام فلم يرجع.. فقلقت عليه خطيبته الحسناء، وراحت تسأل عنه كل غاد ورائح، حتى التقت برفيق له، أنبأها أنه ذهب ضحية جنيات البحر، فقد أحطن ذات يوم بمركبه، وأخذن يتجاذبنه حتى غرق..
ولكن الفتاة المسكينة لم تصدق، وأخذت تبتهل الى الآلهة، أن تعيد إليها حبيبها.. ومضت الأيام، وهي تندب حظها، وتنشد أغاني الحنين، وتنتظر الغائب، الذي لايعود!..
وكان الشاب أسيراً لدى عرائس البحر الماجنات. فسمعت ملكتهن، بحزن الخطيبة المسكينة ولهفتها، فرقت لحالها، وبعثت لها مع طير الماء رسالة تقول فيها: "إن غائبها سيعود اليها قريباً".
ثم طلبت الملكة من إله البحر، أن يصنع للخطيبين مكاناً يلجأن إليه، في أمن من حادثات الزمن، فصنع الاله جزيرة ليس في غير بلاد الاحلام أجمل منها ومن موقعها، فكانت "جزيرة أرواد"!..
أما الأسطورة الثانية فتروي:
إن (أرواد) كانت ابنة شرعية للاله (بعل) إله اليابسة، وقد قام بينه وبين (يم) اله البحر صراع طويل، أعجبت خلاله (أرواد) بنت (بعل) بـ (يم) الاله الشاب القوي، فهربت إليه، وارتمت بين أحضانه مؤثرة البقاء عنده الى الأبد. ومازال أبوها (بعل) يناديها إليه، وسوف يظل يناديها الى النهاية، وهي لاتجيب!..
أسطورة ملقارت
تقول هذه السطورة أن (ملقارت) هو الذي قهر المضيق، بين البحر المتوسط، والمحيط الأطلنطي . وهي تحمل معنى بالغ الأهمية، ذلك أن إسناد مايسمى (أعمدة هرقل) أو (مضيق جبل طارق) وفتح الطريق البحرية، صوب المحيط الأطلنطي، إلى اله فينينقي إنما يعني أن هذا الطريق قد اكتشفها، وسيطر عليها البحارة الكنعانيون (الفينيقيون).
ومن خلال هذه الأسطورة، ترتسم لنا حقيقة أمر واقع. وهو أن (طريق ) (القصدير) قد فتحه الكنعانيون، بين الساحل السوري وشواطئ المتوسط وصولاً الى بريطانيا وسيطروا عليه. إذ كان معدن القصدير ، خلال عصر البرونز، هاماً جداً وضرورياً لصنع السبائك، والأدوات البرونزية. التي اشتهر الكنعانيون بصنعها والمتاجرة بها. وفي متحف اللاذقية نشاهد قالب صب السبائك البرونزية، الذي تم الكشف عنه، في موقع (رأس ابن هاني) وهو قالب الصب الوحيد، المكتشف في العالم الى اليوم!..
أسطورة لون الارجوان
إن العديد من الأساطير السورية، قد انتقلت الى اليونان، حتى ظن البعض أنها أساطير يونانية!..
تقول هذه الأسطورة، أن اكتشاف لون الارجوان، يعود الى أميرة سورية تدعى (تيروس) وقع في حبها (هيراكليس ابن الاله زيوس) وذات يوم. بينما كانت تتجول على الشاطئ، وبرفقتها كلبها. فإذا بها ترى لوناً أحمراً غريباً، هو لون الارجوان، على فم كلبها. بعد أن تناول اللون الارجواني من صدفة Shell كانت على الشاطئ. فأعجبت الأميرة باللون، وطلبت من هيراكليس ، أن يحضر لها ثوباً. بلون الارجوان الذي شاهدته ، وإلا فإنها ستصده عن حبها، فقام هيراكليس بجمع الكثير من الأصداف، وأخذ منها لون الارجوان، وصنع وصبغ ثوباً جميلاً، قدمه لحبيبته الفاتنة (تيروس) وكان ذلك بداية اكتشاف لون الارجوان، وانتشاره في العالم.
اسطورة اكتشاف الزجاج
تقول الأسطورة أن بحاراً سورياً، بعد عودته من رحلة بحرية، أراد أن يطهو طعاماً. فصنع موقداً، على شاطئ البحر، فوق الرمال ووضع في الموقد ماوضع، حسب ماذكرت الأسطورة. فإذا به يشاهد مادة لزجة شفافة، تنساب من الموقد، فقام بابعادها عن النار. مما جعلها تتحول الى مادة صلبة شفافة، بعد أن تبردت. فأخذت الفكرة بطول الساحل السوري الشمالي. والتي عرفت بعد ذلك بمادة (الزجاج) ويشتهر الزجاج الكنعاني (الفينيقي) بأنه كان يقدم في العصور القديمة كهدايا للملوك.
اساطير الساحل السوري والعالم
ألهمت أساطير الساحل السوري الرسامين والمثالين والأدباء والشعراء، وكتاب المسرح والموسيقيين، الكثير من خير ما أبدعوه في الماضي والحاضر.
- في مجال الرسم والتصوير
استلهم اسطورة (اختطاف أوروبا) عدد من كبار الرسامين. منهم (فيرونيز) و (لوموان) و (أنجر) و (سيروف) وغيرهم.
واستلهم اسطورة (عشتار وأدونيس) عدد كبير من الرسامين أيضاً، منهم (فيرونيز) و (روبنز).
واستلهم اسطورة (دافني) الرسام (كاري) والرسام (لوسان) والمثال العظيم (برنيني).
استلهم اسطورة (اليسار) الرسامون (روبنز) و (بوسان) و (بوردون).
-في مجال الموسيقى والمسرح
استلهم أسطورة (دافني) الموسيقى الكبير (شتراوس) في تراجيديا موسيقية رائعة. كما استلهمها (جاكو بوبيري) في أوبرا موسيقية، وكذلك فعل الموسيقي (شوتز) واستلهم (عبد الحليم كركلا) أسطورة (اليسار) في عمل مسرحي كبير.
-في مجال الأدب
ذكر (هيرودوت) اسطورة (اوروبا وقدموس) في تاريخه الكبير، في القرن الخامس قبل الميلاد. وهو أول مؤرخ ذكر (سوريا Syria ) بالاسم، كما بين حدودها...
واستلهم الشاعر الروماني (أوفيد) العديد من الأساطير، ونظمها شعراً، وضمنها كتابه (التحولات Metamorphoses) ونظم شكسبير قصة (عشتار-فينوس) و (أدونيس) وهي من روائعه، وفيها أكثر من (300) بيت من الشعر، في وصف القبل وحدها!..
ونظم الشاعر الألماني (شفاب) أسطورة أوروبا. وضمنها في كتابه (أجمل الملاحم القديمة)!.. وقد نشرتها مجلة (فكر وفن) الألمانية معربة في العدد (48- 49).
ونظم الشاعر الفرنسي (لافونتين) قصيدة بعنوان (بكاء عشتار على أدونيس) ونظمت الشاعرة السورية (مناة الخير) ملامح من أساطير أوغاريت شعراً، ومنها قصيدة الالهة (عناة).
مما يستوقف النظرة أن الفرنسي (فيكتور بيرار) أكبر أخصائي في ملاحم الشاعر اليوناني القديم (هوميروس Homer) وكان قد وضع بضعة عشر مجلداً ليقول:
"إن هوميروس فينيقي، أو على الأقل متأثر بملاحم (أساطير) بحرية. وضعها فينيقيون".. وكان هوميروس قد دعا السوريين (شعب الآلهة) أو (حملة لغة الآلهة) تسمية يرجح أنه لا يطلقها، الا على بني قومه!..
وكان اليونانيون قد نصبوا (قدموسنا Cadmus) معلماً أول وأخته (أوروبا) زوجة لكبير آلهتهم (زيوس zeus) خالعة اسمها على قارتهم الحسناء (اوروبا Europa) و (هوميروس) هو أول من استعمل كلمة (فينيقيين Phoenicians) للدلالة على الكنعانيين. وكان يسمى (سوريا) (بلاد آرام).
وقد اصطلح الكنعانيون على أن حقول (إيل El) هي الجنة وليس لها مكان واضح (Camps Elysae) او (Champs Elysees) والجنة أو (جنة عدن) عبارة آرامية من (عادن) أي تمتع. فيصبح معنى العبارة (جنة عدن) هو (حديقة التمتع)!..
ان اروع مافي الفن، أنه يقول شيئاً، لاتقوله الحياة، ويرسم باللون او بالكلمة، وحتى بالحجر نور المعرفة!..
أخبار متعلقة :