بوابة صوت بلادى بأمريكا

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: الفيل والحمار وداحس والغبراء

 

ولأنني أكتب مقالا وليس رواية فلن أحتفظ بغموض العنوان للنهاية لاستدراج القارئ حتى يصل لانفراج العقدة ، وأيضا أعتذر لأنه عنوان " بهائمي " لأربعة حيوانات ولكن أيضا أقول إننا لا يجب الإقلال من القيمة البهائمية بعد أن تقاربت كثيرا من القيمة البشرية . بل لن أكون مخطئا إن قلت أن العقول البشرية في كثير من الأوقات انحدرت وتنحدر تحت مستوى العقل البهائمي ، والأمثلة كثيرة منذ العهود القديمة وحتى الآن واعتقد أنها ستظل للغد وبعد الغد وإلى النهاية ، لأن بعض العقول في لحظة ما تفر منها أو يتبخر كل ما يربطها بالفكر البشري ، وأعتقد أن الكثير من الجرائم البشرية التي ترتكب وتثير الدهشة في إسلوب أدائها وملابساتها تقول ذلك .
من العدل أن أوضح أولا لماذا لجأت إلى الرباعي البهائمي ليكون عنوانا لمقالي ، ومن ثم يجب أن أُعرف " بضم الألف " القارئ عليه أولا " أقصد العنوان "، من باب المعرفة ، فمن المؤكد أن البعض وخاصة الأجيال الحديثة لم تسمع عنه أو عن بعضه على الأقل ، ثم أطرح بعد ذلك الفكرة المقصودة منه التي قد تكون صائبة في نظر البعض وخاطئة في نظر البعض الآخر ، أو قد تكون صائبة في نظر الجميع لو طبقت على الأحداث . مع اقتراب الانتخابات الأمريكية سيقفز أمامنا اثنان منها " الفيل _ الحمار " ، الفيل الرمز الأثير للحزب الجمهوري  الأمريكي ، والحمار هو الرمز الأثير للحزب الديمقراطي الأمريكي، وما سأكتبه عنهما كلمات لتوضيح كيف جاءت هذه التسمية تاريخيا وليس لي الفضل في تأليفها لكنه اقتباس مما  كتب عنهما لأنني لم أكن قد ولدت بعد .
إذا كان الحمار في العالم العربي لا يحظى سوى بنظرات العطف والشفقة من قبل البعض وضربات العصا القاسية من البعض الآخر، فإنه في الولايات المتحدة تحول إلى أيقونة سياسية وعلامة تجارية تدر مئات الملايين من الدولارات. نعم، فالحمار الذي يتخذه الحزب الديمقراطي الأمريكي شعارا له ، تحول إلى رمز للثورة والتمرد منذ عقود طويلة . قصة الحمار مع الديمقراطيين بدأت سنة 1828 عندما اختار المرشح الديمقراطي لخوض سباق الرئاسة آنذاك " أندرو جاكسون " شعار «لنترك الشعب يحكم»، وسخر منافسه الجمهوري كثيرا من هذا الشعار ووصفه بأنه شعبوي ورخيص ، فما كان من جاكسون إلا أن اختار حمارا رمادي اللون جميل المظهر وألصق على ظهره شعار حملته الانتخابية وقاده وسط القرى والمدن المجاورة لمسكنه من أجل الدعاية لبرنامجه الإنتخابي «الشعبوي» ضد منافسه الذي كان يظهر على أنه نخبوي وليس قريبا من هموم الناس . إلا أن الحمار لم يتحول إلى رمز سياسي للحزب الديمقراطي بشكل واسع النطاق سوى سنة 1870، عندما عمد رسام الكاريكاتير" توماس ناست " الذي كان يعمل لصالح مجلة هاربر الأسبوعية إلى اختيار حمار أسود اللون «عنيد» كرمز للحزب الديمقراطي يتبارز مع فيل جمهوري مذعور. ومنذ ذلك الحين أصبح الديمقراطيون يفخرون بحمارهم ، بل ويدللونه عبر تنظيم مسابقات لرسم أفضل بورتريه للحمار الديمقراطي وإطلاق أفضل الشعارات السياسية التي يمكن أن ترافق صورته ، وقد ظهر هذا جليا في المؤتمر الأخير للديمقراطيين الذي انعقد بمدينة شارلوت بولاية نورث كارولينا حيث درت مبيعات القمصان والقبعات والنظارات الشمسية وعلاّقات المفاتيح وأقداح القهوة التي طبع عليها رسم الحمار الديمقراطي وهو في "مختلف الأوضاع " مئات الآلاف من الدولارات . أما الفيل الجمهوري الضخم !! ، فقصته تقول أنه خلال الإنتخابات الرئاسية التي جرت عام 1860 كانت الولايات المتحدة عبارة عن شبه قارة مقسمة بين الشمال والجنوب بسبب اختلاف الآراء حول قضية تحرير العبيد ، لكن " أبراهام لينكلن " قرر خوض غمار الانتخابات تلك السنة أملا في توحيد البلاد أو التقليل من حدة الإنقسام على أقل تقدير . ولقد ظهر كشعار للحزب الجمهوري لأول مرة في دعاية سياسية مساندة للينكلن في هذه الإنتخابات التي فاز بها فعلا، لكن الفيل لم يتحول إلى شعار سياسي للجمهوريين إلا عام 1870 عندما قام رسام الكاريكاتور الأميركي الشهير توماس ناست بالتعبير عن تذمره مما وصفه بخروج الحزب الجمهوري عن قيمه الليبرالية واختصر الحزب في رسم كاريكاتوري لفيل ضخم مذعور يحطم كل ما تطؤه قدماه كتب على جسمه عبارة (الصوت الجمهوري) ومنذ ذلك الحين تحول الفيل إلى شعار للحزب الجمهوري . وقال ناست إنه اختار الفيل الضخم للدلالة على كثرة المال لدى الجمهوريين إضافة إلى صوتهم الانتخابي الوازن . ويحظى الفيل الجمهوري باهتمام إعلامي بالغ في كل مناسبة سياسية في الولايات المتحدة وعلى رأسها الانتخابات الرئاسية ، ويعتني الجمهوريون كثيرا بتلوينه وتحديد معالمه الضخمة في اللافتات الإعلانية الخاصة بالحزب ، ويمكن لزائر العاصمة الأميركية واشنطن أن يقتني قميصا أو قدحا للقهوة أو حتى علاّقة مفاتيح عليها الفيل الجمهوري مقابل دولارات معدودة ، كما يحرص الجمهوريون على ارتداء القبعات الضخمة المطبوع على مقدمتها صور الفيل الملون بالأحمر والأزرق خلال تجمعاتهم الخطابية ، كما حصل خلال المؤتمر الأخير للحزب الذي انعقد في مدينة " تامبا بولاية فلوريدا " عندما هيمنت صور الفيل والأعلام الأميركية على ما عداها من الصور في قاعة المؤتمر . هذا هو الفيل وهذا هو الحمار في عنواننا واعتقد أنه لا يستهان بهما وهما يمثلان أكبر حزبين في تاريخ أمريكا واستمراريتهما حتى الآن يقول أن الشعب الأمريكي أصبح يقدسهما سياسيا ، وأصبح لكل حزب أنصاره الذين يساندونه ، وما أرجوه وأنا أتحدث عن هذه المساندة أن تكون مساندة تليق بهذا البلد الكبير وقد تربع على عرش العالم ، ولا تتحول هذه المساندة إلى فوضى تندس بينها كل العناصر الغريبة والفاسدة والتي لها ذيول مع الإرهاب وقد تكون هذه فكرتي أو مقصودي من المقال كله بعد ما حدث من احتجاجات على مقتل المواطن الأمريكي من أصل أفريقي على يد شرطي أحمق فاستغلها حزب الحمار سياسيا ليحارب بها حزب الفيل في الانتخابات القادمة القريبة ، إسلوب كنت ألا أفضل أن أراه في أمريكا العظيمة طوال حياتي . وهذا ما دعاني أن أكتب النصف الآخر تحت عنوان " داحس والغبراء " لأقول للشعب الأمريكي إحذروا أن يأتي اليوم الذي يكتب التاريخ عنكم أنكم انقلبتم إلى جاهلية تشبه جاهلية العرب ، ومن أجل أن يفوز حزب على الآخر تشتعل حربا يزكيها كما قلت الأشرار بأغراضهم المتنوعة ، ولكي أتحدث عن النصف الآخر من العنوان وأربطه بالنصف الأول ،  يجب أن نعود إلى الوراء كثيرا ، إلى جاهلية العرب أو عرب الجاهلية وهذا هو الأسم الذي يطلق على العرب قبل الإسلام ، والحكايات والروايات عنهم كثيرة ، واقتطفت هذه الواقعة لأبرز كيف أن عقل الإنسان " أي إنسان "  مهما وصل فكره يمكن أن يتحول فجأة إلى جاهلية غاشمة . " داحس" هو اسم حصان اصيل مشهور كان يملكه أحد وجهاء قبيلة عربية تدعى " قبيلة عبس " و" الغبراء " هو اسم فرس شهيرة كانت لأحد وجهاء " قبيلة عربية تدعى " قبيلة  ذبيان " ، وهاتان القبيلتان هما في الأساس أولاد عم  ، و " داحس والغبراء " هي حرب من حروب الجاهلية كانت بين هاتين القبيلتين وسميت باسم الفرسين لأنهما كانا السبب في نشوبها   . حرب استمرت لمدة أربعين " 40 " عاما  بين أولاد العم بسبب سباق الخيل " يا الله " ، حيث تحدى زعيم عبس بحصانه " داحس " زعيم ذبيان بفرسه " الغبراء " لسباق خيل وكان الرهان على مائة من الأبل ، وخلال السباق تقدم الغبرا " قبيلة ذبيان "  إلا أن داحس " قبيلة عبس " تفوق وكان على وشك الفوز في السباق ، إلا أن ذبيان كانوا قد نصبوا له كمينا واستطاعوا أن يحولوه عن مساره لتفوز " الغبراء "  بالغش وأعلنت قبيلة " عبس " الفوز ، وانكشف ملعوب " قبيلة ذبيان " فغضبت " قبيلة عبس " واتقد غضب الجهل فذبحت شقيق زعيم ذبيان ليبدأ الثأر وترد ذبيان فتذبح شقيق زعيم عبس ، لتشتعل حرباً هوجاء بين القبيلتين استمرت لمدة أربعين عاماً بين القتل والذبح بين أولاد العم ، قيلت خلالها الأشعار والحكايات وبطولات زائفة جاهلة . لقد أطلت في المقدمة ،  حتى أستطيع رسم ملامح وتوضيح ما أريد أن اوضحه لأنه يحمل الكثير من علامات الاستفهام والتعجب .

لا شك أن ما حدث ويحدث في أمريكا الآن والذي بدأ بمقتل المواطن الأمريكي الأفريقي الأصل " جورج فلويد " مختنقا تحت ركبة الشرطي الأمريكي ثم ما اندلع بعد ذلك من احتجاجات عصبية تحول البعض منها إلى النهب والسلب ، تسبب في " دروخة " فكرية لعقلي ، ووجدت صعوبة  شديدة لكي أعيده إلى اتزانه ، وفي حقيقة  الأمر حتى الآن لا أصدق أن ما حدث ويحدث أمامي في أمريكا وكأنني أشاهد قبيلتي عبس وذبيان وداحس والغبراء وحرب ضروس بسبب سباق بين فرسين فوق شاشة يلونها فيروس كورونا باللون الأحمر القاتم . لا شك أن ما فعلته ركبة الشرطي الأمريكي فوق عنق المواطن الأمريكي من أصل أفريقي فأزهقت حياته جريمة عنيفة لا أخلاقية بكل المقاييس مهما كانت تهمة هذا المواطن ومهما كان رد فعله لأنه كان يوجد عدد كاف من الشرطة يمكنهم التغلب عليه لو حاول المقاومة ، لكن أولا هو خطأ فرد سواء كان مقصودا أو غير مقصود ، وإذا تابعنا في كل بلاد العالم سنجد أخطاءً أيضا لبعض أفراد من الشرطة تماثلها أو تزيد عليها وخاصة في دول العالم الثالث ، وما سجله التاريخ في بلادنا أبان فترة حكم ديكتاتورية لهو كاف أن يسجل تاريخا دمويا للشرطة والأمن ، بالتأكيد لا أبرر خطأ الشرطي الأمريكي ، لكن فقط أقول أن ما حدث كان يمكن أن يعالج بالقانون نحو هذا الشرطي ، لكن الأمور ظهرت كأوضح ما يكون كتصرفات وسلوكيات هوجاء اختلط فيها الحابل بالنابل ولا يجوز أن يحدث هذا في مجتمع كالمجتمع الأمريكي لتسقط هيبته أمام العالم كله ، جهل كجهل قبيلة عبس وقبيلة ذبيان وقد يزيد وهما أولاد عمومة فتقاتلا أربعين عاما من أجل هزيمة فرس وفوز فرس سواء كان بالحق أو بالباطل ، هل ينزل الحمار الديمقراطي إلى هذا المستوى الضحل ويستغل الفرصة ليقاتل الفيل الجمهوري بأحط الأساليب التي تصاعدت من مجرد احتجاجات إلى سلوك مهين من السلب والنهب لمتاجر كبرى ، الأمر الذي قد حدث بالصدفة من تهور الشرطي فتح الباب على مصراعيه لتخرج الأحقاد وتتأجج من الحمار الديمقراطي نحو الفيل الجمهوري ، حزبان أمريكيان كبيران يتبادلان الحكم طوال قرون طويلة تسير بها الأمور إلى جاهلية أكثر من جاهلية العرب القديمة ، وتستخدم الأساليب الرخيصة من جانب نحو الجانب الآخر لإقصائه عن الحكم ، مما أتاح الفرصة لاندساس الإرهاب وتيارات لها أغراضها العدوانية نحو أمريكا ، هل يريد الحمار الديمقراطي أن يدخل أمريكا في معارك مثل داحس والغبراء بتأجيجه العداوة نحو الفيل الجمهوري مستغلا لبعض الظروف التي ليس للرئيس الأمريكي الحالي فيها لا ناقة ولا جمل ، من فيروس كورونا إلى تهور الشرطي الأمريكي ، ظروف كانت ستحدث في وجود أي رئيس أو حزب بغض النظر من هو الرئيس أو من هو الحزب ، هل يمكن أن تسقط عظمة أمريكا التي ينظر إليها العالم بكل احترام أو خوف أو حقد بسبب هذا التراشق غير المسئول ، ألا يجب أن يكون الجميع أكثر تعقلا وحكمة ، تُحَكم " بضم التاء وفتح الحاء " العقول والضمائر لتكون يدا واحدة للإبقاء على عظمة أمريكا ولا يستغلها الحاقدون كفرصة ، ولا يجد العدو ثغرة وأريكة يتكئ عليها للنيل من هذا البلد ، فمعظم القلاقل والاضطرابات والفتن التي تعصف بالغير من حولنا ، هي من مستصغر الإثارة والتأليب والتهيج والتراشق . يا معشر حزب الحمار كونوا حكماء وإلا فعودة للجهل وداحس والغبراء !!!!!!!! .                                           
 

************

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

**********************

 

 

​​

 

 

 

أخبار متعلقة :