حسنى حنا يكتب: النصوص الفينيقية في قره تبة.. صفحة من تاريخ

حسنى حنا يكتب: النصوص الفينيقية في قره تبة.. صفحة من تاريخ
حسنى حنا يكتب: النصوص الفينيقية في قره تبة.. صفحة من تاريخ

"إن شعباً أعطى العالم معجزة الأبجدية، يستحق مكان الصدارة في تاريخ العالم".

*شارل فيرولو

 

تعد الكتابة الفينيقية، من المصادر الأساسية لكتابة تاريخ الشرق القديم. وقد تم الكشف على الكثير منها، خاصة في المدن الفينيقية المنتشرة على الساحل السوري. من كيليكيا Cilicia شمالاً إلى صحراء سيناء جنوباً. وفي المناطق التي هاجر إليها الفينيقيون. على شواطئ البحر المتوسط وجزره. حيث أقاموا المستطونات وجعلوا منها مدناً ومراكز تجارية، وموانئ لسفنهم التجارية.

وتعد منطقة (كيليكيا) في شمال غرب سوريا. والواقعة اليوم ضمن الحدود التركية، امتداداً طبيعياً لبلاد فينيقيا Phoenicia من جهة الشمال. ويعتبرها هيرودوت أرضاً فينيقية (الكتاب 7 الفصل 9).

ومن المعروف أن الشعب الفينيقي، لم يخرج من أرضه فاتحاً أو محارباً. يل تاجراً وناشراً للثقافة والحضارة على شواطئ البحر المتوسط.

 

موقع قره تبة

تقع أنقاض موقع (قره تبة) الأثري، في الشمال الشرقي من سهل أضنة في تركيا اليوم. ومعنى الاسم هو (التلة السوداء) وهي ارتفاع (130 متراً) عن سطح البحر. فوق رافد أيمن لنهر سيراموس (جيحون) وهي تمتد على مساحة (80) الف متر مربع. في شكل بيضاوي بطول (430) متراً شمالاً- جنوباً، وعرض (190) متراً شرقاً-غرباً.

وقد كان أول من تنبه الى اهمية هذا الموقع، أحد المعلمين الأتراك وهو (أكرم خوجا) الذي لفت إليه أنظار علماء الآثار الأوروبيين، الذين باشروا التنقيب فيه منذ عام (1946).

 

نتائج الحفريات

كشفت الحفريات في هذا التل الأثري الهام، عن سور بيضاوي منيع، تتراوح سماكته بين المترين والأربعة امتار. تعززه أبراج مربعة، يبعد الواحد عن الآخر من (7-10) أمتار. ويبرز عن خط السور أربعة أو خمسة أمتار. وفي السور مدخلان رئيسيان، أولهما وهو الأسفل الى الشمال الشرقي وثانيهما هو الأعلى

وتحاذي السور من الشمال الشرقي، طريق صاعدة مرصوفة، تمر بين برجين حتى المدخل، حيث تصل بين أسدين، الى مجاز تحيط به من كل جانب صفائح او لوحات من حجر البازلت. منصوبة عمودياً. نقشت على بعضها أشكال ةمشاهد متنوعة ورقم والبعض الآخر رموزاً حثية، وأحرفاً كنعانية\ فينيقية.

ويؤدي هذا المجاز الى باب، تحرسه نقوش تشبه (أبي الهول) فينفرج عن بناء ذي جناحين. تزينه كذلك الصفائح الحجرية المنصوبة. وقد رقم النص الفينيقي في هذا المجاز، على سبع من تلك اللوحات متتالية.

أما المجموعة الثانية من النصوص الكنعانية\ الفينيقية فقد عثر عليها في جوار المدخل الثاني. الى الجنوب الغربي، وهو يبدو مقابلاً للأول. وشبيهاً به كل الشبه. تؤدي إليه طريق صاعدة مرصوفة تحاذي السورحتى الباب، حيث أسدان منحوتان نحتاً كاملاً في حجر البازلت إنما وجدوا محطمين. جمعت كسر أحدهما. وإذا بكتابة أبجدية فينيقية تكسو جسمه، برز مابقي من حروفها على سبعة اسطر. ثم يبدأ مجاز يحيط به من الجانبين عدد من الصفائح المنصوبة. بعضها منقوش بمشاهد متنوعة. والبعض الآخر مرقوم موزاً حتية. أو حروفاً فينيقية غير أنها تكسرت وتبعثرت فطمست معالمها. ويتابع المجاز طريقه بين أسدين آخرين. وينتهي الى بناء ذي جناحين ودار. وفي هذه الدار وجد تمثال رجل. هو تمثال الملك. منحوت في حجر البازلت أيضاً. ويكسوه رقم فينيقي في (79) سطراً على جهاته الأربع.

 

ملك الدانيين

هو (أزت ود) عبد بعل ملك الدانيين حكم في القرن الثامن قبل الميلاد في البلاد المعروفة الآن بأسم (كيليكيا) في جنوب بلاد الاناضول.. هكذا ورد اسمه محفوراً بالأحرف الصامته الخمسة (أزت ود) في ثلاثة من النصوص الفينيقية المكتشفة منذ سنة (1946) في موقع قره تبة.

وقد نشر عالم الآثار الفرنسي (موريس دونان) على دفعتين متتالتين في نشرة متحف بيروت السنوية النصوص الثلاثة وترجمتها وعلق عليها.

 

 

بلاد دانونا

تباينت الآراء في الدانيين اسماً وأصلاً. وقد كانت (دانونا) ضمن بلاد كنفان. كما ورد على لسان ملك صور، في أحدى رسائله المحفوظة في موقع تل العمارنة الأثري في مصر. إذ كان الكنعانيون قد استوطنوا سهول دانونا الخصبة، واستثمروها منذ مطلع الألف الثانية قبل الميلاد.

ومن المرجح أن الدانيين في قره تبة هم الذين فتح آشور ناصربال الثاني (883-859 ق.م) بلادهم الواقعة في الشمال الغربي من مدينة زنجرلي. وقد سماهم (دانونا) ولعل العالم (برندن) اعتمد هذا الشكل الآشوري قال عنه (دانيين) وكذلك فعل العالم الفرنسي (أندريه بارو).

 

ملامح من تاريخ المملكة

مهما يكن من أمر فإن (أزت ود) يعتبر أهم ملوك الدانيين وقد عاصر دون شك الملك الآشوري تغلات فلاصر الثالث (745-727 ق.م) وعلى الأقل في أواخر سنوات حكم هذا الملك .وكفاه فخرا أنه بنى مدينة (أزت ودي) نسبه لاسمه. أقامها حصناً منيعاً في وجه الآشوريين وسواهم من الاعداء. إبان حملاتهم المتتابعة التي انتهت بالقضاء على الدويلات المستقلة في بلاد الاناضول.

زلايخفى ما لهذه المدينة من اهمية استراتيجية. وهي تقفل مجاز الأناضول من جهة الغرب الى سهل أضنة، وتوازيها مدينة زنجرلي، في مراقبة المجاز الشرقي.

غير أن (أزت ود) لم يأت على ذكر الآشوريين بل نراه يفتخر بأنه حقق الصلح والسلام، بعد أن سيطر على الاضطربات في الداخل، وقهر في الخارج بلداناً قوية، في مشرق الشمس ومغربها، ولم يقهرهم احد من الملوك الذين كانوا قبلي".

ونفهم بهذه البلدان المشرقية، الممالك الآرامية الموالية للآشوريين. ومن أقواها مملكة زنجرلي نفسها، بعد أن ضعف فيها النفوذ الآشوري أثناء حكم شلمنصر الخامس (727-722 ق.م) الذي قضى سنوات حكمه منهمكاً بالأحداث الفينيقية، وثورة مدينتي صور وصيدا. وقد انتابت التحالفات التي قامت بين المماليك الآرامية في سورياـ عمليات مد وجزر. مهد لها امتداد النفوذ الاشوري باتجاه البحر المتوسط وازدهار دمشق وتزعمها الممالك الآرامية في سوريا منذ أواخر القرن العاشر قبل الميلاد.

 

مملكة الدانيين

قد يكون أحد المتزعمين الدانيين هو (أزت ودالأول) استفاد من البلبلة الناتجة عن حروب الآشوريين مع تحالف الممالك الآرامية. أو استعانة بعض ملوك الآراميين بالآشوريين ضد بعضهم. وتمكن من انشاء مملكة له في كيليكياـ ضمنت سهل أضنة الخصيب. وأخضع ملك زنجرلي وملك حماه بآن واحد.

 

الأحداث اللاحقة

قام (لولي) أو (إبل لولي) بنجاح في الجمع بين عرش صيد وعرش صور، موحداً فينيقيا الجنوبية في مملكة واسعة كما استرجع جزيرة قبرص من يد الآشوريين بعد أن عاد الى الثورة، فأسرع شلمنصر الخامس، وحاصره في صور ثلاث سنوات دون جدوى. وظهر الملك الآشوري سرجون الثاني (722-705 ق.م) الذي قهر تحالف الآراميين وأخضع دمشق، وأسقط مدينة السامرة في فلسطين وسبى أهلها الى نينوي وأزال مملكة اسرائيل من الوجود في السنة (722 ق.م) اما الملك سنحاريب (705-681 ق.م) فيفاخر بدوره ويعلن قائلاً: "نزعت من لولي ملك صيدون رتبته الملكية، وهو يدفع الجزية لجلالتي. وأخضعت يهوذا البلد البعيد، وأثقلت نيري على ملكها حزقياً"..

وقد لجأ لولي الى قبرص، ليتزعم منها المقاومة، حتى قضى فيها نحبه وقد بقيت صور البحرية صامدة، لاتخضع للآشوريين ثم نهض ابنه (عبدي ملكوتي) ونظم المقاومة موسعاً الأحلاف حتى كيليكيا، لكنه لم يقو على صد هجمات الملك الآشوري أسر حدون (681-779 ق.م) فهرب من صيدون المحاصرة الى قبرص سنة (678 ق.م) غير أن أسر حدون (صاده كالسمكه) كما قنص (ملك كيليكيا كعصفور) ونحن لانعرف من هو ملك كيليكيا في ذلك الحين. ولعله من أبناء أزت ود الثاني.

هذه صورة مقتضبة لما جرى في فينيقيا وسوريا الداخلية وفلسطين، منذ أواخر القرن العاشر قبل الميلاد. وخاصة في النصف الثاني من القرن الثامن ومطلع القرن السابع قبل الميلاد وهو عصر الملكين (أورك) و (أزت ود) من حوادث مضطربة ومتشابكة أحياناً.

 

نهاية مملكة الدانيين

من المحتمل أن تكون مملكة الدانيين. قد تم القضاء عليها من قبل الآشوريين، بعد أن أقام عليها الملك الآشوري (سنحاريب) حاكماً آشورياً الى أن قضى عليها نهائياً (أسر حدون) الذي دخل بلاد الأناضول، ونقش اسمه في مجاز زنجرلي ظهر فيه في وقفه النصر والمجد.

ونحن نرى في مجاورة الملك (أزت ود) للآراميين، وفي مكانة الفينيقيين وانتشار حضارتهم في العالم، دافعاً الى وضع النصوص باللغة الفينيقية، يضاف الى سائر الاعتبارات الدينية والسياسية. ومن أهمها، تبني الآلهة الكنعانية. وينسب (أزت ود) جميع النعم المتدفقة عليه، وعلى مملكته وشعبه الى فضل الاله (إبل) والاله (بعل) وسائر آلهة الفينيقييثن الآخرى.

 

منجزات أزت ود

إن منجزات أزت ود في بلاده عظيمة وكثيرة، سجلتها رواية واحدة في ثلاثة رقم متشابهة ومتماثلة، نقشت على اللوحات، وعلى تمثال الاسد. تبدأ بذكر اعماله الحربيه والعمرانية، وتنتهي باستنزال لعنات الآلهةـ على من يهدم الباب فيمحو اسمه. وذلك على النمط الذي كرسه رقم أحيرام Ahiram ملك جبيل في لبنان على ناوسسه الحجري الرائع، الذي يعود الى القرن (13 ق.م) أي انه قد سبق رقيم (أزت ود) بخمسة قرون.

 

كيليكيا أرض سورية

لقد أثبتت التحريات التي قام بها علماء الآثار، انتشار حضارة الفينيقيين في أرجاء البحر المتوسط. وانتقال آلهتهم الى شعوبه واعتماد اللغة الكنعانية (الفينيقية) أداة تفاهم عالمية، سجل بها الفينيقيون مآثرهم الجليلة، كي تنتقل الى اللاحقين والمعاصرين، الى أي عرق انتموا، وبأي لسان تكلموا.

إن اكتشافات (قره تبه) تعزر ماقاله العالم الفرنسي (كلود شيفر) في محاضرة له في (كوليج دي فرانس) في باريس، أن (كيليكيا) هي جزء من سوريا. وحول مادة (كيليكيا) تقول موسوعة (ويكيبيديا) الحديثة: "إن كلمة كيليكيا أتت من اليونانية (كليكيا) وهي منطقة من الأقاليم سورية الشمالية، جنوب الأناضول، على السواحل الجنوبية لتركيا اليوم.