فرانسوا باسيلي يكتب: لماذا اشتري نجيب ساويرس بيت نجم؟

فرانسوا باسيلي يكتب: لماذا اشتري نجيب ساويرس بيت نجم؟
فرانسوا باسيلي يكتب: لماذا اشتري نجيب ساويرس بيت نجم؟

في ديسمبر الماضي في الإحتفال بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بذكري خمس سنوات علي رحيل شاعر الفقراء أحمد فؤاد نجم أعلن البليونير نجيب ساويرس شراء البيت الذي كان يقيم فيه نجم قائلا .. 

اشترينا المنزل الذي عاش فيه (نجم) آخر مدة في حياته، وسنحوله إلى متحف باسمه، في المقطم

وكان نجم قد توفي في الثالث من ديسمبر 2013 عن 84 عاما بعد مشوار طويل وشاق سجن خلاله أكثر من مرة بسبب أشعاره التي كانت تنتقد الأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر بسخرية شديدة وكانت تنتشر بسرعة البرق بين الشباب خاصة منذ نهايات الستينات.

والعلاقة بين نجيب ساويرس وأحمد فؤاد نجم مدهشة حقاً، فساويرس بليونير معروف عالمياً وهو وأسرته من أشهر الأسماء في عالم المال والأعمال في العالم، بينما نجم لا يكاد يمتلك شيئاً، بل أن ساويرس وصف بيت نجم حين دخله لأول مرة قائلاً وهو يضحك، "دخلت البيت من الباب ومشيت خطوتين لقيت نفسي في الشارع تاني"، فالشقة صغيرة في احدي أزقة منطقة شعبية بجبل المقطم بالقاهرة،

 ومع ذلك فقد كان واضحاً أن ساويرس يحمل حباً وإعجاباً كبيراً لأحمد فؤاد نجم، بل أنه في حلقة من برنامجه الذي إستضاف فيه نجم علي مدي خمس لقاءات، سأله لو لم تكن ولدت أحمد فؤاد نجم فمن كنت تتمني أن تكون؟ فقال نجم لم أكن أتمني أن أكون غير نفسي، كما أنا الآن، فقال ساويرس في نبرة كادت أن تكون حزينة، لكن أنا كنت أتمني أن أكون نجم

لنجيب ساويرس إهتمامات ثقافية وسياسية واضحة، ولا شك أنه رأي في نجم شخصية رجل مبدع مثقف وفي نفس الوقت شعبي ولا يهتم بالمال ولا ما يأتي معه من زخارف وبهرجة وأكروبات إجتماعية طبقية، فهو رجل حر ومتحرر تماماً من هذه الأثقال الإجتماعية، ولأن نجيب ساويرس هو أيضاً رجل بسيط وتلقائي دافيء المشاعر وصادق الود فقد رأي في الشاعر الجريء البسيط نموذجاً مدهشاً للإنسان الحر الذي لا يقول سوي ما يفكر ويشعر به غير عابيء بأي اعتبارات إجتماعية أو سياسية. 

 

ولهذا كانت العلاقة بين البليونير وشاعر الفقراء هي فعلاً علاقة صداقة ومحبة حقيقية نمت علي مدي سنوات كثيرة واستمرت بعد وفاة نجم، فقد كان ساويرس يبكي وهو جالس يستمع للمتحدثين في الذكري الخامسة لرحيل نجم، وهي المناسبة التي أعلن فيها نجيب شراء بيت نجم لتخليده وتحويله علي متحف. ولقاءات ساويرس التي حاور فيها نجم موجودة علي اليوتيوب لمن يريد الإستمتاع بها.

 

أما أسباب إعجاب ساويرس بنجم فلعلها نفس ما أثار إعجاب المصريين جمعياً بالشعر المارق، فقد اعجبوا ليس فقط بشعره الجريء الكاشف اللاذع المعبر عما لا يقدرون هم علي قوله في الغالب، ولكنهم أيضاً اعجبوا بالرجل الشجاع الصادق البسيط الذي لا ينافق ولا يتظاهر ولا يتجمل، لقد عاش في صدق مدهش كصدق الأنبياء، رغم أن حياته كانت حياة رجل مزواج يقبل علي الحياة والحب والمرأة بنهم وبلا تحفظات، لكنه في نفس فالوقت رجل صادق فاضل لأن الفضيلة تعتمد أساساً علي الصدق ومعرفة الحق، وهي صفة نجم الأساسية، فهو إذن رجل فاضل رغم نمط حياته الذي قد يجعل البعض لا يدرك هذا.

 

وقد بدأت شهرة نجم عندما كتب بعد هزيمة 67 قصيدته اللاذعة التي إنتقد فيها فضحية الأداء العسكري والسياسي المهين الذي أدي إلي ما سمي بالنكسة، وفيها أيضاً إنتقد عبد الناصر الذي لم يكن أحد ينتقده في مصر كلها حتي بعد الهزيمة، وفيها يقول نجم 

………….

 

الحمد لله خبطنا / تحت بطاطنا / يا محلا رجعه ظباطنا / من خط النار / يا أهل مصر المحميه / بالحراميه / الفول كتير والطعميه / والبر عمار / والعيشه معدن واهي ماشيه / آخر أشيا / مادام جنابه والحاشيه / بكروش وكتار /

 

ح تقول لى سينا وما سيناشي / ما تدوشناشي / ما ستميت اوتوبيس ماشى / شاحنين أنفار / ايه يعني لما يموت مليون / أو كل الكون / العمر أصلا مش مضمون / والناس أعمار / الحمدلله واهي ظاطت / والبيه حاطط / في كل حته مدير ظابط / وإن شالله حمار / ايه يعني فى العقبه جرينا / ولا ف سينا / هى الهزيمه تنسينا / اننا أحرار / ايه يعني شعب ف ليل ذله / ضايع كله / دا كفاية بس اما تقول له / احنا الثوار / وكفايه اسيادنا البعدا / عايشين سعدا / بفضل ناس تملا المعده / وتقول أشعار / أشعار تمجد وتماين / حتى الخاين / وان شا الله يخربها مداين / عبد الجبار 

 

عندما كتب أحمد فؤاد نجم وغني الشيخ إمام هذا الكلام بعد هزيمة 67 لم يكن أحد في مصر ينطق بمثل هذا النقد الهائل والسخرية المريرة 

 

راح ذلك الشاب النحيل الاسمر خشن الصوت ثاقب النظرات يقارع أكبر سلطة في مصر وينافسها في القدرة على الوصول إلى قلوب الملايين بلا مذياع ولا تليفزيون ولا جريدة، وقف نجم وحده أمام النظام كله بألاته البوليسية والإعلامية الجبارة وانتصر عليها من داخل محبسه، لأن كلماته كانت صادقة وبسيطة وحميمة

تناصر الضعفاء المطحونين ضد الاغنياء والأقوياء والسلاطين

 

 

 

 هما مين وأحنا مين.. هما الأمرا

والسلاطين .. هما المال والحكم معاهم.. واحنا الفقرا المحكومين.. حزر فزر شغل مخك.. مين فينا بيحكم مين؟ إحنا السنة وأحنا الفرض .. إحنا الناس بالطول والعرض.. من عافيتنا تقوم الأرض.. هما الفيلا والعربية.. والنساوين المتنقية .. حيوانات استهلاكية.. شغلتهم حشو المصارين.. هما مين واحنا مين؟ .. إحنا الحرب حطبها ونارها.. وأحنا الجيش اللي يحررها.. واحنا الشهدا في كل مدارها.. منتصرين أو منكسرين.. هما مناظر بالمزيكة.. والزفة وشغل البوليتيكا.. ودماغهم طبعا أستيكة.. بس البركة في النياشين.. هما بيلبسوا آخر موضة.. وأحنا بنسكن سبعة في أوضة.. هما بياكلوا حمام وفراخ.. واحنا الفول دوخنا وداخ

 

في هذه القصيدة وغيرها، يمزج نجم بين النقد السياسي والاجتماعي.. ويرجع أسباب الهزيمة ليس فقط للإداء العسكري البائس الفاضح.. ولكن أيضا إلى فشل الشعارات السياسية في التحول إلى واقع اجتماعي، فالذين ينادون بالاشتراكية يرفلون في سيارات فاخرة لا يملكها الشعب. هما مناظر بالمزيكة .. والزفة وشغل البولتيكا.. فنقده ليس سطحيا يقف فقط عند الهزيمة العسكرية ولكن يغوص إلى أعماق ما يحدث ويقدم رؤية نقدية متكاملة لحالة مصر سياسيا وإجتماعيا وإنسانيا، وهو شاعر إنساني في المقام الأول وهمومه السياسية ليست سوى نتاجا لهمومه الإنسانية المعنية بكرامة الإنسان وحقه في الخبز والحرية والعدالة

 

وهو يعي دوره كصاحب كلمة لها رسالة مضيئة .. يقول: دور ياكلام على كيفك دور .. خلى بلدنا تعوم في النور.. إرمي الكلمة في بطن الضلمة.. تحبل سلمى.. وتولد نور.. يكشف عيبنا.. ويلهلبنا.. لسعة ف لسعة .. نهب نثور 

 

ولم يتخلى نجم عن دوره مع تغير النظام في مصر، واستمر في صراخه الناقد بعد رحيل ناصر ومجئ السادات، وتظاهر السادات بأنه يرسى قواعد دولة القانون، فكان يطارد المعارضين ويسجنهم ولكن كله بالقانون كما كان يصرح، وحول نيابة أمن الدولة إلى جهة إصدار وتقنين قرارات الإعتقال التي بها اعتقلوا نجم فقال في هذا: أنا رحت القلعة وشفت ياسين.. حواليه العسكر والزنازين.. والشوم والبوم وكلاب الروم.. يا خسارة يا أزهار البساتين.. عيطى يا بهية على القوانين.. واسمعي يا بلدنا خلاصة القول .. وبأقولك أهه وأنا قد اقول .. مش ممكن كده حيحول الحول .. على كده والناس يفضلوا ساكتين.. خليكوا فاكرين.. خليكوا شاهدين .. أنا رحت القلعة وشفت يا سين

 

ونجم مالوش كبير بمعنى أنه لا يهاب أحدا ويهاجم الكل، ويمكن أن يقسو في هجمومه ويستخدم لهجة سوقية، وهذه ليست سبة ولكنها وصف لاستخدامه لغة السوق، أو لغة الشارع. ونجم يفتخر بهذا فقد جاء من الحارة ومن بين الفقراء وقد توفي والده في صغره فتربى في ملجأ للأيتام قابل فيه عبد الحليم حافظ في الزقازيق عام 1936 ، ولكنهما كانا مختلفين طابعا وسلوكا، لذلك عمل عبد الحليم بعد ذلك كفنان مع الأبنودي- شاعر العامية الكبير الآخر- وليس مع نجم، ويجنح نجم إلى القسوة والسوقية في قصائده الهجومية خاصة عندما يهاجم المشاهير في الفن أو السياسة، وقد كان الرئيس السادات يسميه الشاعر البذيء، ولم يتورع نجم عن مهاجمة نجوم الفن والشعر في عصره مثل عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وصلاح جاهين.. وقد كانوا جميعا ينعمون بالشهرة والمال والمكانة الاجتماعية والتقدير الرسمي من الدولة ما عداه هو فقد حظى فقط بالشهرة ومحبة الناس ولكنه ظل فقيرا معدما وظل مطاردا مطرودا من الساحة الفنية الرسمية غير معترف به من الدولة فلا غرابة أن يشعر بالغبن والغضب على زملائه المشاهير من الشعراء والفنانين

 

 

ويعتبر نجم بأسلوبه الهجومي اللاذع وأحيانا البذئ تلميذا لبيرم التونسي الذي كانت له قصائد يسب فيها الملك فؤاد وزوجته نازلي والتي نفى بسببها إلى خارج مصر لسنوات طويلة.. فنجم من الجيل التالي لجيل بيرم من شعراء المصرية المرموقين، وهو الجيل الذي منحنا فرسان الشعر العامي الثلاثة صلاح جاهين والأبنودي ونجم

 

ويتخلى نجم عن لسانه اللاذع ويصبح رقيقا شفيفا حين يكتب مازجا الحب بالسياسة .. فيقول مخاطبا زوجته عزة بلبع (وقد تزوج قبلها وبعدها) في قصيدة بلدي وحبيبتي: الغرام في الدم سارح.. والهوى طار معزه.. والحنين للقرب بارح.. والنوى جارح يا عزة.. يا ابتسامة فجر هلت.. بددت ليلي الحزين.. يا ندى الصبح اللي سأسأ .. فوق خدودي الدبلانين.. بل شوقهم..صحى لون الورد فيهم.. يا نسيم الحب لما هب.. هز القلب هزة.. يا هوى الاحلام يا عزة.. الليلة دي جم خدوني يا ملاكي .. جوز تنابله ونص دستة من التيران.. كنت باحلم يا حبيبتي.. كنت باحلم بيكي إنتي.. كمموني يا حبيبتي .. كتفوني يا حبيبتي.. قوموني.. قعدوني .. كل شعره في جسمي.. بالعين فتشوها.. المخده من جنانهم شرحوها.. وانتهى التفتيش .. ما فيش .. صدقيني ما تخافيش .. هو فيه يا عزة عندي ممنوعات.. غير باحب الناس .. وباكره السكات. 

 

ولكن أعذب وأقوى أناشيده هي التي يغني فيها لمصر ولعلاقته بها .. أشهرها وأجملها حين يغنيها الشباب في الجامعات والمنتديات هي قصيدته بهية : مصر يامه يا بهية.. يام طرحه وجلابية .. الزمن شاب وإنتي شابه.. هو رايح وانتي جاية.. جاية فوق الصعب ماشية.. فات عليكي ليل وميه.. واحتمالك هو هو .. وابتسامتك هي هي.. تحكي للصبح يصبح .. بعد ليلة ومغربية.. تطلع الشمس تلاقيكي .. معجبانية وصبية .. يا بهية..

 

أما أجمل قصائده في وصف حالته فهي التي يقول فيها في مزيج من الشجن والعشق والشكوى والكبرياء: ممنوع من السفر .. ممنوع من الغنا.. ممنوع من الكلام .. ممنوع من الاشتياق .. ممنوع من الاستياء.. ممنوع من الابتسام.. وكل يوم في حبك .. تزيد الممنوعات.. وكل يوم با حبك .. اكتر من اللي فات..حبيبتي يا سفينة.. متشوقة وسجينة.. مخبر في كل عقدة.. عسكر في كل مينا.. يمنعني لو أغير ..عليكي أو أطير.. إليكي وأستجير.. بحضنك أو أنام.. في حجرك الوسيع .. وقلبك الربيع.. أعود كما الرضيع.. بحرقة الفطام..

 حبيتي يا مدينة.. متزوقة وحزينة.. في كل حارة حسرة .. وفي كل قصر زينة.. ممنوع من أن أصيح.. بعشقك أو أبات.. ممنوع من المناقشة .. ممنوع من السكات.. وكل يوم في حبك.. تزيد الممنوعات.. وكل يوم با حبك.. أكتر من اللي فات

 
هكذا كان الشاعر المارق المتمرد نجم .. الشاعر الذي بلا بيت لأن الوطن كله بيته، ولذلك لم يكن غريباً أن يقوم مصري وطني آخر هو نجيب ساويرس بشراء بيت نجم البسيط ليحوله إلي متحف تقديراً لمكانة الشاعر المصري الأكثر صدقاً وجرأة في التاريخ السياسي والأدبي لمصر