أخبار عاجلة
حريق ضخم يلتهم مبنى شاهقا فى البرازيل -
سامر الجمال.. مشوار ممتد مع «الكبير أوى» -

خالد منتصر يكتب: واحة الخرافة راحة.. وألق العقل قلق

خالد منتصر يكتب: واحة الخرافة راحة.. وألق العقل قلق
خالد منتصر يكتب: واحة الخرافة راحة.. وألق العقل قلق

الأكاذيب مريحة ووسادة الخرافة من ريش النعام، تهدهدك وتخدرك فتحلم أحلاماً سعيدة حتى وإن استيقظت على كارثة ووجدت أصابعك تحترق، فأنت ستظل تعشق أفيونها اللذيذ وطراوتها الحاضنة لأنها تلبى داخلك غريزة الكسل المزمن والحصول على المكسب السهل، العقل مجهد، يمنحك صدمة القلق فترتعش عضلة الفعل، وسادة العقلانية والعلم والمنطق مصنوعة من مسامير الفقير الهندى، توقظك وتقلقك وأنت خارج الكهف، تحميك من الضوارى والوحوش والهوام والحيات، استقرار الخرافة موت، وتوتر العقل حياة، التفكير بالتمنى هو أكثر الأوبئة انتشاراً فى مجتمعاتنا، يتفوق على الإنفلونزا والطاعون والكوليرا، يمنحك عالماً موازياً، يجعلك عنيفاً شرساً فى رفض المنطق العقلانى، تظل طوال حياتك فى معاناة من أرتيكاريا الواقع، التفكير بالتمنى كهف آمن، على جدرانه نفس الصور وذات النقوش، ممنوع فيه ساعات الحائط أو ثقوب نفاذ ضوء الشمس، فكلها أدوات تنبهنى إلى فضيلة التغيير التى أكرهها، التقدم والتحضر والحداثة لم تتحقق إلا بالخروج من كهف الأكاذيب المريحة والخرافات اللذيذة والأوهام المخدرة، الحلم مختلف عن التفكير بالتمنى، الحلم مستقبلى لكنك تعرف أنك عاجز فى الحاضر عن تحقيقه فتجتهد للتغيير، لكن التفكير بالتمنى هو اجترار ماضٍ سحيق وتخيل أن كل الإجابات المأخوذة من جراب أمنياتك هى الصحيحة، تعكسها على الواقع رافضاً أى إجابة أخرى تضعك فى مواجهة تحتاج جهداً للتغيير وتصدمك بأن الصورة ليست وردية كما تتخيل، تخرج من المسجد بعد الدعاء على اليهود وأنت منتصر فى حربك ضد إسرائيل، مكتفياً بعنف اللفظ هارباً من قسوة المنافسة، يحفزك الداعية ويستفزك لكى تنجب أكثر حتى ولو كان المصير هو الشارع حتى نباهى الأمم بأعدادنا الأرنبية فتطمئن أن الرزق يولد معهم كالتوأم الملتصق!، عالم التشريح حين ذهب إلى باليرمو ليفحص عظام القديسة «روزاليا» التى تشفى الأمراض وتحمى من الطاعون وتلبى دعوات المؤمنين وتحقق المعجزات، وجد أن تلك العظام تشريحياً هى عظام ماعز!، رفض أهل باليرمو كلام عالم التشريح الكافر المهرطق فقد كانت القديسة فضلاً عن معجزات الشفاء المزعومة تدر دخلاً سياحياً رهيباً لسكان باليرمو، نحن المسلمين استوردنا باليرمو القديسة ولم ننتبه لباليرمو عالم التشريح!، عندما واجه السكان الذين كان يحصدهم وباء الجدرى اللعين «إدوارد جينر» صاحب نعمة التطعيم ضد هذا الوحش الكاسر، واجهوه بكلام القديس أوغسطين الذى قال إن «جميع أمراض المسيحيين يجب أن تعزى إلى الشياطين، التى تعذب المسيحيين حديثى التعميد!!»، الأب المهدد بفقدان ابنه نتيجة الجدرى يصدق أوغسطين ويهاجم جينر!، كل هذا من أجل ألا تسقط قلعة الوهم، هل يمكنكم تخيل أن البابا «أربان الثامن» الذى كان وراء محاكمة وسجن جاليليو واعتبره عدوه الشخصى لأنه قال بدوران الأرض حول الشمس، هذا الذى لم يصدق علم جاليليو، هو نفسه تبنى معجزات المبشر «فرانسيس كسافييه» ومنحه لقب القديس لأنه حول الماء المالح إلى عذب وأوقف العاصفة بصليبه وأضاء المصابيح بالماء المقدس!، هو نفس المخ وكأنه يمتلك فصين، فص إسفنجى تتسلل إليه الخرافة بكل يسر وسهولة، وفص جرانيتى يقاوم العلم بكل عناد وصلابة، حتى الطاعون الأسود كانت الكنيسة فى القرون الوسطى تخدع أهالى الضحايا بأن العلاج هو منح أراضٍ أكثر لها، وأن غضب القديسين هو السبب، ففى عام 1680 كما يذكر برتراند رسل فى كتابه «الصراع بين العلم والدين» قيل إن سبب الطاعون هو غضب القديس سباستيان، وأحياناً كان علاج الطاعون هو قتل وإحراق اليهود، يذكر رسل أنه قد قُتل فى بافاريا اثنا عشر ألف يهودى وأُحرق فى ستراسبورج ألفان للخلاص من الطاعون!، وللتخلص من الطقس السيئ كانوا يحرقون أسبابه، وكانت تلك الأسباب قديماً ليست هى تكثف السحب أو تيارات الهواء أو حركة الرياح... الخ، إنما هى الساحرات، وعندما انزعج الملك جيمس الأول هو وزوجته من العواصف أثناء العودة من حفل زفاف فى أوسلو، لم يتعب عقله أو يجهد تفكيره، واتهم د.فيان الذى اعترف تحت التعذيب بأن الساحرات هن السبب، وعندما تراجع عن اعترافه، نزعت أظافره ووضعت فى أماكنها إبر حديدية، وأجبروه على ارتداء حذاء حديدى ضيق لتتهشم عظامه إلى قطع صغيرة، ثم أخذوه فى عربة إلى أدنبرة حيث خُنق ثم أُحرق!!، كل هذا لمجرد إرضاء غدة الخرافة وعدم شغل الدماغ فى بحث عن أرصاد جوية وتحليلات طقسية ونبوءات فلكية!، وراحة الخرافة فضلاً عن تحقيقها للذة التفكير بالتمنى، فهى أيضاً مريحة ولذيذة فى سريتها وشفرتها واحتكار البعض لبيعها وتسويقها وشرحها، كلنا يتخيل أن تهمة جاليليو هى تأكيد نظرية كوبرنيكوس فى دوران الأرض حول الشمس فقط، هناك تهمة ثانية غير مشهورة، وهى أنه قد ألف كتابه باللغة الإيطالية وليست اللاتينية!، كيف يؤلف بلغة الناس ولهجة الشارع؟، كيف يجرؤ أن يوصل المعلومة إلى الناس ويصبح العلم مستباحاً، وتنتزع سلطة المنح والمنع والشرح والتلغيز والتفهيم من رجال الدين!؟، أراد جاليليو عملياً بكتابه المكتوب بلغة لا تتعالى على قومه أن يحقق حلم فرانسيس بيكون فى تحطيم الأصنام الأربعة، صنم القبيلة وأن معتقدات جماعتى هى الحقيقة المطلقة، وصنم الكهف حيث معتقداتى الخاصة التى لم تخُض التجريب خارج كهفى الخاص هى الصدق المطلق، وصنم السوق حيث يرسخ الزيف عبر تواصل الحمقى الجهلاء، وصنم المسرح حيث يقف الملقنون على خشبته يزيفون وعينا ويمسحون أدمغتنا بحجة أنهم وسطاء السماء، لكن ناقوس اللاعقلانية كما قال «كارل ساجان» هو دائماً الأعلى صوتاً والأكثر جذباً، الخرافة راحتها أيضاً فى ادعائها المتبجح بأنها مطلقة تحمل العصا السحرية لحل كل المعضلات والمشكلات بمجرد ضغطة زر على كى بورد الأمنيات، يقول أجمل وأروع من بسط العلوم على كوكب الأرض «كارل ساجان» عن تلك الحقيقة المطلقة «يتوق البشر إلى الحقيقة المطلقة، يتطلعون إليها، وقد يزعمون، كما يزعم المنتمون إلى بعض الأديان، أنهم قد وصلوا إليها، لكن تاريخ العلم، وهو أنجح وسيلة للمعرفة متاحة للإنسان، يعلمنا أن أقصى ما يمكن أن نصبو إليه هو التحسين المستمر لفهمنا، وتعلمنا من أخطائنا، والمقاربة المستقلة للكون، على شرط أن نعلم أن اليقين المطلق سيهرب منا دائماً، سوف نستمر فى الوقوع فى الأخطاء، لكن ما يستطيع كل جيل أن يأمله هو خفض هامش الخطأ قليلاً»، إننا فى هروبنا من مواجهة الواقع بالعلم النسبى والارتماء فى أحضان الأفكار المطلقة والخرافات المريحة، مثلنا مثل الجندى الذى يهرب من رصد طائرات ورادارات الأعداء بارتداء نظارة سوداء!، نسبية الأفكار تنقذك من رصاصات الموت فى غابات التخلف وتحميك من الانقراض، عش حياتك بالحقيقة التقنية التجريبية النسبية لا المطلقة، اترك يقين التأكيد لصالح الترجيح، اجعل مرجعيتك الملاحظة وليس ما يُصَب فى أذنيك وعقلك من نصوص تصدقها لمجرد أن قائلها قرر أن يصبح عاطلاً ليتفرغ لمهمة هدايتك ويتكسب من تأنيبك وتذكيرك الدائم بأنك مجرد حشرة مصيرها الحرق فى أتون المذنبين، وهو بالطبع من لديه تحديد هؤلاء المذنبين، وعندما فشل زرع إحساس الذنب المزمن لأهل أوروبا فى جعل المؤسسة الدينية محمية من سهام النقد، اضطرت تلك المؤسسة إلى الاعتذار تلو الاعتذار، والتنازل تلو التنازل، تارة لمارتن لوثر الذى سحب السلطة منها، إلى تقديم الاعتذارات لجاليليو وداروين، وكما وصف برتراند رسل تلك الاعتذارات والتنازلات بأن الدين قد سلم حصونه الأمامية لكى تظل القلعة سليمة، ومؤكداً فى كتابه «الصراع بين العلم والدين» بوصف أدق وأعنف ما كان يحدث من الكنيسة وقتها على أنه «جهل منظم يمنح رائحة طهارة للأخطاء التى ما كان ينبغى أن تحيا فى عصر متنور»، المعركة الآن ضد الجهل والتخلف أكثر صعوبة لأن القلعة صارت حصونها ومتاريسها تستخدم أكثر أساليب وتقنيات العصر تقدماً لنشر أكثر الأفكار رداءة وفاشية وتدميراً، المعركة صعبة لكن التاريخ يؤكد أنها محسومة لصالح التنوير.