إدوارد فيلبس جرجس يكتب: هم مع الروبوتات ونحن مع التوكتوك

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: هم مع الروبوتات ونحن مع التوكتوك
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: هم مع الروبوتات ونحن مع التوكتوك

سألني صديق بجريدة الأهرام ، وأنت على أرض الوطن ما الذي لفت نظرك هذه المرة عن المرة السابقة ؟ ، قلت له أشياء كثيرة ، ربما يكون التوكتوك هو أبرزها بالرغم من وجوده منذ فترة طويلة ، لكن هذه المرة أحسست أنه على وشك أن يعلن استقلاله عن باقي وسائل المواصلات ليُنشأ جمهورية التوكتوك المستقلة !!! ، التوكتوك في نظرى يرمز  لشئ ما ، أو لعدة أشياء مبهمة تتداخل مع بعضها ، وكلما رأيته وهو يتسابق في الطريق بطريقة جنونية ، تندفع إلى رأسي العديد من الأسئلة وعلامات الدهشة ، وأقول الطريق ، لأنه في الأول كان يسير على استحياء داخل الحواري الضيقة ، ثم ذهب الحياء وأصبح يتسابق في الشوارع الجانبية ، ثم حلت البجاحة أو الاستهانة فأصبح ينافس باقي وسائل المواصلات في الطرق المتسعة وأنا أؤيده طالما الرقابة أصبحت ترقص رقصة زوربا اليوناني .

ما دفعني لأن أتناول هذا الموضوع ، وحرك قلمي وكان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير ، ذلك الحادث البشع ، الأب مع ابنته يستقل توكتوك ، الطفلة رأسها تبرز خارج التوكتوك ، توكتوك آخر كالعادة أراد أن يتسابق مع زميله فأطاح برأس الطفلة ، كلمة بشاعة بالتأكيد لا تكفي لوصف هذا الحادث الدموي الذي راح ضحيته طفلة . الموضوع بالنسبة لي يحمل ألف وجه ووجه ، وكلها ممسوخة ، تحالفت مع  اللاواقع الذي أصبح يسود المجتمع ، ولا غموض في كلمة مجتمع ، أعني مجتمعنا ، أعني مجتمع وطننا ، أعني المجتمع المصري . وعندما أكون في مصر ، وأكتب عن أي شئ آخر غيرها، وأغمض عيني عن مشاكلها ، أكون مثل الفلاح " عواد " الذي باع أرضه ، وغنى له أهل القرية ، عواد باع أرضه ، شوفوا طوله وعرضه ، واستحق جرسة مهينة ، وأنا لا أريد أن يودعوني حتى باب المطار بجرسة مثلها.

قد تكون كلماتي بها بعض المبالغة ، لأنني دائماً أكتب عن كل ما يتعلق بالوطن سواء كنت في أمريكا أو فوق أرضها ، لكن الكلمات التي تُكتب وأنا في حضنه تختلف بالتأكيد عن غيرها ، الواقع يختلف عن الخيال ، واللمس والاحتكاك له مصداقية أكبر ، وما لمسته هو اللامعقول ، اللامعقول في أشياء كثيرة والذي جر معه اللامعقول في الأخلاقيات والضمائر والسلوكيات ، وبالرغم من وضوح كلمة " اللامعقول "  فأنه قد يتطلب الأمر  الشرح والتفسير فقد يكون البعض لا يزال لا يفهم سوى الهيروغليفية وخاصة من يجلسون على كراسي المسئولية ، اللامعقول هو عكس المعقول  .

فما هو المعقول ؟ وما هو اللا معقول ؟ ، المعقول هو الشيء أو الفعل الذي يقبله العقل حتى لو كان ليس في المستوى المفروض ،  فالطبيب مثلا وظيفته معالجة المرضى وأن يكتب لهم الدواء الصحيح ، وقد يكون ليس في مهارة غيره من الأطباء ، لكنه يسير في نطاق المعقول ولا يتجاوزه بأن يخرج المريض من تحت يده جثة هامدة !!!.

أما اللامعقول فهو أن يتخطى الشئ أو الفعل الحد الأدنى للمفروض ، ويصبح خارج حدود الفكر السليم أو الفعل المنضبط . ونمضي مع اللامعقول الذي أصبح سائداً في مجتمعنا ، بل ليس في مجتمعنا فقط ، لكن في كل مجتمعاتنا العربية ، فإن كان لا يوجد بها التوكتوك وهو الرمز الذي اتخذه لكل ما هو منافي للمعقول ، لكن يوجد بها توكتوك من نوع آخر ، كلها تصب في لا معقولية الفكر والمنطق وحشر الدين أو العقيدة مع كل عطسة يعطسها الإنسان في حياته اليومية حتى لو كانت  نتيجة للتعرض للبرد ، لكنها لا تمر مرور الكرام ويُحشد لها ألف فتوى وفتوى ، أهمها ما يتعلق بالحرام والحلال والمفروض وغير المفروض والجنة والنار ، وكما يتسابق التوكتوك في الشوارع يتسابق أيضا في دهاليز العقول لتُصبح في حالة من الفوضى يُرثى لها.

وحتى لا يفقد القلم توازن الكلمة  دعونا ننتقل إلى الجانب الآخر ونبتعد قليلا عن توكتوك الطريق وتوكتوك العقول المصابة بالتكتكة ،  دعونا نذهب إلى الجانب المشرق للعقل البشري الذي نفتقده ولا نحترمه حتى من باب المحاولة ،   دعونا نتحدث عن الروبوت وجمعه روبوتات ، ولا بأس أن نعود إلى التوكتوك ثم نعرج ثانية إلى الروبوتات لنضع العقول فوق ميزان العدل ليحكم دون محاباة ، فالموضوع يدور بينهما والأصح يدور بيننا وبين العالم الآخر المتقدم والمتفتح والمعقول واللامعقول  ، فالعالم مشغول هذه الأيام بالبحث عن الكيفية التي يتم بها توظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي بشكل يعظم الاستفادة من إيجابياته ويقلل من مخاطر تهديداته للوجود البشري ، ولتصور البشر عن أنفسهم باعتبارهم صناعاً للحضارات وحراسا للقيم الإنسانية ، العلماء بشتى أطيافهم منقسمون حول حساب الفوائد والخسائر الناجمة عن إطلاق طاقات البحث العلمى فى هذا المجال الشائك ، فالفريق المؤيد لاستمرار الاعتماد على الروبوتات فى جميع المجالات، لديه من الحجج والأسباب ما يدعم موقفه ، وكذا الفريق المعارض ، _ لكنهما معا_ وأتحدث هنا عن بلدان العالم الأول- فهما متفقان حول استمرار البحث العلمى فى هذا المجال.

فى المقابل، كيف نرى نحن تطبيقات الذكاء الاصطناعى؟ وهل البحث العلمى المصرى والعربى يستثمر فى تطبيقات الذكاء الاصطناعى؟ يعنى هل لدينا مصانع ومستشفيات وشركات استطاعت تطوير روبوتات للقيام بأعمال دقيقة مثل مصانع السيارات فى ألمانيا أو جراحات غاية فى الدقة مثل بعض مستشفيات اليابان؟ وهل نحن مهتمون أصلا بهذا المجال البحثى؟ وبأى نسبة نشارك العالم فى الأبحاث المتعلقة بهذا المجال؟ وهل يحق لنا أصلا التعامل مع نتائج هذه التطبيقات بإصدار الأحكام أم أننا سنحول تطبيقات الذكاء الاصطناعى إلى مجرد سلع استهلاكية ، نقيمها وفق حاجتنا باعتبارنا مستهلكى إنتاج الدول المتقدمة فقط ؟ .

منذ عدة أشهر أتى إلى مصر " الروبوت صوفيا " ، وطرأت على ذهنى الأسئلة السابقة ، بعد الفتاوى المتوالية الصادرة بتحريم الروبوتات الجنسية ، وبعد المعركة الزائفة التى دخلها علماء دين من دار الإفتاء والأزهر الشريف وحتى مشايخ الجماعات السلفية وغيرها من بؤر التطرف ، والغريب أن جميع رجال الدين على اختلاف توجهاتهم لم يتعرضوا إلى مجال الذكاء الاصطناعى ومختلف تطبيقاته فى الصناعة والطب والهندسة وحتى التصميمات الفنية، بل لم يشغلهم ، سوى الروبوتات الجنسية ،  ثم تولوا إصدار الفتاوى التى تصور مراكز تصنيع هذه الروبوتات على أنها تريد تهديد ديار الإسلام بها ، بالرغم أن التهديد الأقوى هو من الفتاوى التي تطلق على كل ما يتعلق بالجنس والزيجات المختلفة التي أصبح بعض دعاة الفضائيات يحللونها وهي أقرب إلى الزنا وليس الزواج الحلال.

حتى لو تركنا التوكتوك المخالف لكل القوانين يمرح في الطريق تحت سمع وبصر من يدعون المسئولية ، لكن لا يجب أن نتركه يمرح بين دهاليز عقولنا ، وأن نسأل أنفسنا  ، وتتبع الأسئلة خطوات فى سبيل الفهم ، لماذا نلجأ دائما لعلماء الدين للتصدى للمجالات الإنسانية والحضارية التى لا نسهم فيها بشىء؟! ، لماذا ندفعهم للتصدى بختم «الحلال والحرام» إلى كل ما يشعرنا بالنقص والتخلف والمهانة؟ نعم مهانة أننا لا نسهم فى سجل المدنية والحضارة ، وأننا عالة على مجموعة من البلاد المتقدمة فى البحث العلمى والتكنولوجيا والتصنيع، ولماذا لا نتعامل مع منتجات العلم والتكنولوجيا مثلما فعلت كوريا واليابان منتصف القرن العشرين؟ هل لدينا كمجتمعات مرض عضوى أو نفسى يحول دون استيعابنا البحث العلمى والتكنولوجيا؟! أقصد لماذا لا نتعامل مع البحث العلمى والتكنولوجيا من خلال الجهات المختصة عندنا، ولدينا هيئات للبحث العلمى ومراكز قومية للبحوث ووزارة مختصة بالصناعة ومراكز للتكنولوجيا وأقسام للبحث داخل الجامعات ومراكز لتسجيل براءات الاختراع !!. هل تتخيلوا أن عددًا من الدول الأوروبية فى مقدمتها بريطانيا تعتبر أنها متخلفة فى بحوث الذكاء الاصطناعى وتطبيقاته ، وترى أن الولايات المتحدة تسرق شباب الباحثين الأوروبيين فى هذا المجال، لأن التقدم فيه والتوصل إلى تطبيقات جديدة فى الطب والصناعة والأمن يعنى توفير مئات الآلاف من الوظائف وتحقيق السيطرة فى المجال الصناعى والتكنولوجى لعقود، فهل يليق بنا والصراع على هذا النحو بين الدول الكبرى عن الباحثين فى مجال الذكاء الاصطناعى أن يكون حالنا مثل حال العلماء المصدومين بالأسلحة المتقدمة لجنود الحملة الفرنسية، والذين لم يفعلوا سوى الهتاف «يا خفى الألطاف نجنا مما نخاف»؟! ، وهل يليق بنا أن نبتذل مجالا علميا بكامله لنحصره فى تطبيق واحد هو الروبوتات الجنسية، ثم نبتذله مرة ثانية لنحصره فى دائرة الحلال والحرام؟ ما أهوننا على العالم وما أهوننا على أنفسنا . منذ فترة علمت أن أحد الأصدقاء بأمريكا ، أُجريت له عملية جراحية خطيرة استمرت عدة ساعات بواسطة الروبوت ، كما جاء في حديثه شخصياً على الفيس بوك ، وفي الحقيقة كم أحسست بالعجب ، كم أحسست بالزهو أن العقل البشري وصل إلى تصنيع مثل هذا الروبوت الذي يستطيع أن يتجول في أخطر المناطق في جسد الإنسان ، كم أحسست بالمهانة ونحن لا نزال في خيال الأعضاء الجنسية حتى لو كانت في روبوت ، بالضبط كما لا نزال لا نعرف كيف نتحكم في مركبة صرصارية تسمي التوكتوك وتركها أصحاب الشأن تهدد الأمن ولا تفسير لهذه المهزلة إلأ أنهم استمرأوا أن يجري التوكتوك في دهاليز عقولهم ويمرح بها ويفسرون الأمر بأنه  لا يمكن التخلص منها إلا بجلسة زار وكودية وأشتاتا أشتوت !!! . ولماذا نبتعد كثيرا عن الواقع ؟ ، هناك تتحرك الروبوتات في غرفة العمليات لتستأصل الأمراض ، وهنا كان أول قرار لوزيرة الصحة الجديدة أن يعزف السلام الجمهوري كل صباح داخل المستشفيات ويقسم الأطباء قسم المهنة ، هل هو روبوت من نوع جديد لا يقوم بمهامة الطبية إلا على صوت السلام الجمهوري والخطوة العسكرية ، أم أن وزيرة الصحة رأت أن تبدأ عملها بما يلفت النظر كما جرت العادة مع كل الوزراء في مصر منذ عهد نوح وحتى الآن !!! .

حقيقي منذ هبطت من الطائرة وحتى الآن لا يمر يوم إلا واكتشف إننا أصبحنا نسير في اللامعقول ، هل ارتفاع الأسعار المخيف أثر على كل شئ ، فترك الناس المعقول وذهبوا إلى اللامعقول ، أم أن التوكتوك أصبح هو العقل المفكر والمسير للأمور ، تخيلت ولماذا لا أسرح مع الخيال بأن كل التكاتك في بلدنا وقد تحولت إلى روبوتات في جميع المجالات ، حتى الجنسية منها ، ولماذا لا ؟! ، علينا أن نتحول من فكر اللامعقول إلى المعقول ، وكفانا من العقول الظلامية التي قد تحرمها على الآخرين وخفية تحللها لنفسها  !!!!!!!!!!!!.                                                       

من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر .

********************** ****************

أُمسكت " بضم الألف "  المرأة في زنا ، وأحضروها إلى السيد المسيح له المجد ، ليحكم عليها كما جاء بالناموس وهو الرجم ، ربما كان اختبارا للسيد المسيح إن كان سيطبق الشريعة أم لا ليشتكوا عليه ، وتعامل السيد المسيح مع الموقف بمنطق الرحمة وإعطاء الفرصة للتوبة ، فالذين أمسكوها هم أنفسهم يغوصون في الخطيئة ، وجاءت مقولة السيد المسيح كتوبيخ لهم  " من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر " ، فانسحب الجميع لأنهم يعلمون ما بداخلهم ، ولم يوقع السيد المسيح عليها أي عقاب ، لكنه طالبها بالتوبة ، وتابت بالفعل وأصبحت إمرأة صالحة .

ليست قصة لكنها واقعة تقود إلى التفكير ، مع الأحداث الحالية في دير أو بعض الأديرة ، وقد انطلقت الألسنة وبعض القنوات التلفزيونية المتخصصة في الصيد في الماء العكر تهلل وكأنها نهاية العالم أو أن العقيدة المسيحية قد انتهت لمجرد أن راهباً في أحد الأديرة قد أخطأ ، وحتى لو كان اثنان أو ثلاثة أو للمبالغة دير بأكملة ، كل هذا لا يمس أو يجرؤ أن يمس العقيدة .

الراهب إنسان اختار طريق الرهبنة للابتعاد عن العالم والتفرغ للعبادة ، لكنه هو أولا وأخيراً مجرد إنسان قابل للخطيئة كغيره من البشر إن فتح أذنه لغواية الشيطان ، وكم من الأنبياء أخطأوا وعادوا إلى التوبة ، وكم من البشر الذين عاشوا الحياة بكل ما فيها من خطيئة ثم تابوا وارتقوا إلى مرتبة القديسين ، وهل لمجرد أن يخطئ راهب أو أكثر أن الدير بأكمله أو الأديرة كلها  قد أصبحت مرتعا للخطيئة ،  إن الأديرة الآن علامات مضيئة على أرض مصر ، ومثال للإنسان الذي كرس نفسه لله وفي نفس الوقت لم يصبح عالة على أحد ، بل امتدت يده لإصلاح الصحراء وتحويلها إلى  أماكن إنتاجية تخدم البلد ، وفي نفس الوقت تصبح حياة الراهب موزعة بين العبادة والعمل المفيد والذي يخدم الآخرين ، وكم من البشر أصبحت المقاهي هي الشغل الشاغل لهم وألهتهم حتى عن نداء العبادة ، وكم من البشر تحت عمامة الدين ارتكبوا كل الفواحش ، وأصبح هدفهم الوحيد هو السير بالمجتمعات إلى الظلامية ، إن من يهللون وتجعجع حناجرهم بكل وقاحة لمجرد أن راهبا أخطأ وحولوا الموقف كله إلى طعن في العقيدة أقول لهم : أخرجوا الخازوق الذي في عينكم قبل أن تخرجوا العود الذي في عين الآخرين ، ومعذرة إن كنت خرجت عن مقولة أخرج الخشبة التي في عينك قبل أن تخرج العود الذي في عين أخيك ، لأن هؤلاء بالفعل في عينهم خازوق ممتد في الطول والعرض ، ولو بحثنا عن حقيقتهم لحق عليهم الرجم  بجبل كامل من الأحجار ، لأن زناهم لا يتوقف ، وأصبحت الحياة كلها بالنسبة لهم عورات ونصف سفلي للمرأة ، يدعون الناس بغض النظر والتعفف عنه وهم غارقون فيه . المثل يقول : رحم الله إِمرئ عرف قدر نفسه وهم لا عرفوا قدر أنفسهم ولا حتى طلبوا الرحمة ، ينتظرون دائما أن يخرجوا ما بداخلهم من قهر بعد أن فاق بهم الجميع ونبذهم المجتمع .

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com